القدّيس أغسطينوس
الاعترافات
الكتاب السّابع
|
||||||||||||||||
7- الكتاب
السّابع 7-1 تصوّره لله
1 كان شبابي
المليء شرورا
وآثاما قد مات،
وبدأت سنّ الكهولة،
وبقدر تقدّمي
في العمر تزداد
خزيا تفاهتي أنا
الّذي لم أكن أستطيع
تمثّل أيّ جوهر
إلاّ ما يرى بهذه
العيون. لم أكن
أتمثّلك اللّهمّ
في صورة الجسم
الإنسانيّ منذ
بدأت أسمع نتفا
من الحكمة، وقد
نبذت هذه النّظرة
باستمرار وكنت
أجد فرحة كبرى
لاكتشاف هذا الموقف
في عقيدة كنيستك
الكاثوليكيّة
أمّنا الرّوحيّة.
لكن لم يتمّ لي
تكوين فكرة بديلة
عنك. كنت أجتهد،
أنا الإنسان،
وأيّ إنسان! إلى
تمثّلك أنت الإله
العظيم الحقّ
الأحد، ومن صميمي
أومن بأنّ لا فساد
ولا سوء ولا تغيير
يدركك، إذ كنت
أرى عين اليقين
وإن جهلت من أين
وكيف أنّ ما يدركه
الفساد أدنى مقاما
ممّا لا يدركه
الفساد، وبدون
تردّد أقدّم ما
لا يمكن المساس
به على ما يمكن
المساس به، وأرى
المنزّه عن التّغيير
أفضل منزلة ممّا
يطاله التّغيير.
كان قلبي يحتجّ
بشدّة على كلّ
أوهامي فأحاول
جاهدا أن أطرد
بعيدا عن مرأى
فكري دفعة واحدة
حشد أخيلة الرّجس
المحوّمَ حولي.
فما تكاد تبرحني
حتّى تكرّ متجمّعة
في طرفة عين وتنقضّ
على بصري فتغشّيه،
وأجد نفسي رغم
رفضي تمثّلك في
صورة إنسان، مضطرّا
إلى تصوّرك جوهرا
حسّيّا متمكّنا،
حالاّ في العالم
أو منتشرا كذلك
خارجه إلى ما لا
نهاية له: ذلك هو
الكائن المنزّه
عن الفساد والنّقصان
والتّغيير الّذي
كنت أراه أشرف
ممّا يدركه الفساد
والنّقصان والتّغيير.
فما أجرّد من البعد
المكانيّ كان
في نظري عدما،
بل عدما مطلقا،
لا مجرّد خواء
كما هو الشّأن
حين ننقل جسما
من مكان ما، فيبقى
المكان مُفرغا
من كلّ جسم يابس
أو رطب أو لطيف
كالهواء أو السّماء،
ويبقى مع ذلك خلاء
خاليا، بمثابة
عدم امتداديّ*.
2 هكذا غلظ قلبي
وفاتني أن أنظر
إلى ذاتي: كلّ ما
لا يمتدّ في المكان،
سواء كان منبثّا
أو متكثّفا أو
منضغطا أو مخلخلا
فيه أو شاغلا أو
قادرا أن يشغل
حيّزا من هذا القبيل،
كان في نظري محضَ
عدمٍ. فشبيهة بالأشكال
الّتي اعتادت
عيناي أن تسرح
فيها الصّورُ
الّتي كان ذهني
يسرح فيها وغاب
عنّي أنّ هذا الذّهن
الّذي به أكوّن
مثل تلك الصّور
هو ذاته من طبيعة
مختلفة، وما كان
حقّا ليستطيع
ابتداعها لو لم
يكن جوهرا من طبيعة
أشرف. كذا كنتُ
أتصوّرك، أنت
الحياة الّتي
منها أستمدّ حياتي،
جوهرا عظيما حالاّ
في الفضاء اللاّمحدود
متخلّلا كيان
العالم الحسّيّ
كلّه، وممتدّا
فيما وراءه في
كلّ اتّجاه عبر
الخلاء اللاّمتناهي،
بحيث تحويك الأرض،
وتحويك السّماء،
وكلّ الأشياء
مشتملة على جوهرك
اللّطيف وتجد
فيك منتهاها،
وأنت بعكسها لا
حدّ لك ولا منتهى.
وكما يشفّ جسم
الهواء الممتدّ
فوق الأرض لنور
الشّمس فلا يقاوم
ولوجه فيه ونفاذه
عبره دون أن يكسره
أو يمزّقه بل يتخلّله
ويملأ كلّ أجزائه،
صغيرها وكبيرها،
كذلك كنتُ أتصوّر
كتلة السّماء
والهواء والبحر
وحتّى الأرض قابلة
لتنفذ فيها وتتخلّل
كلّ أجزائها من
أقصاها إلى أدناها،
بحيث تلتقط كلّها
كيانك، ومن ثمّة
تسيّر نفحتُك
الخفيّةُ من الدّاخل
والخارج كلّ مخلوقاتك.
ذاك كان تصوّري
لعجزي عن تكوين
فكرة أخرى وكان
غالطا. ففي تلك
الحال سيحتوي
الجزء الأكبر
من الأرض جزءا
منك أكبر والأصغر
أصغر، وتمتلئ
بك كلّ الأشياء
فيحمل جسم الفيل
منك قبصة أكبر
ممّا في جسم العصفور
لأنّه أضخم حجما
ويحتلّ حيّزا
أكبر. وهكذا تكون
قد وزّعت ذاتك
كِسرا بين أجزاء
العالم، كبرى
لأكبرها وصغرى
لأصغرها. والحال
أنّ الحقيقة خلاف
ذلك، لكنّك لم
تكن بعد قد أنرتَ
ظلماتي. 7-2 بطلان الفكرة
المانويّة عن
صراع الشّرّ والخير
الأعظم 3 كان اللّهمّ
يكفيني للتّصدّي
لأولئك المضَلّين
المضِلّين والحِدّيثين
البكم- فليس كلمتك
هو الّذي ينطق
من أفواههم-، كان
يكفيني الاعتراض
الّذي اعتاد مواجهتهم
به نبريديوس منذ
زمان طويل يعود
إلى أيّام قرطاج
فتهتزّ لدى سماعه
قناعاتنا: "ماذا
يستطيع أن يفعل
لك جنس أملاك الظّلام
الّذي اعتادوا
أن ينصبوه بمواجهتك
ككتلة معادية
إن أبيْتَ مجابهته؟"
إن أجابوا بأنّه
يستطيع أن يسبّب
لك ضررا ما كنتَ
والحال تلك عرضة
للتّأثّر بغيرك
والفساد؛ وإن
قالوا إنّه عاجز
عن إلحاق أيّ أذى
بك لم يعد يوجد
أيّ سبب للصّراع،
صراعٍ يختلط فيه
جزء منك وعنصر
أو فرع من كيانك
بقوى معادية وكيانات
لم تخلقها فيفسد
ويتدنّى إلى حدّ
الانحدار من السّعادة
إلى البؤس والاحتياج
إلى العون لانتشاله
وتنقيته. ذلك الجزء
في زعمهم النّفس
الّتي أتى لإنقاذها
كلمتك حرّا وهي
في الأسر، نقيّا
وهي في الرّجس،
صحيحا وهي في الفساد،
لكنّه قابل هو
أيضا للفساد لأنّه
وإيّاها من جوهر
واحد بعينه. لذا
إن زعموك، أيّا
كنتَ وكان جوهرك
الّذي هو ذاتك*،
منزّها عن الفساد
فأقوالهم كلّها
باطلة ومنكرة،
وإن زعموك قابلا
للفساد فذاك من
أوّل وهلة خطأ
وإدّ منكر. كان
يكفي إذن هذا البرهان
ضدّ أولئك الأفّاكين
الّذين كان يجب
أن أتقيّأ بأيّة
طريقة أباطيلهم
الجاثمة على صدري،
إذ لم يكن لهم من
مخرج سوى الكفر
بقلوبهم وألسنتهم،
بتفكيرهم وقولهم
تلك الأباطيل
عنك. 7-3 سرّ وجود الشّرّ
4 لكنّي وإن
كنتُ إلى تلك الفترة
أقول وأعتقد جازما
بانتفاء التّدنّس
والتّأثّر والتّحوّل
بأيّ وجه عنك يا
ربّنا الإله الحقّ
الّذي خلقت لا
أنفسنا فقط بل
وأجسامنا، لا
أنفسنا وأجسامنا
فقط بل وكلّ الكائنات
العاقلة والأشياء،
لم أكن أملك تعليلا
بيّنا ومتماسكا
للشّرّ. وأيّا
كانت علّته كنتُ
أرى لزاما أن أطلبها
على صورة لا تضطرّني
إلى إجازة التّغيّر
في الله المنزّه
عن التّغيّر،
كيلا أكون أنا
ذاتي ما أبحث عنه.
لذا رحتُ أبحث
عنه وأنا مطمئنّ،
وواثق أنّه غير
ما يقول أولئك
الّذين ما فتئت
أفرّهم بكلّ عزمي،
إذ كنت أراهم في
بحثهم عن مصدر
الشّرّ ممتلئين
مكرا جعلهم يستحبّون
الظّنّ بتأثّر
جوهرك بالشّرّ
على التّفكير
بأنّ جوهرهم هو
فاعل الشّرّ. 5 ورحت أجتهد
لاستبانة ما أسمع
من أنّ حرّيّة
اختيار إرادتنا
سببُ فعلنا الشّرّ
وأنّ حكمك المستقيم
فينا سبب تعرّضنا
له، فلا أستطيع
تبيّن تلك الحقيقة
الجليّة. وأحاول
أن أنتاش فكري
من الهاوية فأسقط
فيها مجدّدا وأعيد
المحاولة فأسقط
كرّة تلو أخرى.
كان يرتفع بي نحو
نورك كوني أعلم
أنّ لي إرادة علمي
أنّي أحيا. لذا
كلّما أردتُ أو
رفضتُ شيئا كنتُ
على ثقة تامّة
بأنّي أنا، ولا
أحد سواي، أريده
أو أرفضه، وألاحظ
أكثر فأكثر أنّ
سبب خطيئتي يكمن
هنا بالذّات. أمّا
ما أفعل بدون إرادتي
فأراني منفعلا
به أكثر ممّا أنا
فاعل له، ولا أرى
فيه ذنبا بل عقابا
سرعان ما أقرّ
لمّا أفكّر في
عدلك بأنّه ما
أُنزل بي ظلما.
لكنّي أعود إلى
التّساؤل: "من
صنعني؟ أليس إلهي
الّذي ليس خيّرا
فقط بل هو الخير
ذاته؟ من أين أتاني
إذن حبّ الشّرّ
ورفض الخير؟ ألأنال
العقوبات الّتي
أستحقّ؟ من وضع
بداخلي وبذر فيّ
أصل مرارة وأنا
بكلّ كياني من
صنع إلهي البرّ
الودود؟ إن كان
الشّيطان هو الفاعل،
فمن أين أتى الشّيطان
ذاته؟ إن أحيل،
بما جنتْ إرادته
المنحرفة، من
ملاك خيّر إلى
شيطان مَريد،
فمن أين أتتْ فيه
هو نفسه إرادة
الشّرّ، الّتي
حوّلته إلى شيطان،
بينما صنعه ملاكا
بكماله أحسنُ
الخالقين؟"* مرّة
أخرى راحت هذه
الأفكار تغطّني
وتخنقني، لكن
دون أن تنزل بي
إلى جحيم الضّلال
حيث لا أحد يعترف
لك لمّا يفكّر
البعض بأنّ الشّرّ
يقع عليك لا بأنّ
الإنسان هو الّذي
يفعله. 7-4 الله منزّه
عن الفساد 6 هكذا كنتُ
أجدّ لأجد حقائق
أخرى كما وجدتُ
قبل أنّ الممتنع
عن الفساد أشرف
ممّا يقبل الفساد
ومن ثمّة أقرّ
بأنّك، أيّا كان
جوهرك، منزّه
عن الفساد. فما
أمكن ولن يمكن
لنفس أبدا تصوّر
خير منك أنت الخير
الأعظم والأفضل*.
وبما أنّ ما لا
يدركه الفساد
مفضَّل حقّا وصدقا
على ما يقبل الفساد
كما كنتُ أرى منذ
مدّة كان بإمكان
فكري تصوّر كائن
خير من إلهي لو
لم تكن منزّها
عن الفساد. إذن
ما دمت أرى الممتنع
عن الفساد مفضَّلا
على ما يقبل الفساد،
هنا كان عليّ أن
أبحث عنك، وألاحظ
من ثمّة موطن الشّرّ
أي مأتى الفساد
الّذي لا يمكنه
بتاتا أن يمسّ
بجوهرك. فالله
لا يأتيه الفساد
من أيّة جهة: لا
من إرادة ولا من
ضرورة ولا من عرَض
لم يسبق علم به.
إذ هو الله وما
يريد هو الخير
وذاته خير وليس
من الخير التّعرّض
للفساد. ويستحيل
أن تقسرك ضرورة
على شيء ما لأنّ
إرادتك لا تفوق
قدرتك وكان يمكن
لا شكّ أن تفوقها
لو كنتَ تفوق ذاتَك:
فالله ذات إرادته
وقدرته. وما الّذي
لا يتمّ بدون سابق
علمك أنت الحفيّ
بكلّ شيء؟ ولا
شيء يوجد إلاّ
لأنّك تعلمه*. ولِم
الإسهاب في ذكر
أسباب امتناع
الجوهر الإلهيّ
عن الفساد، وهو
لو كان كذلك لما
كان اللهَ؟ 7-5 البحث عن أصل
الشّرّ 7 وظللتُ أبحث
عن أصل الشّرّ
وأبحث بطريقة
سيّئة*، ولا أرى
في بحثي ذاته شرّا.
كنتُ أعرض قدّام
فكري الكون الّذي
خلقتَ كلّه، بما
فيه ممّا تدرك
أبصارنا كالأرض
والبحر والهواء
والنّجوم والأشجار
والأحياء الخاضعة
لسنّة الموت،
وما لا تدرك كجلَد
السّماء العلويّ،
وكلّ الملائكة
والكائنات الرّوحيّة،
وإن كانت إذّاك
في خيالي حالّة
وموزّعة في أمكنة
معيّنة كما لو
كانت أجساما. وجعلتُ
خليقتك كتلة واحدة
مديدة متمايزة
حسب أصناف الأجسام،
سواء منها تلك
الّتي هي حقّا
أجسام أو تلك الّتي
تخيّلتها مكان
الأرواح. وجعلتها
مديدة، لا بالقدر
الّذي هي عليه
في الحقيقة إذ
لم يكن بوسعي أن
أعلمه بل بالقدر
الّذي طاب لي،
محدودة تماما
من كلّ جهة. وتصوّرتك
اللّهمّ محيطا
بها وحالاّ فيها
وبعكسها لامتناهيا
في كلّ اتّجاه،
كما لو أنّ بحرا
خضمّا ممتدّا
في كلّ صوب عبر
الفضاء اللاّمتناهي
يحتوي بداخله
إسفنجة ضخمة إلى
أبعد مدى يصل إليه
خيالنا، لكنّها
مع ذلك متناهية،
وهي مشبعة تماما
وفي كلّ جزء منها
بالبحر اللاّمحدود.
هكذا كنتُ أتصوّر
خليقتك متناهية
وممتلئة بجوهرك
اللاّمتناهي،
وأقول: "هو ذا الله
وتلك هي خلائقه،
الله خيّر ويفضلها
بما لا يقاس ولا
يقدَّر؛ لكن لأنّه
خيّر خلقها خيّرة.
وها هو بهذا النّحو
يكتنفها ويملؤها.
فأين الشّرّ ومن
أين أتى وكيف نفذ
إلى هنا؟ ما أصله
وما بذرته؟ أم
ترى لا يوجد مطلقا؟
لِم نخاف إذن ونتوقّى
ما لا يوجد؟ أمّا
إن كنّا نخافه
بلا مبرّر فخوفنا
ذاته شرّ ينخر
ويعذّب قلوبنا
مجّانا، وهو أسوأ
لأنّ ما نخافه
لا يوجد ومع ذلك
نخافه. وبالتّالي
إمّا الشّرّ الّذي
نخافه موجود،
وإمّا خوفنا شرّ.
من أين إذن أتى
الشّرّ ما دام
الله الخيّر خلق
أشياء خيّرة؟
نعم، خلق هو الخير
الأعظم والأسمى
خيرات أدنى، لكنّ
الخالق والخلائق
أخيار كلّهم. فمن
أين أتى الشّرّ؟
أكانت مادّة ممّا
استخدم لصنع الأشياء
تتضمّن شرّا،
فصوّرها ونسّقها
لكنّه ترك فيها
شيئا ما لم يحوّله
إلى خير؟ ولِم
ذلك؟ أعجز عن تحويلها
كلّها كيلا تبقى
بها ذرّة من الشّرّ
وهو ذو قدرة لامتناهية؟
ثمّ لِم شاء أن
يصنع منها شيئا،
أما كان أحرى بقدرته
اللاّمتناهية
تلك أن تجعلها
عدما بحتا؟ أكان
بوسعها أن توجد
رغم مشيئته؟ أو
إن كانت قديمة
فلِم سمح بوجودها
على حالها تلك
منذ الأزل وعلى
مدى حقبة بمثل
ذلك الطّول طاب
له بعدها صنع شيء
منها؟ أو إن عنّ
له فجأة أن يفعل
شيئا، أما كان
أحرى به وهو ذو
قدرة لامتناهية
أن يلاشيها ويبقى
وحده خيرا محضا
وحقّا ومطلقا
ولامتناهيا؟
أو إن لم يكن حسنا
بمن هو حسن ألاّ
يصنع ويخلق شيئا
حسنا، أما كان
يجدر به أن يأخذ
تلك المادّة الّتي
هي سيّئة ويحيلها
عدما ويُحلّ محلّها
أخرى حسنة، فيصنع
منها كلّ الخلائق؟
فما هو بالقدير
إن لم يستطع خلق
شيء خيّر إلاّ
بالاستعانة بتلك
المادّة التي
لم يخلقها هو ذاته."
أسئلةً كهذه كنتُ
أقلّب في قلبي
البائس المثقل
بهموم نهّاشة
مبعثها الخوف
من الموت وعجزي
عن اكتشاف الحقيقة.
مع ذلك كان راسخا
بقلبي الإيمان
بمسيحك ربّنا
ومخلّصنا على
مقتضى تعاليم
الكنيسة الكاثوليكيّة.
ولئن لم يزل إلى
ذلك اليوم غير
مصقول وخارجا
حول عدّة مسائل
عن أركان للعقيدة،
فإنّ فكري لم يتخلّ
عنه بل كان يتشبّع
منه أكثر وأكثر
بمرّ الأيّام.
7-6 مثالان على
بطلان التّنجيم:
قصّة فرمينوس،
والتّوائم 8 كنتُ كذلك
قد نبذتُ تنبّؤات
المنجّمين الباطلة
وهذاءاتهم الأثيمة*.
هنا أيضا لتعترفْ
لك من أعماق روحي
رحماتك يا ربّ؛
أنت ولا أحد سواك-
ومن فعلا ينقذنا
من موت الضّلالات
سوى الحياة الّتي
لا تعرف الموت،
والحكمة الّتي
تنير القلوب العطشى
إلى النّور ولا
تحتاج إلى أيّ
نور، وتسيّر العالم
كلّه حتّى الأوراق
المهفهفة على
الأشجار؟- شفيتَني
من عنادي الّذي
لم تسمح بأن يتمادى
في مجادلة وِنديكانوس
الشّيخ اللّبيب
ونبريديوس الفتى
الموهوب، إذ كان
ذاك يؤكّد بثقة
وهذا يقول بتردّد
لكن بتكرار، أنّ
فنّ التّنبّؤ
بالمستقبل وهم،
وأنّ رجم النّاس
بالغيب كثيرا
ما يحظى بتأييد
الصّدفة، وأنّهم
لكثرة كلامهم
عن المستقبل يذكرون
عدّة أحداث منه،
وهم جاهلون بها
حين يتكلّمون
لكن بمجرّد الكلام
يصادفونها. فقد
قيّضتَ لي صديقا
لا يني عن استشارة
المنجّمين، دون
إلمام جيّد بكتبهم،
إنّما يستشيرهم
كما قلتُ من باب
الفضول مع أنّه
كان يعلم حادثة
يقول إنّه سمعها
من أبيه ويجهل
أنّها تقوّض رأيه
في تلك الصّنعة.
أتى يوما ذلك الرّجل،
واسمه فرمينوس
وقد درس العلوم
الشّريفة وتعلّم
الخطابة، يستشيرني
كأحد أعزّ أصدقائه،
في بعض الشّؤون
يعلّق عليها آمالا
دنيويّة عريضة،
عمّا أرى حسب برجه
كما يقال. كنت قد
بدأتُ أميل إلى
رأي نبريديوس
حول هذه المسألة،
ومع ذلك لم أرفض
كشف طالعه وإخباره
بما يعرض لي رغم
تردّدي. لكنّي
أضفتُ أنّي مقتنع
تقريبا بأنّها
ترّهات سخيفة
ومضحكة. إذّاك
روى لي أنّ أباه
كان مولعا بتلك
الكتب، وله صديق
يشاطره شغفه بها.
فكان يلهبهما
حماس مشترك متساو
لتلك التّرّهات
حتّى أنّهما لمّا
تضع إحدى البهائم
البكماء بالبيت،
يلاحظان لحظة
الميلاد ويدوّنان
وضع البروج ليجمعا
تجارب لما يعدّانه
علما. روى لي نقلا
عن أبيه أنّه لمّا
حبلت به أمّه كانت
خادمة لصديق أبيه
حاملا أيضا. لم
يخْف السّرّ طبعا
على سيّدها الّذي
كان يحرص حتّى
على معرفة تاريخ
وضع كلباته بعناية
ودقّة. ما حصل هو
أنّ الرّجلين
حسبا بكثير من
الاحتياط والتّدقيق
هذا لزوجته وذاك
لخادمته الأيّام
والسّاعات بل
وأدقّ أجزاء السّاعات،
وأنّهما وضعتا
في نفس الوقت تماما،
بحيث لزم أن يحدّدا
نفس البرج بأدقّ
تفاصيله للمولودين،
هذا لابنه وذاك
لعبده الصّغير.
لمّا أجاءهما
المخاض أخبر كلاهما
صاحبه بما يجري
في بيته، وكان
كلاهما قد أعدّ
مراسيل لإخبار
الآخر بالمولود
حال ولادته، ورتّب
بسهولة بوصفه
ربّ البيت لإخطاره
فورا. روى لي أنّ
الغلمان الّذين
أرسلا تقابلوا
في منتصف المسافة
بين البيتين بالضّبط،
بحيث لا يمكن ملاحظة
أيّ فرق في مواقع
النّجوم والتّوقيت
بينهما. مع ذلك
التّطابق بينما
وُلد فرمينوس
في بحبوحة بين
ذويه وراح يجوب
دروب الدّنيا
النّاصعة ويزداد
ثراء ويرتقي على
سلّم المناصب،
أمضى ذاك العبد
عمره حتّى ذاك
اليوم تحت نير
التّبعيّة في
خدمة أسياده بشهادته
هو نفسه الّذي
يعرفه. 9 بعدما سمعتُ
القصّة كما رواها
وصدّقتها، وكيف
لا ومثله رواها،
انهار وتلاشى
عنادي كلّيّا،
وحاولت رأسا أن
أثني فرمينوس
نفسه عن كلفه بالتّنجيم،
قائلا له إنّ صدق
تكهّني يقتضي
أن أطالع برجه
فأرى فيه رفعة
منزلة أبويه بين
مواطنيهما، وشرف
أسرته في المدينة،
وكرم محتده، وتربيته
الطّيّبة، وإلمامه
بالعلوم الشّريفة،
لكن إن طلب منّي
ذلك الخادم قراءة
برجه وهو نفس البرج
فلا بدّ ليصدق
تنبّؤي له هو أيضا
أن أرى فيه هذه
المرّة ضعة أسرته،
ووضعه التّابع،
وتفاصيل أخرى
مختلفة وجدّ بعيدة
عن الأولى. يترتّب
على ذلك أنّي سأنظر
إلى نفس البرج
فأقول تكهّنات
مختلفة إن صدقتُ،
فلو قلتُ لهما
نفس التّكهّنات
لأخطأت، ومن هذا
يستنتج بيقين
أنّ تنبّؤات المنجّمين
الصّادقة ناجمة
لا عن الصّنعة
بل عن الصّدفة،
والكاذبة لا عن
قلّة دراية بالصّنعة
بل عن كذب الصّدفة.
10 بعدما باتت
الطّريق مفتوحة،
أخذتُ أقلّب في
فكري كيف أحول
دون اعتراض أحد
أولئك الهاذين
محترفي تلك المهنة
الّذين بتّ أرغب
في مهاجمتهم وتهزئتهم
ودحضهم فورا،
بدعوى أنّ فرمينوس
روى لي أو أنّ أباه
روى له أمورا لم
تتمّ. فركّزت نظري
على التّوائم
الّذين يخرجون
غالبا من الرّحم
متتابعين بفارق
زمنيّ من الضّآلة
بحيث مهما يكن
تأثيره على الواقع
في زعمهم، تقصر
الملاحظة الإنسانيّة
عن التقاطه، وتتعذّر
إبانته في المعطيات
الّتي يفحصها
المنجّم ليقدّم
تنبّؤات صادقة.
ولن تصدق إذ كان
لمشاهدة نفس البرج
سيقدّم نفس التّنبّؤات
عن عيسو* ويعقوب،
بينما كان لهما
مصيران مختلفان.
سيقدّم إذن تنبّؤات
كاذبة، أو إن صدق
فسوف لا يقرأ لهما
نفس الطّالع وهو
يطالع نفس البرج.
سينتج إذن صدقه
عن الصّدفة لا
عن الصّنعة. فإنّك
اللّهمّ مسيّر
الأكوان بفائق
العدل والإحكام
تتدبّر بخفيّ
الإلهام وبدون
علم المستشيرين
والمشيرين ليسمع
المستشير ما يَصلُح
له سماعه، وقد
أخفيت عنهم جزاء
كلّ نفس، من غمر
أحكامك العادلة.
"فليس لإنسان
أن يقول: ما هذا؟
أو لِم هذا؟" لا
يقلْ ذلك، لا يقلْه،
فهو إنسان. 7-7 الكبْر هو
الذي أعمى بصيرته
11 هكذا كنتَ
يا ناصري قد خلّصتني
من تلك القيود
وأنا لم أزل أبحث
عن أصل الشّرّ
ولا أرى منفذا.
لكنّك لم تكن تسمح
بأن تبعدني لجج
أفكاري عن إيماني
القائم على الاعتقاد
في وجودك، وعصمة
جوهرك عن الفساد،
وفي عنايتك وعدالتك
في العباد، وفي
ربّنا ابنك المسيح،
وفي الكتاب المقدّس
الّذي تدعونا
إليه سلطة كنيستك
الكاثوليكيّة،
وفي أنّك سطرتَ
طريق خلاص الإنسان
نحو حياته الآتية
بعد الموت*. مع بقاء
هذه العقائد سالمة
وراسخة في روحي
كنتُ أبحث بحماس
عن مصدر الشّرّ.
فيا لآلام قلبي
من ذلك المخاض
ويا لأنّاته يا
ربّ وأنت بدون
علمي تسمع شكواي.
ولمّا كنتُ في
صمت أبحث بعزم
كانت تتعالى هتافات
إلى مسامع رحمتك:
استغاثاتُ قلبي
المنسحق الخرساءُ.
كنتَ من دون النّاس
كلّهم تعلم ما
أعاني. وكم يبثّ
منه في آذان الأقربين
لساني؟ أفكان
يبلغ مسامعهم
كلّ صريخ نفسي
الّذي ما كان يكفي
لإيصاله وقتي
ولا فمي؟ لكن كان
يصل إلى سمعك كلّ
ما "زأرتُ من زفير
قلبي، وكانت بغيتي
كلّها أمامك،
ونور عينيّ لم
يبق معي"، إذ كان
بداخلي وأنا بالخارج؛
ما كان ذلك في المكان،
وأنا أولّي وجهي
إلى ما يحويه المكان
فلا أجد فيه مكانا
لأستريح. لم تكن
تلك الأشياء تستقبلني
بنحو يجعلني أقول:
"كفى! أنا بحال
جيّدة!" ولا تتركني
أعود إلى حيث أكون
بحال جيّدة بقدر
كاف. كنتُ أفضُلها
لكنّي دونك مقاما،
وأنت لو أخبتُّ
إليك فرحي الحقيقيّ.
وقد سخّرتَ لي
كلّ المخلوقات
الّتي خلقتَ دوني
مقاما. ذاك كان
الموقف المتّزن
والموقع الوسط*
لخلاصي بحيث أبقى
على صورتك وفي
خضوعي لك مسيطرا
على جسدي. لكن لمّا
انتصبتُ بكبْر
متمرّدا عليك
واندفعتُ "أُغير
على الله بعنق
سامدة تحت أطر
مجنّي الغليظ"،
صارت حتّى تلك
الأشياء الدّنيا
فوقي وباتت تغطّني،
وأنا لا أجد مجالا
لأستريح وألتقط
أنفاسي. كانت تتدافع
عليّ من كلّ صوب
زمرا متراصّة
إذا نظرتُ، وإذا
فكّرت تعترض صور
الأجسام طريقي
كأنّها تقول لي:
"أين تذهب أيّها
الدّنس الدّنيء؟"
كلّ ذلك ارتفع
من جرحي، فإنّك
"تسحق المتكبّر
مثل القتيل"،
وأنا في كبري منفصل
عنك وتورّمُ وجهي
يسدّ عينيّ. 7-8 الله يتداركه
برحمته 12 "وأنت يا ربّ
ثابت إلى الأبد"
وما "إلى الأبد
تغضب علينا"،
فقد رحمتني أنا
التّراب والرّماد
وارتضيتَ إصلاح
تشوّهاتي قدّامك.
وبمنخاس باطنيّ
كنتَ تخزني كيلا
تهجع نفسي حتّى
تتجلّى لبصيرتي
بكامل اليقين.
وأخذ ورمي ينفشّ
بلمسة دوائك الخفيّة
وبصيرتي الّتي
تكدّرت وأظلمت
تتماثل يوما فيوما
للشّفاء بفضل
ذَرور الآلام
الصّحّيّة النّفّاذ.
7-9 اكتشاف الحقيقة
منقوصة في كتب
الأفلاطونيّة
المحدثة 13 بدءا شئتَ
أن تبيّن لي كيف
"تقاوم المتكبّرين
وتعطي النّعمة
للمتواضعين"،
وسعةَ رحمتك الّتي
أظهرتَ بها للنّاس
طريق التّواضع،
إذ "صار كلمتك
جسدا وحلّ بين
النّاس"، فأمددتَني
بواسطة رجل قد
انتفش كبْرا مهولا
ببعض كتب الأفلاطونيّين
مترجمة من اليونانيّة
إلى اللاّتينيّة*.
قرأت فيها لا بالنّصّ
الحرفيّ بل نفسَ
المعنى تماما
مؤيّدا بأدلّة
متعدّدة ومتنوّعة
أنّه "في البدء
كان الكلمة والكلمة
كان عند الله وكان
الكلمة الله. هذا
كان في البدء عند
الله. كلٌّ به كُوّن
وبغيره لم يكوَّن
شيء ممّا يكوَّن.
فيه كانت الحياة
والحياة كانت
نور النّاس والنّور
يضيء في الظّلمة
والظّلمة لم تدركه."
وأنّ نفس الإنسان
وإن "شهدت للنّور
لم تكن هي النّور"
لكنّ الكلمة،
اللهَ ذاتَه،
هو "النّورُ الحقيقيّ
الّذي ينير كلّ
إنسان آت إلى العالم"
وأنّه "كان في
العالم والعالمُ
به كُوّن والعالم
لم يعرفه." أمّا
أنّه "أتى إلى
خاصّته وخاصّته
لم تقبله، فأمّا
الذين قبلوه فأعطى
لهم سلطانا أن
يكونوا أبناء
الله للّذين يؤمنون
باسمه"، فلم أقرأه
فيها. 14 كذلك قرأت
فيها أن الكلمة،
الله، "لا من جسد
ولا من دم ولا من
مشيئة رجل ولا
من مشيئة لحم لكن
من الله وُلد"؛
أمّا أنّ "الكلمة
صار جسدا وحلّ
فينا" فلم أقرأه
فيها. حقّا وجدتُ
في تلك الكتب،
معروضا بتعابير
شتّى وبأساليب
عدّة أنّ الابن
"الّذي إذ هو في
صورة الله لم يكن
يعتدّ مساواته
لله اختلاسا"
لأنّه ذاك بالذّات
بطبيعته*. أمّا
أنّه "أخلى ذاته
آخذا صورة عبد
صائرا في شبه البشر
وموجودا كبشر
في الهيئة، فوضع
نفسه وصار يطيع
حتّى الموتِ موتِ
الصّليب، فلذلك
رفعه الله ووهبه
اسما يفوق كلّ
اسم، لكي تجثو
باسم يسوع كلّ
ركبة ممّا في السّماوات
وعلى الأرض وتحت
الأرض، ويعترف
كلّ لسان أنّ الرّبّ
يسوع المسيح هو
في مجد الله الآب"*،
فلا تحويه تلك
الكتب. فيها كذلك
أنّ ابنك الوحيد
باق من قبل كلّ
الدّهور وإلى
ما بعد كلّ الدّهور
بلا تغيّر ومساويا
لك في القدم، وأنّ
الأنفس تأخذ من
امتلائه لتسعد،
وتتجدّدُ بالاشتراك
في الحكمة الثّابتة
في ذاتها لتصير
حكيمة. أمّا أنّه
"مات في الأوان
عن المنافقين"
وأنّك "لم تشفق
على ابنك الوحيد
بل أسلمته عن جميعنا"*
فلا يوجد فيها.
لكنّك "أخفيت
هذه عن الحكماء
والعقلاء وكشفتها
للأطفال" ليأتي
إليه "المتعبون
والمثقلون وهو
يريحهم"، لأنّه
"وديع ومتواضع
القلب" و"يهدي
الودعاء إلى العدل
ويعلّم الرّؤفاء
طُرقه" "ناظرا
إلى بؤسنا وضرّنا
وغافرا خطايانا
كلّها". لكنّ المستعلين
الواقفين فوق
أخفاف علم أرقى
في زعمهم لا يسمعونه
يقول: "تعلّموا
منّي أنّي وديع
ومتواضع القلب
فتجدوا راحة لأنفسكم"*،
"فإنّهم لمّا
عرفوا الله لم
يمجّدوه ولم يشكروه
كإله بل سفهوا
في أفكارهم وأظلمت
قلوبهم الغبيّة
وقد زعموا أنّهم
حكماء فصاروا
حمقى" 15 لذا "استبدلوا
مجدك الّذي لا
يدركه الفساد
بشبه صورة إنسان
ذي فساد وطيور
وذوات أربع وزحّافات"*
كما قرأت فيها
أيضا. ذاك بالتّحقيق
طعام مصر الّذي
أضاع به عيسو* بكريّته،
إذ عبد شعبك البكر
رأس بهيمة ذات
أربع بدلا منك
"مرتدّا إلى مصر
بقلبه" وحانيا
أمام "شكل ثور
آكل عشب" صورتَك-
نفسه. وجدتُ ذلك
فيها ولم أطعمه
مثلهم. إذ ارتضيتَ
اللّهمّ أن تزيل
عن يعقوب نقيصة
الصّغر ليخدم
الكبير الصّغير،
ودعوتَ الأمم
ليكونوا هم الوارثين*.
أنا أيضا جئت إليك
من الأمم. وشغلت
بالي بالذّهب
الّذي شئتَ أن
يحمله شعبك من
مصر لأنّه ملكك
حيثما كان. وعلى
لسان رسولك قلتَ
للأثينيّين:
"إنّا بك نحيا
ونتحرّك ونوجد"
كما قال بعض منهم
ومنهم أتت تلك
الكتب. ولم أشغل
بالي بأوثان المصريّين
الّتي بذهبك كان
يضحّي لها "الّذين
أبدلوا حقّ الله
بالباطل واتّقوا
المخلوق وعبدوه
دون الخالق"*. 7-10 العودة إلى
الذّات واكتشاف
الله 16 وجدتُ نفسي
مدعوّا فيها إلى
العودة إلى ذاتي
فدخلتُ في باطني
بقيادتك، استطعتُ
ذلك لأنّك "صرت
لي ناصرا". دخلتُ
ورأيتُ بعين نفسي،
على عشاها، فوق
عين نفسي تلك وفوق
فكري نورا لا يدركه
التّغيير، لا
النّور العاديّ
المرئيّ لكلّ
جسد، ولا هو من
نفس النّوع بدرجة
أكبر، كما لو سطع
ذلك النّور أكثر
وأكثر واحتلّ
الكون كلّه. لم
يكن ذلك النّورَ
بل آخر، مغايرا
تماما لتلك الأنوار.
لم يكن فوق عقلي
كالزّيت فوق الماء
ولا كالسّماء
فوق الأرض، بل
أعلى منّي لأنّه
صانعي وأنا أدنى
منه لأنّي صنعه*.
من يعرف الحقّ
يعرفه ومن يعرفه
يعرف الأبديّة.
المحبّة تعرفه.
يا للحقيقة الأبديّة
والمحبّة الحقيقيّة
والأبديّة الحبيبة!
أنت إلهي إليك
أتوق ليل نهار.
حالما عرفتك رفعتَني
لأرى أنّ ثمّة
ما أرى وأنّي لستُ
بعد بحال تتيح
لي مرآه. وبهرتَ
عشى بصري، مشعّا
عليّ بسناك السّاطع.
وارتعشتُ رغبا
ورهبا. ووجدتُني
بعيدا عنك في بلاد
غربة، حيث بدا
لي كأنّي أسمع
صوتك آتيا من العلاء:
"أنا طعام الكبار
فانمُ وستطعم
منّي. لن تتمثّلني
كما تتمثّل طعام
جسدك، بل أنت الذي
ستتحوّل إليّ."
وعلمتُ أنّك
"بالتّوبيخ على
الإثم أدّبتَ
الإنسان" وجعلت
نفسي تهترئ كخيط
العنكبوت. وقلتُ:
"أعدمٌ هو الحقّ
لأنّه لا ينتشر
في حيّز مكانيّ
متناه أو لامتناه؟"
وهتفتَ من قصيّ
علاك: "أنا هو الكائن".
سمعتُ ذلك كالسّامع
بقلبه ولم يكن
ثمّة داع لأشكّ
فيه، بل كان أسهل
عليّ الشّكّ في
أنّي أحيا من الشّكّ
في وجود الحقّ
الّذي "يُدرك
بمبروءاته". 7-11 كينونة الله
المطلقة ووجود
الأشياء النّسبيّ
17 ونظرتُ إلى
الأشياء الأخرى
الّتي هي دونك
ورأيتُ أنّها
لا هي وجود مطلق
ولا عدم مطلق: هي
كائنة بلا شكّ
من حيث أنّها تستمدّ
منك وجودها، لكنّها
غير كائنة كذلك
من حيث أنّها ليست
إيّاك. فكائن فقط
ما يبقى ثابتا
في ذاته. "وأنا
فحسنٌ لي القرب
من الله" لأنّي
إن لم أثبت فيه
لن أستطيع الثّبات
في ذاتي. أمّا هو
"فثابت في ذاته
ويجدّد كلّ شيء".
"وأنت ربّي وما
عداك لا خير لي".
7-12 كلّ ما يوجد
خير، بدرجات متفاوتة
18 بان لي أنّ
الأشياء القابلة
للفساد حسنة. لو
كانت من جنس الخير
الأعظم لما أمكن
أن تفسد، ولا أمكن
كذلك أن تفسد لو
خلتْ من الخير.
فلو كانت من جنس
الخير الأعظم
لما أدركها الفساد،
ولو خلت تماما
من الخير لما وُجد
فيها ما يقبل الفساد.
فالفساد يضرّ،
ولو لم يُنقص الخير
الكائن لما أضرّ.
إذن إمّا الفساد
لا يضرّ قطّ وهو
ما لا يمكن بحال،
وإمّا، وهذا عين
اليقين، كلّ ما
يطرأ عليه فساد
يجرَّد من خير
ما. لكن إن جُرّد
من الخير تماما،
فلن يكون على الإطلاق.
إذ إن وُجد ولم
يعد ممكنا أن يفسد،
فسيكون إذّاك
أفضل ممّا كان
لأنّه سيبقى ممتنعا
عن الفساد. وهل
ثمّة أفحش من القول
إنّ شيئا يصير
أفضل بفقدان كلّ
خير فيه؟ إذن إن
يجرَّد من كلّ
خير يغدُ عدما
مطلقا. لذا فمن
حيث هو كائن، هو
خير. إذن كلّ ما
هو كائن حسن، وليس
الشّرّ الّذي
كنت أبحث عن مصدره
جوهرا، فلو كان
جوهرا لكان حسنا.
إذ سيكون عندئذ
إمّا جوهرا ممتنع
الفساد أي خيرا
عظيما وإمّا جوهرا
يقبل الفساد فلا
يمكن أن يفسد لو
لم يكن حسنا. هكذا
رأيتُ وبان لي
أنّك صنعت كلّ
الأشياء حسنة
وأنّ لا جوهر ليس
من صنعك. وبما أنّك
صنعت الأشياء
كلّها غير متساوية،
فهي حسنة، كلّ
في ذاته، وحسنة
جدّا في مجموعها،
لأنّ إلهنا صنع
كلّ شيء حسنا جدّا*.
7-13 لا وجود للشّرّ
كجوهر قائم بذاته
19 وبالنّسبة
لك لا وجود للشّرّ
على الإطلاق،
لا لك أنت فقط بل
كذلك لمجموع خلقك،
إذ لا يوجد بخارجه
ما يمكن أن يهاجم
ويفسد* النّظام
الذي وضعتَه له.
لكن لوجود عناصر
في أجزائه لا تتوافق
مع أخرى يظنّها
النّاس سيّئة.
والحال أنّها
تتوافق مع عناصر
أخرى وهي من ثمّة
حسنة، وهي كذلك
حسنة في ذاتها.
كلّ هذه الأشياء
الّتي لا تتوافق
فيما بينها تتوافق
مع الجزء الأسفل
من الكون الّذي
ندعوه الأرض بسمائها
المطابقة لها
ذات الغيوم والرّياح.
بعيدا عنّي الآن
القول: "يجب ألاّ
تكون تلك الأشياء"،
فلو رأيتها وحدها
لتمنّيت بالتّأكيد
خيرا منها. لكن
حتّى عليها وحدها
يجب أن أسبّحك،
فكلّ شيء يدعو
إلى تسبيحك: "من
الأرض التّنانين
وجميع التّلال،
الشّجر المثمر
وجميع الأرز،
الوحوش وجميع
البهائم، الدّبّابات
والطّيور ذات
الأجنحة، ملوك
الأرض وجميع الشّعوب،
الرّؤساء وجميع
قضاة الأرض، الأحداث
والعذارى، الشّيوخ
مع الصّبيان يسبّحون
اسمك". وكذلك من
السّماوات يسبّحك
يا ربّنا في الأعالي
"جميع ملائكتك،
جميع جنودك، الشّمس
والقمر، جميع
كواكب النّور،
سماء السّماوات
والمياهُ الّتي
فوق السّماوات،
تسبّح هذه اسمك"*
لذا لم أعد أريد
خيرا ممّا كان
إذ أفكّر في الكلّ
فأقدّر بحكم أصحّ
أنّ العليا خير
من الدّنيا لكنّ
الكلّ خير من العليا
وحدها. 7-14 حقيقة طبيعة
الله اللاّمتناهية
20 ليسوا بصحّة
من يسوؤهم شيء
من خلقك ولا أنا
لمّا كان يسوؤني
كثير ممّا خلقتَ،
ولأنّ نفسي لم
تكن تجرؤ على الاستياء
من إلهي كانت ترفض
أن يكون من خلقك
كلّ ما يسوؤها.
لذا ذهبتْ إلى
القول بجوهرين
فكانت لا تجد راحة
في هذا المذهب
وتقول كلاما غريبا
عنها. ثمّ ثابتْ
من خطئها فاصطنعتْ
لها إلها منتشرا
عبر حيّز المكان
اللاّمتناهي
ولأنّها ظنّته
إيّاك أسكنته
في صميمها، واستحالت
هيكلا لوثنها
مقيتا لديك. لكن
بعدما أخذتَ رأسي
وأنا غافل فباركتَه
وأغلقتَ عينيّ
"لتصرفهما عن
النّظر إلى الباطل"،
تخلّيتُ قليلا
عن ذاتي وهجع جنوني،
وأفقتُ فيك فرأيتُك
لامتناهيا لا
كما توهّمتُ سابقا
ولم تك رؤيتي تلك
مستمدّة من حسّ
الجسد. 7-15 ليس بالإمكان
أبدع ممّا كان
21 ونظرتُ إلى
الأشياء الأخرى،
فرأيتُ أنّها
تدين لك بوجودها،
وتجد كلّها فيك
منتهاها، لكن
بغير المعنى المكانيّ،
إنّما من حيث أنّك
تمسك بكلّ شيء
في حقيقتك، وكلّ
الأشياء حقيقيّة
بقدر ما هي كائنة،
ولا باطل إلاّ
إذا ظُنّ وجود
ما ليس موجودا.
ورأيتُ أنّ كلّ
الأشياء لا يلائم
فقط مكانه بل كذلك
زمانه، وأنّك،
أنت الكائن الأبديّ
وحدك، لم تبدأ
في العمل بعد مدد
زمنيّة لا تحصى
لأنّ كلّ الأزمان،
ماضيها وآتيها،
لا تمضي ولا تأتي
إلاّ بعملك وبقائك.
7-16 قصور عقل الإنسان.
ماهية الإثم 22 وأدركتُ بالتّجربة
ألاّ عجب أن يستمرّ
الفمُ المريضُ
الخبزَ الّذي
يستمرئه الصّحيح*،
وتبغض الأعين
العليلة النّور
الّذي هو للسّليمة
مسرّة، وينفر
من عدلك الظّلَمة
بلْهَ الحيّةَ
والدّودةَ اللّتين
خلقتهما حسنتين
ملائمتين لأجزاء
خلقك الدّنيا
الّتي يتوافق
معها الأثمة بقدر
اختلافهم عنك
ويتوافقون كذلك
مع أجزائه العليا
بقدر ما يصيرون
أشبه بك. وبحثتُ
عن ماهية الإثم
فلم أجد جوهرا
بل انحراف إرادة
صدّت عنك أنت الكائن
الأسمى لتهوي
إلى الخسائس
"مطّرحة أحشاءها"
ومنتفخة إلى الخارج.
7-17 الارتقاء
إلى الله والعجز
عن الاستمرار
في مشاهدته 23 كنتُ أعجب
كيف بتُّ أحبّك
أنت، لا أخيلةً
بدلا منك، ولا
أتوقّف لألتذّ
بإلهي بل يجتذبني
إليك حسنك ثمّ
لا يلبث ثقلي أن
ينتزعني* بعيدا
عنك فأسقط في تلك
الخسائس بأنين.
ذاك الثّقل هو
عادة جسدي. لكنّ
ذكراك ظلّت معي،
ولم أعد أشكّ بتاتا
في وجود كائن يمكنني
التّعلّق به وإن
لم أكن بعد في حال
تتيح لي التّعلّق
به، "فالجسد الفاسد
يثقّل النّفس
والمسكن الأرضيّ
يخفض العقل الكثير
الهموم". وكنت
على يقين تامّ
بأنّ "غير منظوراتك
قد أُبصِرت منذ
خلق العالم إذ
أُدرِكت بالمبروءات
وكذلك قدرتك الأزليّة
وألوهتك"*. ففي
بحثي عن مصدر استحساني
بهاء الأجسام
سواء منها السّماويّة
أو الأرضيّة،
وعمّا يمكّنني
من الحكم بنحو
سليم على هذه الأشياء
المتغيّرة والقول:
"هذا يجب أن يكون
كذا، وذاك لا يجب
أن يكون كذلك"،
في بحثي إذن عن
ملَكة الحكم تلك
الّتي أصدر بها
تلك الأحكام،
وجدتُ أبديّة
الحقّ الحقيقيّةَ
الثّابتة فوق
فكري المتغيّر.
هكذا ارتقيتُ
بالتّدريج من
الأجسام إلى النّفس
التي تدرِك بالجسم،
ثمّ منها إلى قوّتها
الباطنة الّتي
تنبئها حواسّ
الجسم بالأشياء
الخارجيّة- أقصى
ما تبلغه الحيوانات-،
ومن هنا مجدّدا
نحو القوّة العاقلة
الّتي يعود إليها
الحكم في ما تقدّم
لها حواسّ الجسم،
والّتي باكتشافها
فيّ قابليّتها
للتّغيّر ارتقتْ
إلى إدراك ذاتها
وفكّت تفكيرها
من عقال العادة،
مخلّصة نفسها
من أسراب الأخيلة
المتناقضة لاكتشاف
النّور الّذي
كان يغمرها إذ
تؤكّد بدون أدنى
شكّ أنّ ما لا يدركه
الفساد أفضل ممّا
يقبل الفساد،
والّذي منه تكنه
ما لا يدركه الفساد
ذاتَه، الّذي
لو لم تعرفه بنحو
ما لما فضّلتْه
قطّ جازمة على
ما يقبل الفساد،
وفي رمشة لحظ مرتعشة
وصلتْ إلى معرفة
ما هو. إذّاك أبصرتُ
"لامنظوراتك الّتي
أُدركتْ بمبروءاتك"
لكن أعوزتني القدرة
على تثبيت بصري
وصُدّ عشاي، فرُددتُ
إلى عاداتي وأنا
لا أحمل معي سوى
ذكرى ملؤها حبّ
وشوق إلى نكهة
أطعمة لم أكن قادرا
بعد على تناولها.
7-18 ضرورة الوسيط
بين الله والنّاس
24 وأخذت ألتمس
الطّريق لاكتساب
القوّة المناسبة
لألتذّ بك فلا
أجدها، حتّى عانقتُ
"وسيط الله والنّاس،
الإنسان يسوع
المسيح"* الّذي
هو "على كلّ شيء
إله مبارك مدى
الدّهور" والّذي
يدعونا قائلا:
"أنا الطّريق
والحقّ والحياة"
وماشجا الطّعام
الّذي كنتُ عاجزا
عن تناوله بالجسد،
لأنّ "الكلمة
صار جسدا" لتُرضع
طفولتَنا حكمتُك
الّتي خلقتَ بها
كلّ شيء. لم أكن
بعد أمسك متواضعا
إلهي المتواضع
يسوع ولا أفقه
ما يعلّم ضعفه.
فإنّ كلمتك، الحقّ
الأبديّ، المهيمن
على أجزاء خلقك
العلويّة يرفع
إليه الخاضعين
لك، وفي أجزائه
السّفلى شاد له
من طيننا بيتا
متواضعا يُنزل
به من يشاء إخضاعهم
وينقلهم من ذاتهم
إليه، شافيا ورمهم
ومغذّيا حبّهم*
كيلا يتمادوا
في ثقتهم بأنفسهم،
وليهِنوا إذ يرون
أمام أرجلهم إلها
موهنا بمشاركتنا
"قميصنا الجلديّ"،
ومتعبين يسجدوا
له فينهض ويرفعهم.
7-19 جهله بلاهوت
المسيح 25 لكنّي كنت
أفكّر بنحو مختلف
وأعدّ ربّي المسيح
رجلا فائق الحكمة
لا يمكن أن يُعدل
به أحد ويبدو لي
خاصّة أنّه بولادته
من عذراء، تلك
المعجزة الّتي
جُعلتْ مثلا يعلّمنا
احتقار متاع الدّنيا
الزّائل والتّوق
إلى ما هو باق لا
يفنى، استحقّ
من العناية الإلهيّة
بنا تلك السّلطة
العظمى كإمام
هدى لنا. أمّا أيّ
سرّ مكنونٌ في
"الكلمة الّذي
صار جسدا" فلم
يكن يخطر على بالي.
كنت أعلم فقط ما
نقلت عنه الأناجيل،
من أنّه أكل وشرب
ونام ومشى وفرح
وحزن وتكلّم وأنّ
ذاك الجسد لم يتّصل
بكلمتك إلاّ بنفس
وعقل بشريّ. يعلم
كلَّ ذلك من يعلم
امتناع فساد كلمتك
وهو ما كنتُ أعلمه
قدر مستطاعي ولا
أشكّ به قطّ. فتحريك
أعضاء الجسم إراديّا
مرّة وعدم تحريكها
مرّة، والتّأثّر
بعاطفة ما تارة
وعدم التّأثّر
تارة، والإفصاح
بالألفاظ عن فصوص
الحِكم حينا واللّوذ
بالصّمت حينا،
كلّ ذلك من صفات
نفس وعقل خاضعين
للتّغيير. إن كُتب
ذلك عنه خطأ فكلّ
النّقل معرّض
للاتّهام بالكذب
ولن يبقى في تلك
الكتب خلاص للجنس
البشريّ بالإيمان.
وبما أنّ الكتب
صحيحة، كنتُ أرى
في المسيح إنسانا
بأتمّه: لا جسم
إنسان فقط أو نفسا
مع الجسم بلا عقل،
بل إنسانا بالمعنى
التّامّ وأحكم
بأنّه فُضّل على
الآخرين لا كالحقّ
مشخّصا بل بجودة
طبيعته الإنسانيّة
الفائقة واتّصال
أتمّ بالحكمة.
أمّا أليبيوس
فكان يظنّ الكاثوليك
يؤمنون بإله تقمّص
جسدا فلا نفس في
المسيح بجانب
الإله والجسد،
ولا يحسبهم يسندون
إليه عقلا. ولاقتناعه
التّامّ بأنّ
ما ذُكر عنه من
أخبار لا يصدر
إلاّ عن مخلوق
ذي حياة وعقل،
كان يتحرّك بفتور
باتّجاه العقيدة
المسيحيّة. لكنّه
عرف لاحقا أنّ
ذلك خطأ فرقة الأبولّيناريّين*
المارقة فاعتنق
العقيدة الكاثوليكيّة
بانشراح. أمّا
أنا فأعترف أنّي
تعلّمت بعد ذلك
بمدّة تمييز حقيقة
الكاثوليكيّة
من ضلالة فوطينوس*
في مسألة كيف صار
الكلمة جسدا. فلا
شكّ أنّ إدانة
البدع تُبرز حقيقة
موقف كنيستك ومضمون
العقيدة الصّحيحة
"إذ لا بدّ من البدع
ليظهر المزكّوْن"*.
7-20 عجز الفلسفة
عن بلوغ الحقيقة
كاملة 26 لكنّي إذّاك،
بعدما قرأت كتب
الأفلاطونيّين
تلك، واستجبت
لدعوتها إلى التماس
الحقيقة اللاّجسمانيّة،
"أبصرت لامنظوراتك
الّتي تدرَك بمبروءاتك"،
وأدركتُ وقد صُددتُ
ما لم تتح لي تأمّله
ظلمات نفسي، ورسخ
فيّ اليقين بأنّك
موجود ولامتناه
لكنّك غير حالّ
في مكان، متناهيا
كان أو لامتناهيا،
وأنّك أنت الكائن
حقّا الثّابت
في ذاتك دوما بلا
تحوّل ولا تغيّر
في أيّ جزء ولا
بأيّة حركة، وأنّ
كلّ الكائنات
الأخرى تستمدّ
منك وجودها، بمجرّد
هذا الدّليل القاطع
أنّها كائنة. كنت
على يقين تامّ
بتلك الحقائق،
لكن في نفس الوقت
أعجزَ من أن ألتذّ
بك. ما فتئتُ أهذر
متعالما، ولو
نشدتُ في غير المسيح
منقذنا طريقَك
لكنتُ غير عالم
بل لاقيا هلاكي*
بالأحرى. فقد بدأتُ
أرغب في الظّهور
بمظهر العالم،
ممتلئا بالكبْر
الّذي كان عقابي،
ولا أبكي بل ينفخني
العلم غرورا. أين
كانت تلك الرّحمة
الّتي تشيد على
أساس التّواضع،
الّذي هو يسوع
المسيح؟ ومتى
أمكن أن تعلّمنيها
تلك الكتب الّتي
أظنّك لأجلي شئتَ
أن أخوض فيها قبل
النّظر في كتابك
المقدّس ليُنقش
في ذاكرتي كيف
تأثّرتُ بها. ولمّا
أجد لاحقا في كتابك
السّلام، وتضمّد
أصابعك اللّطيفة
جراحي، لأتبيّن
وأميّز الفرق
بين الاعتداد
والاعتراف، بين
من يرون أين يجب
الذّهاب دون أن
يروا من أين، والطّريق
الّتي تقود إلى
موطن النّعيم
لا لتأمّله فقط
بل كذلك لسكناه.
إذ لو تعلّمتُ
في كتابك المقدّس
والتذذتُ بأنسه
أوّلا ثمّ وقعتُ
بعده على تلك الكتب،
فقد تنتزعني من
مرتكز الإيمان
أو إن بقيت على
ذلك الشّعور الشّافي
الّذي تشرّبته
فقد أحسب ممكنا
بلوغه بتلك الكتب
إن تعلّمها أيّ
أحد بمفردها. 7-21 الكتاب المقدّس
يضمّ الحقيقة
27 لذا أقبلتُ
بلهفة على الكتابات
الجليلة الّتي
ألهمها روحك،
لاسيما رسائل
بولس الرّسول*.
وتلاشتْ تلك المسائل
الّتي بدا لي فيما
مضى أنّه يناقض
فيها نفسه وأنّ
نصّ خطابه لا يتّفق
مع شهادة الشّريعة
والأنبياء وانجلى
لي الوجه الأوحد
للتّعاليم السّمحاء
وتعلّمتُ كيف
"أبتهج برعدة".
بدأتُ أقرأ واكتشفتُ
أنّ كلّ ما قرأتُ
هناك من حقائق
قيل هنا مشفوعا
بنعمتك، كيلا
"يفتخر من يرى
كأنّه لم ينل"
لا فقط ما يرى،
بل كذلك كونه يرى-
و"أيّ شيء له لم
ينله؟"- وليتلقّى
منك أنت الثّابت
دوما في ذاتك لا
الموعظة ليراك
فقط بل كذلك الشّفاء
ليمسكك. وليمشي
من لا يستطيع لبُعده
أن يراك مع ذلك
على الطّريق ليصل
إليك ويراك ويمسكك.
فعلا، إن "يرتض
الإنسان ناموس
الله بحسب الإنسان
الباطن"، فماذا
يفعل "بالنّاموس
الآخر في أعضائه،
الّذي يحارب ناموس
روحه ويأسره تحت
ناموس الخطيئة
الذي في أعضائه"؟*
"لأنّك عادل يا
ربّ ونحن قد خطئنا
وأثمنا مرتدّين
عنك وأجرمنا في
كلّ شيء" وثقلت
يدك علينا وأُسلِمنا
بعدل إلى الخطّاء
العتيق قتّال
النّاس لأنّه
أقنع إرادتنا
بمحاكاة إرادته
الّتي أزاغته
عن حقّك. ماذا يفعل
"الإنسان الشّقيّ؟
من ينقذه من جسد
الموت هذا غير
نعمتك بيسوع المسيح
ربّنا" الّذي
ولدته مساويا
لك في القدم وخلقتَه
في أوّل طرقك ولم
يجد فيه "رئيس
هذا العالم" ما
يستحقّ الموت
وقتله، "ومحا
الصّكّ الّذي
كان علينا"؟ هذا
لا يوجد في تلك
الكتب. لا توجد
في صفحاتها صورة
هذه التّقوى،
ودموع الاعتراف،
و"ذبائحك: روح
منكسر وقلب منسحق
منكسر" ولا خلاص
شعبك ولا المدينة
الموعودة ولا
"عربون الرّوح
القدس" ولا كأس
افتدائنا. لا أحد
هناك ينشد: "إلى
الله تسكن نفسي
ومنه خلاصي، صخرتي
هو وخلاصي، ملجئي
فلا أتزعزع." لا
أحد يسمع هناك
من يدعو: "تعالوا
إليّ يا جميع المتعبين"
فهم يترفّعون
عن التّعلّم منه
لأنّه "وديع ومتواضع
القلب". فإنّك
"أخفيت هذه عن
الحكماء والعقلاء
وكشفتها للأطفال".
وشتّان ما بين
رؤية موطن السّلام
من قمّة مشجرة
دون اكتشاف الطّريق
إليه والتّخبّط
بلا طائل في الشّعاب
وسط هجمات وكمائن
الفارّين بإمرة
رئيسهم "الأسد
والتّنّين"، واتّباع
الطّريق الموصلة
إلى هناك بحماية
ملك السّماء بلا
خوف من نهب الفارّين
من جند السّماء،
فهم يجتنبونها
كويل. كانت هذه
المشاعر تعصر
حشاي بنحو عجيب
وأنا أقرأ "أصغر
رسلك"، وقد تأمّلت
أعمالك وانبهرت
بها. |