القدّيس أغسطينوس

 

الاعترافات

 

الكتاب السّادس

 

حواش 

13

12

11

10

9

8

7

6

5

4

3

2

1

مقدّمة

 

 

6- الكتاب السّادس

6-1 التحاق أمّه به في مديولانيوم

  1 "يا رجائي ومتّكلي منذ صبائي"، أين كنتَ منّي وأين احتجبتَ عنّي؟ ألستَ أنت الّذي خلقتني وميّزتني عن الدّوابّ وجعلتَني أعلم من طير السّماء؟ كنتُ "أسلك في الظّلمات" على مزلق، باحثا عنك بخارج نفسي فلا أجدك يا إله قلبي، ونزلتُ في أعماق البحر وفقدتُ الثّقة والأمل في وجدان الحقّ. كانت أمّي قد أتت إليّ مستمدّة من إيمانها قوّة، عابرة للّحاق بي البرّ والبحر واجدة فيك الأمن وسط كلّ الأخطار. كانت عند الأهوال تفزّع عن قلوب البحّارة أنفسهم، هم الّذين عادة يفزّعون عن قلوب المسافرين الغُمر في أعماق البحر كلّما وجفت خوفا، واعدة إيّاهم بالوصول بالسّلامة لأنّك وعدتَها بذلك في رؤياها. وجدتْني أواجه خطرا وبيلا ليأسي من العثور على الحقيقة. مع ذلك لمّا أنبأتها بأنّي لم أعد مانويّا وإن لم أصر بعد مسيحيّا كاثوليكيّا، لم تهتزّ فرحا كما لو سمعت نبأ غير متوقّع، وقد اطمأنّت جزئيّا حول بؤسي الّذي ظلّت جرّاه طويلا تبكيني كميّت لتحييَني، وتقدّمُني إليك على نعش الرّوح "لتقول لابن الأرملة: أيّها الشّابّ لك أقول قم، فيستوي الميت ويبدأ يتكلّم فتسلّمه إلى أمّه"*. لا لم تهزّ قلبَها فرحة هوجاء لمّا سمعتْ بإنجاز ذاك الجزء المهمّ ممّا كانت تدعوك باكية كلّ يوم لتنجزه: فلئن لم أبلغ الحقيقة بعد إلاّ أنّي انتشلت نفسي من الضّلالة. بل أكثر من ذلك، لوثوقها بأنّك ستمنحها البقيّة أيضا ممّا وعدتَها كاملا، أجابتني بدعة تامّة وقلب ملؤه الطّمأنينة مؤكّدة ثقتها في المسيح بأنّها ستراني قبل رحيلها من هذه الحياة صرتُ كاثوليكيّا ملتزما. ذاك ما قالت لي. لكنّها لم تكفّ عن توجيه صلواتها ودموعها الثّقال إليك يا ينبوع الرّحمات لتعجّل بعونك وتنير ظلماتي. وظلّت تتردّد بتفان على الكنيسة حيث تبقى متعلّقة من خلال أقوال أمبروسيوس "بينبوع ماء ينبع إلى الحياة الأبديّة". كانت تحبّ ذلك الرّجل كملاك من الرّبّ لعلمها أنّه قادني إلى ذلك التّذبذب المؤقّت الّذي تجزم بأنّي سأمرّ عبره من السّقم إلى الصّحّة مواجها في الأثناء خطرا أدهى كالنّوبة الّتي ينعتها الأطبّاء بالحرجة.

6-2 تخلّي أمّه عن إحياء ذكرى القدّيسين على الطّريقة الإفريقيّة

  2 كانت تحمل، على عادتها في إفريقية، حساء وخبزا وخمرا صرفا تكريما لذكرى القدّيسين*، فمنعها البوّاب، وحالما علمتْ أنّ الأسقفّ حظر ذلك، امتثلت بورع وانصياع، جعلاني أعجب كيف اختارت بتلك السّهولة إدانة عادتها على منازعة ذلك الحظر. لم يكن السّكر يمتلك روحها، ولا حبّ الخمر يحرّضها على بغض الحقّ شأن عديد من الرّجال والنّساء الّذين يصابون بالغثيان لدى سماع إنشاد يحضّ على مقاومة الهوى، كالسّكّيرين لدى سُقْيا الماء القراح. بل كانت، لمّا تحمل سلّة من الأطعمة المنذورة، معدّة للذّواق فالتّوزيع، لا تسكب لنفسها أكثر من كوب واحد تمذقه بماء ليوافق مذاقها غير الميّال إلى الخمر من باب الكياسة. وإذا نوتْ تمجيد ذكرى عديد من الموتى بهذا النّحو طاف معها نفس الكوب على الأضرحة، فتتناول خمرا مشعشعة بماء كثير وفاترة تماما فضلا عن ذلك، توزّعها على شربات صغيرة مع بقيّة الحاضرين، فالتّقوى لا اللّذّةَ كانت تلتمس هناك. لذا حالما علمت بأنّ الدّاعية الشّهير حبر التّقوى حظر تلك الممارسات حتّى على من يأتونها دون سكر، كيلا تتاح للسّكّيرين أيّة فرصة للشّرب، ولشبهها بأعياد الأموات الوثنيّة*، امتنعت بطيب خاطر. وبدلا من سلّة ملأى بثمرات الأرض تعلّمت أن تحمل قلبا ملؤه نذور أزكى لإحياء ذكرى الشّهداء، متصدّقة بما تيسّر على المساكين فيتمّ بذلك الاحتفالُ هناك بجسد الرّبّ الّذي عُذّب وتُوّج القدّيسون أسوة بآلامه على الصّليب. مع ذلك يبدو لي يا ربّ، وذا شعور قلبي الماثل أمامك حول الحادثة، أنّ أمّي ربّما لم تكن ستتخلّى بسهولة عن تلك العادة المطلوب جبّها لو منعها شخص آخر لا تكنّ له من الحبّ ما تكنّ لأمبروسيوس. فقد كانت تحبّه حبّا جمّا بسبب خلاصي، بينما كان هو يحبّها لورعها المتجلّي في أعمال البرّ والمواظبة على الكنيسة بحماس صادق، حتّى أنّه كلّما رآني كثيرا ما ينطلق يهنّئني على أنّ لي أمّا مثلها، جاهلا أيّ ابن كان لها فيّ أنا الّذي كنت أشكّ في كلّ الأشياء ولا أتصوّر إمكانيّة وجود "سبيل الحياة".

6-3 الاقتراب من العقيدة الكاثوليكيّة بفضل أمبروسيوس

  3 لم أكن بعد أئنّ متضرّعا لك في صلاتي لتعينني لكن كان فكري مشدودا إلى البحث متعطّشا إلى النّقاش. كنت أعدّ أمبروسيوس نفسه على مقتضى هذا العالم إنسانا سعيدا، هو الّذي يكرّمه بذلك النّحو أعظم أصحاب السّلطان، وتبدو لي بتوليّتُه فقط شاقّة. أمّا أيّ رجاء يحمل، وأيّ جهاد يخوض ضدّ غوايات تفوّقه، وأيّ عزاء يجد في الشّدائد، وأيّة مسرّات لذيذة يغتذي من خبزك بفمه الخفيّ الكائن بفؤاده، فما كنت أستطيع تصوّره ولا جرّبتُ مثله. من جهته لم يكن يدري بمعاناتي ولا بالهاوية الّتي كنت على شفاها. لم تتح لي فرصة لأسأله عمّا أريد كما كنت أريد، إذ حرمتني مسمعه ومرآه* زمر ذوي الحاجات المتوافدين عليه فيخدمهم. فإذا لم يكن معهم، وهو ما لا يحصل إلاّ نزرا، مضى يتعهّد جسمه بمتطلّبات العيش أو فكره بالقراءة. فإذا استغرق في القراءة راح يجيل عينيه عبر الصّفحات وقلبه ينقّب عن المعنى بينما يستريح لسانه وشفتاه. كثيرا ما كنت أوجد عنده، إذ لم يكن أحد يُمنع من الدّخول عليه ولا جرت العادة بالإعلان عن القادم إليه، فأراه يقرأ بصمت ولا بغير ذاك النّحو أبدا. فأظلّ جالسا بصمت فترة طويلة، إذ من يجرؤ على إزعاجه وهو في مثل ذلك التّركيز؟ ثمّ أنصرف مفترضا أنّه في تلك المدّة الوجيزة الّتي يجدها للتّرفيه عن فكره والاستراحة من ضجيج قضايا الآخرين، لا يحبّ أن يلهيه أحد بشيء آخر، وربّما يحتاط بذلك لئلاّ يضطرّه مستمع متنبّه ومشدود إلى قراءته، إن عرض مقطع غامض، إلى تفسيره أو مناقشة بعض المسائل المستعصية، وبذلك يخصّص للكتب وقتا أقلّ ممّا يريد. كذلك ربّما كانت الحيطة على صوته الّذي يبحّ بسهولة سببا أرجح لقراءته الصّامتة. وأيّا كان قصده من تصرّفه، لا شكّ أنّ رجلا مثله كان يتصرّف بقصد حسن.

  4 لم تسنح لي والحال تلك فرصة لأسأل عمّا أريد عرّافك المقدّس، قلب ذلك الرّجل، إلاّ اللّمم كلّما منحني فسحة قصيرة من وقته للإصغاء إليّ. ظللتُ أتحيّن فرصة أجده فيها متفرّغا حقّا لأبثّه هواجسي فلا أجد قطّ. لذلك دأبت على الاستماع إليه كلّ أيّام الرّبّ* يلقي في الشّعب كلمة الحقّ، فيتأكّد لي أكثر فأكثر أنّ بالإمكان حلّ كلّ أحابيل الأراجيف الماكرة التي يحيكها أولئك الخادعون ضدّ الكتاب المقدّس. ولمّا اكتشفتُ من أبنائك الرّوحيّين، الّذين أعدتَ إنشاءهم من رحم كنيستك، ألاّ يجب فهم قولك إنّك خلقتَ الإنسان على صورتك بنحو يدفع إلى الظّنّ بأنّك محدود بملامح الجسم الإنسانيّ، رغم غياب فكرة لديّ ولو هزيلة وغامضة عن ماهية الجوهر الرّوحانيّ، خجلتُ مع ذلك في فرحي من نباحي طوال تلك السّنين لا ضدّ العقيدة الحقّة بل ضدّ أوهام اختلقتها أفكار التّجسيد. لقد تسرّعتُ وكفرتُ إذ عرضتُ وانتقدتُ عقيدة كان يجب أن أتعلّمها بالبحث الجادّ. لكنّك أنت العليّ والقريب منّا*، الظّاهر والباطن، غير المشتمل على أعضاء أكبر وأخرى أصغر، الكائن كلّيّا في كلّ مكان وغير الكائن في أيّ مكان، لستَ قطعا هذا الشّكل الجسمانيّ، وإن خلقتَ على صورتك الإنسان وهوذا من رأسه إلى قدميه متمكّن.

6-4 فهم العقيدة بعد التّخلّي عن معنى النّصوص الحرفيّ

  5 لأنّي كنت أجهل في ماذا تتمثّل صورتك تلك، كان أحجى بي أن أقرع وأسأل كيف يجب فهم ذلك، لا أن أهاجمه متنطّعا كما لو كان ما تخيّلتُ. لذا بقدر ما كان هاجس ما يجب أن أَعُدّه حقيقة ثابتة ينهش صميمي بحدّة أكبر، يزداد خجلي من انخداعي واغتراري بما وُعدتُ من حقائق ثابتة طوال تلك السّنين ولوْكي بجهالة وحميّا الصّبيان كيقينيّات كلّ تلك الظّنّيّات. اتّضح لي خطأ تلك الأفكار فيما بعد، لكن كان قد ثبت لي آنذاك أنّها غير ثابتة بينما اعتبرتُها ثابتة في ما مضى لمّا كنت أنتقد بتحامل أعمى كنيستك الكاثوليكيّة. ولئن لم أكن إذّاك قد اكتشفت صحّة تعاليمها، فقد بان لي على الأقلّ أنّها غير ما كنت أؤاخذها عليه بشدّة. لذا أخذت أتشوّش وأتحوّل وأفرح يا ربّ أنّ كنيستك الوحيدة، جسد ابنك الوحيد، حيث تعلّمت صغيرا اسم ابنك المسيح، لا تستسيغ تلك السّخافات الصّبيانيّة، وليس في عقيدتها السّمحاء ما يوحي بحشرك، أنت خالق كلّ الأشياء، في حيّز مكانيّ يبقى مهما اتّسع وامتدّ محدودا بملامح الجسم الإنسانيّ.

  6 كان يسرّني كذلك أن تُعرض عليّ قراءة العهد العتيق، أسفار الشّريعة والأنبياء، بغير العين الّتي كانت تستنكرها لمّا كنتُ آخذ على صدّيقيك القول بأفكار لم يقولوا بها. وأستمع بسعادة إلى أمبروسيوس مردّدا في خطبه على شعبك هذه القاعدة الّتي يوصي بها بإلحاح وحرص: "الحرف يقتل والرّوح يحيي"، لمّا يؤوّل حسب الرّوح، بعد إماطة البرقع المجازيّ، نصوصا تبدو إن أُخذت بمعناها الحرفيّ كأنّها تعلّم الضّلال، فلا أجد في ما يقول ما يمجّ سمعي وإن كنتُ أجهل حتّى ذلك الوقت إن كانت أقواله صحيحة. ظللتُ أمسك قلبي عن أيّة مصادقة خوفا من الهاوية، متردّيا بتردّدي*، لرغبتي في أن يتمّ لي حول ما لا أرى يقين كيقيني بأنّ سبعة وثلاثة تساوي عشرة*. إذ لم يصل بي جنوني حدّ التّفكير حقّا باستحالة إدراك هذه الحقيقة اليقينيّة، وإنّما كنت أرغب في الوصول إلى يقين مماثل عن الأشياء الأخرى سواء كانت حسّيّات غير حاضرة أمام حواسّي أو روحانيّات لم أكن إذّاك أدري كيف أتمثّلها إلاّ على غرار الحسّيّات. كان يمكن أن أُشفى بالإيمان لأوجّه بصيرتي، وقد جليتْ بنحو ما إلى حقيقتك الخالدة الّتي لا تهن من أيّ شيء. لكن كما يحدث لمن جرّب طبيبا سيّئا أن يخشى تسليم نفسه حتّى لجيّد، كذلك ظلّت نفسي العليلة الّتي ما كان ليشفيها حقّا إلاّ الإيمان ترفض العلاج مخافة الإيمان بأباطيل، متمنّعة على يديك أنت الّذي ذرأتَ دواء الإيمان وذررتَه على أمراض الأرض كلّها ومنحته تلك النّجاعة العجيبة.

6-5 في الكتاب المقدّس الجواب الشّافي للعامّة والخاصّة

  7 مع ذلك بدأتُ مذّاك أفضّل المذهب الكاثوليكيّ إذ أجد نفسي مطالبا هنا بنزاهة ودون خداع بالتّصديق بأمور لم يتمّ إثباتها سواء لأنّ بالإمكان إثباتها وربّما كنتُ قاصرا عنه أو لأنّها غير قابلة للإثبات أصلا، على الهزء هناك من سلامة طويّتي بوعدي سفها بالعلم ثمّ مطالبتي بالتّسليم بخرافات كثيرة لا يقبلها العقل بدعوى أنّها ممّا لا يمكن إثباته. ثم إنّك اللّهمّ رويدا رويدا لامستَ وسوّيتَ بيدك الرّفيقة الرّحيمة قلبي، وإذ اعتبرتُ الوقائع الّتي لا تحصى وأصدّق بها دون رؤيتها ولا كنتُ حتّى موجودا عند حصولها، ككثير من الأحداث في تاريخ الأمم، وكثير من أخبار البلدان والمدن الّتي لم أرها، وكثير ممّا أخذتُ عن الأصدقاء والأطبّاء وآخرين، والّتي لن نفعل شيئا في هذه الحياة لولا تصديقنا بها، وأخيرا بأيّة ثقة وطيدة أسلّم بأنّي وُلدتُ من أبويّ وهو ما لا علم لي به إلاّ بالسّماع، أقنعتَني أن ليس المؤمنون بكتابك الّذي أرسيتَ سلطانه العظيم في كلّ الأمم تقريبا بل من لا يؤمنون به من يستحقّون الإدانة، وألاّ أستمع إلى من قد يقولون لي: "وما أدراك بأنّ تلك الكتب ألقاها إلى الجنس البشريّ روح الله الواحد الحقّ الصّادق؟" ذاك بالذّات ما كان يجب التّصديق به بالوجه الأتمّ، فما استطاع عنف الانتقادات المغرضة في كثير ممّا قرأتُ من كتب الفلاسفة المتنازعين أن يمنعني أبدا في الماضي من الإيمان بوجودك أيّا كانت ماهيتك الّتي أجهل وبأنّ تدبير شؤون البشر شأن يعود لك.

  8 ولئن قوي تارة وضعف تارة إيماني بذلك، إلاّ أنّي على الدّوام آمنت بوجودك وبعنايتك بنا، حتّى مع جهلي بما يجب فهمه بشأن جوهرك أو بأيّة سبيل تقود أو تعيد إليك. هكذا بما أنّا ضعفاء عاجزون عن اكتشاف الحقيقة بالعقل المحض نحتاج إلى هداية الكتاب المقدّس*، بدأت أعتقد بأنّك لم تعط ذاك الكتاب مثل تلك السّلطة العليا في كلّ بلاد الأرض لو لم تشأ أن نؤمن بك بواسطته ونبحث عنك بواسطته. وصرتُ أردّ الأمور اللاّمعقولة الّتي كانت دوما تصدمني في ذلك الكتاب، بعدما سمعتُ تفسير الكثير منها بنحو يقبله العقل، إلى عمق الأسرار المقدّسة. وأخذت سلطته تبدو لي أجدر بالتّوقير وأحقّ بالتّصديق والإجلال سيما أنّ قراءته متيسّرة للجميع ويذّخر في نفس الوقت جلالة معناه الخفيّ لفهم أعمق، فهو بألفاظه السّهلة وأسلوبه البسيط في متناول الجميع، ويسترعي انتباه من ليسوا "خفاف العقل"، ليستقبل الجميع في حجره المفتوح للجمهور، ويحمل إليك من باب ضيّق أناسا قلائل لا محالة، لكن أكثر بكثير ممّا لو لم يكن ينتصب شامخا من علا سلطانه المنيف فيجذب الجموع في حضن تواضعه القدسيّ*. كنتُ أفكّر هذه الفِكر وأنت تلازمني وأتنهّد وأنت تسمعني وأعوم وأنت تدير دفّتي وأسير في طريق العالم الرّحب وأنت لا تبرحني.

6-6 لقاء مع متسوّل يفتح بصيرته

  9 كنتُ أتطلّع إلى المجد والمال والزّواج وأنت تضحك منّي، وأتحمّل في سبيل تلك الأهواء صعابا مريرة، وتزداد حِفاوتك بي بقدر ما تسمح لي أقلّ بالالتذاذ بكلّ ما ليس إيّاك. انظر إلى قلبي يا ربّ، أنت الّذي شئتَ أن أتذكّر كلّ هذا وأعترف لك به. لتقتربْ منك الآن نفسي الّتي انتزعتَها من لزاق الموت اللاّزب. كم كانت بائسة! وكنتَ تنخسها في اللّحم الحيّ من جرحها لتذر كلّ شيء وتتّجه إليك أنت الّذي فوق كلّ شيء وبدونك كلّ الأشياء لاشيء، لتتّجهَ إليك وتُشفى. كم كنتُ شقيّا فكيف تدبّرتَ لأدرك شقائي في ذلك اليوم لمّا أعددتُ خطاب مديح لإلقائه أمام الامبراطور، ملأته كذبا وأنا واثق أنّه سيلقى الاستحسان ممّن يعلمون كذبي. فبينما قلبي يختنق بتلك الهواجس ويحترق بحمّى تلك الأفكار المضنية لمحتُ عند مروري بأحد شوارع مديوليانوم متسوّلا فقيرا مخمورا في ظنّي، مرحا ومبتهجا. ألمت وحدّثت أصحابي الّذين كانوا برفقتي عن الآلام الكثيرة الّتي يسبّبها لنا جنوننا. فكلّ محاولاتنا كتلك الّتي كنت أبذلها إذّاك تحت منخاس أهوائي، حاملا إصر شقائي ومضيفا إليه أثقالا، لا غاية لنا منها سوى بلوغ سعادة ناعمة سبقنا إليها ذلك المتسوّل وقد لا ندركها أبدا. فما حصل عليه بدوينقات قليلة مستجداة كنت أحاول نيله بطرق بائسة ملتوية: فرحة السّعادة الدّنيويّة. وما بالسّعادة الحقيقيّة ما نال، لكنّي أنا نفسي بطموحاتي أبحث عن سعادة أشدّ زيفا. على أيّة حال كان مبتهجا وكنت قلقا، كان مطمئنّا وكنت مضطربا. لو سألني إذّاك أحد هل أوثر الفرح أم التّرح لأجبت: "الفرح". ثمّ لو عاد يسأل هل أفضّل أن أكون مثل ذلك المتسوّل أم مثلي أنا ذاتي إذّاك لاخترت ذاتي بما أحمل من هموم. فأيّ انحراف! وهل من حقّ في موقفي؟ ما كان ينبغي لي تفضيل ذاتي عليه لأنّي أعلم منه،  إذ لم أكن أستمدّ من علمي السّعادة، وإنّما أسعى به إلى إرضاء النّاس، لا إلى تعليمهم بل فقط إلى إرضائهم. لذلك كنتَ ترضّض عظامي بعصا منهجك.

  10 فبعدا لمن يقولون: "ثمّة فرق بين فرح وفرح. ذاك المتسوّل كان يسعد بسكره أمّا أنت فكنتَ تنشد السّعادة بالمجد." أيّ مجد يا ربّ ذاك الّذي ليس فيك؟ فكما لم تكن سعادته حقيقيّة لم يكن ما أنشد مجدا حقيقيّا، بل كان يشوّش ذهني أكثر. وبينما كان المتسوّل سيخمّر سكره في تلك اللّيلة نفسها، نمتُ وصحوتُ بسكري، وسأنام به وأصحو، ولا أدري كم يوما سأظلّ كذلك. صحيح أنّ هناك فرقا في مصدر فرح كلّ أحد؛ أعلم ذلك، وشتّان ما بين فرحة الرّجاء المفعم بالإيمان وذاك الزّيف. لكن حتّى بهذا المعيار كان إذّاك يفضُلني: كان بلا شكّ أسعد منّي بكثير، لا فقط لأنّه يطفح جذَلا بينما كنتُ نهبا للهموم بل كذلك لأنّه اقتنى خمره وهو يرجو الخير للغير بينما أنشد لنفسي بالكذب مجدا فشوشا. قلتُ يومذاك لصحبي كلاما كثيرا بهذا المعنى وكنت أشير فيه* مرارا إلى وضعي وأجد أنّي في حالة سيّئة حقّا، وآلم وأزيد من سوء حالي. وبتّ كلّما ابتسمت لي مسرّة أنفت أن أحاول إمساكها لأنّها كأنّما تطير منّي قبل أن أمسّها.

6-7 إصلاح أليبيوس بدون قصد

  11 كنّا نتشاكى هذه الشّجون، ونعيش معا كإخوان، وكنتُ أتحادث في الموضوع بالأخصّ وبلا كلفة مع أليبيوس ونبريديوس. كان الأوّل أصيل نفس المدينة من أسرة وجيهة فيها ويصغرني سنّا. وقد درس عليّ أوّل ما بدأت أمارس التّعليم في مدينتنا، ثمّ في قرطاج لاحقا. وكان يحبّني كثيرا لأنّي أبدو له طيّبا وعالما، وكنت أحبّه من جهتي لما طُبع عليه من ميل كبير إلى الفضيلة برز على صغر سنّه. لكنّ فوّارة العادات القرطاجنّيّة، بما فيها من ولع بعروض التّسلية التّافهة، ابتلعته في جنون ألعاب السّرك. وبينما كان يتخبّط في وضعه الزّريّ، كنت أدرّس هناك الخطابة في مدرسة عامّة، وهو لا يؤمّ بعد دروسي بسبب خصومة حصلت بيني وبين أبيه. كنت على علم بشغفه المهلك بالسّرك، ويملأني ذلك قلقا عليه، إذ بدا لي أنّه سيضيع وربّما أضاع الأمل العظيم الّذي شمتُ فيه، لكن لم يكن لوعظه وإعادته بحزم إلى الجادّة من مجال لا لودّ الصّداقة ولا لحقّ المعلّم. إذ كنت أحسبه يشارك أباه في الموجدة عليّ، والحال أنّه لم يكن كذلك. فبدون مبالاة بإرادة والده بهذا الشّأن بدأ يأتي إلى حلقة درسي فيحيّيني ويستمع إلى شيء من دروسي ثمّ ينصرف.

  12 لكن فاتني أن أردعه كيلا يتلف استعداداته الطّيّية بشغفه الطّائش الأعمى بتلك الألعاب التّافهة. لكنّك يا ربّ أنت الّذي تسيّر دفّة كلّ براياك لم تنسه، فقد أعددتَه ليكون يوما بين بنيك حبر أسرارك المقدّسة. وليُنسب إليك إصلاحه بنحو بيّن أنجزتَه بواسطتي وبدون قصدي. بينما أنا جالس ذات يوم في مكاني المعتاد والطلاّب أمامي، أتى وسلّم وجلس، وأخذ ينصت باهتمام إلى ما كنت بصدده. كان بين يديّ بالصّدفة نصّ أشرحه لهم، وبدا لي مناسبا أن أستعير مثلا من ألعاب السّرك أجعل به فكرتي أظرف وأوضح مبديا سخرية لاذعة بأسرى ذلك الجنون. تعلم اللّهمّ أنّي ما قصدت إذّاك علاج أليبيوس من ذاك الوباء، لكنّه التقف لنفسه كلامي وظنّني قلته لا أقصد سواه. وما كان غيره سيتّخذه سببا للسّخط عليّ، أخذه ذاك الفتى المستقيم سببا للسّخط على نفسه وحبّي بمزيد من الحرارة. فقد قلتَ قديما في كتابك: "وبّخ الحكيم فيحبّك"، لكنّي لم أوبّخه بل أنت الّذي تستخدم الجميع بعلمهم وبدون علمهم حسب نسق محكم تعلمه- وهو نسق عادل-، صنعتَ من قلبي ولساني جمرات نار متّقدة تكوي بها نفسه الواعدة الآخذة في التّفسّخ وتداويها*. ألا فليخرسْ حمدك من لا يرى رحماتك الّتي تعترف لك من أعماقي. فعلا بعدما سمع تلك الكلمات اندفع من الهاوية العميقة حيث كان ينزل برضاه متعاميا بلذّة مدهشة وانتشل نفسه بتعفّف حازم وارتدّت بعيدا عنه أرجاس السّرك ولم يقصده مرّة أخرى. ثمّ إنّه تغلّب على معارضة أبيه لاتّخاذي مدرّسا فاستسلم وأذن له*. فعاد إلى الاستماع إلى دروسي، ووقع معي في نفس ضلالي محبّا في أتباع ماني تنسّكهم الظّاهريّ الّذي ظنّه صادقا وحقيقيّا، وهو جنون وتغرير يوقع في شراكه النّفوس العظيمة الّتي لم تعرف بعد سبر عمق الفضيلة، ويسهل خداعها بمظاهر الفضيلة المتصنّعة الزّائفة.

6-8 عودة أليبيوس إلى ولعه بالسّرك وضرورة التّوكّل على الله 

  13 لم يدعْ قطّ السّبيل الأرضيّة الّتي طالما مجّدها له أبواه، وسبقني إلى رومية ليتعلّم الحقوق وهناك اجتذبه إلى عروض المجالدة شغف لا يصدّق وبنحو لا يصدّق. فبعدما صار يكره تلك العروض ويشمئزّ منها التقى مرّة بالصّدفة في أحد الشّوارع بعض أصدقائه وزملائه العائدين من الغداء، ورغم رفضه الحازم ومقاومته جرّوه بقسر أخويّ إلى المدرّج حيث كانت تنظَّم في تلك الأيّام دورة من الألعاب الوحشيّة المشؤومة، وهو يقول: "إن تجرّوا جسمي وتجلسوه هناك فهل بوسعكم شدّ ذهني وعينيّ إلى تلك المشاهد؟ سأحضر وأنا غائب: بذلك سأغلبكم وإيّاها". فما كان منهم إلاّ أن أخذوه فورا معهم ربّما للتّحقّق من قدرته على إنجاز ذلك التّحدّي. ذهبوا إلى هناك وجلسوا على المقاعد المتوفّرة، وكلّ شيء مشحون بنشوة وحشيّة. أمّا أليبيوس فأغمض عينيه لمنع ذهنه من الاطّلاع على تلك الشّرور. وليته سدّ كذلك أذنيه! فعند أحد أحداث الصّراع تعالى هتاف الجمهور مدوّيا فهزّه بقوّة. غلبه فضوله وظنّ نفسه مهيَّأً حتّى إن رأى ما هناك مهما كان أن يتجاهله ويغلبه، ففتح عينيه ليتلقّى في نفسه جرحا أبلغ ممّا تلقّى في جسمه المجالد الّذي أراد مشاهدته، وسقط* بنحو أتعس من ذاك الرّجل الّذي أثارت سقطته الضّجّة الّتي من أذنيه ولجت وفتحت عينيه فكان ما أطاح وجندل نفسه الجسورة أكثر ممّا هي شجاعة، والضّعيفة في تعويلها على قدراتها بدلا منك كما كان أحرى بها. حالما رأى الدّم نغب الوحشيّة بمرآه، ولم يصرف بصره عن المشهد بل ركّزه عليه، وظلّ يتشرّب جنونه المسعور ولا يدري، ويستمتع بذلك الصّراع الأثيم منتشيا بتلك اللّذّة الدّمويّة. لم يعد نفس الشّخص الّذي أتى بل صار واحدا من العامّة* الّذين اندمج بهم ومرافقا بأتمّ المعنى لمن حملوه إلى هناك. لم الإطالة؟ تفرّج وهتف واهتاج وأخذ معه من هناك شغفا جنونيّا يدفعه إلى العودة لا مع من جرّوه فقط بل في مقدّمتهم وجارّا خلفه الآخرين. لكنّك مع ذلك انتشلته من هناك بيدك القويّة والرّحيمة وعلّمته الوثوق بك أنت لا بنفسه، لكن بعد ذلك بأمد طويل*. 

6-9 حادثة مريعة

  14 ظلّت هذه الحادثة ماثلة في ذاكرته لتكون له دواء في المستقبل. وكذلك الّتي وقعت له يوما وهو طالب وقد صار يدرس عليّ في قرطاج. راح عند الظُّهر يتدرّب في القصبة على حفظ نصّ لإلقائه غيبا على عادة الطّلاّب. قدّرتَ أن يلقي حرس القصبة القبض عليه كلصّ، سمحتَ بذلك يا ربّنا لا لسبب في اعتقادي سوى أن يشرع ذلك الرّجل الّذي سيكون له شأن عظيم في تعلّم ألاّ يجب لدى التّحقيق في قضيّة أن يستسهل الإنسان إدانة إنسان ويستجيز الحكم بالظّنّ والشّبهات. بينما هو يتمشّى أمام المحكمة بمفرده حاملا ألواحه ومخرزه إذا بفتى من جملة الطّلبة هو اللّصّ الحقيقيّ قد حمل خفية معه فأسا يتقدّم دون أن يشعر به إلى مشبّك من الرّصاص بأعلى شارع الصّيارفة ويشرع في كسر الرّصاص. لمّا سمع الصّيارفة الموجودون بالأسفل طَرق الفأس وقعوا في هرج ومرج وأرسلوا جماعة للقبض على من يجدون. فلمّا سمع أصواتهم خاف وانصرف تاركا عدّته كيلا تُضبط بحوزته. لكنّ أليبيوس الّذي لم يكن قد رآه يدخل لاحظ خروجه ورآه يفرّ بسرعة أراد استطلاع جليّة الأمر وذهب إلى المكان حيث وجد الفأس فوقف ينظر إليها في عجب. وإذا بالجماعة المرسلين إلى هناك يصلون فيجدونه وحده يحمل الفأس الّتي جلب طرقُها انتباههم. فقبضوا عليه وجرّوه مفتخرين أمام السّكّان المتجمهرين بإمساكهم السّارق متلبّسا بجريمته ومن هناك اقتادوه لتسليمه إلى القضاة.

  15 لكن إلى هذا الحدّ فقط كان يجب أن يتلقّن الدّرس، ففي الحال وقفتَ اللّهمّ إلى جانب البراءة الّتي كنتَ شاهدها الوحيد: فيما هم يحملونه، ليُحبس أو يوقع عليه العقاب، لقيهم في طريقهم المهندس المكلّف بتعهّد المباني العامّة. فسُرّوا للقائه لأنّه كان يرتاب بأنّهم المتسبّبون في سرقة الأشياء المفقودة في القصبة، وها هو أخيرا سيعرف الجاني. لكن سبق للرّجل أن رأى أليبيوس مرارا في بيت أحد أعضاء مجلس الشّيوخ اعتاد زيارته للمجاملة. فعرفه فورا وأمسك بيده وأبعده عن الحشد وسأله عن سبب المشكلة. بعدما سمع منه ما حدث، أمر كلّ الحضور الّذين تعالت أصواتهم متوعّدة بمرافقته. فوصلوا إلى بيت الجاني، حيث وجدوا أمام الباب غلامه الّذي يسهل لصغر سنّه أن يقرّ بكلّ شيء دون خوف على سيّده الّذي كان قد رافقه إلى القصبة. فتعرّف عليه أليبيوس وأخبر المهندس الّذي أرى الفأس للغلام وسأله لمن هي، فأجاب فورا: "هي لنا". ثمّ مضى في استجوابه فباح ببقيّة التّفاصيل. هكذا تحوّلت إلى ذلك البيت وجهة التّحقيق وارتبكت الجماهير بعدما كانت قد ظفرت به. وقُيّض لمن وُسم لنشر كلمتك بين النّاس والحكم في عديد القضايا في كنيستك* الخروج من تلك المحنة وقد اكتسب خبرة ومعرفة.

6-10 نزاهة قاض

  16 وجدته إذن في رومية وارتبط بي ارتباطا وثيقا، وذهب معي إلى مديولانيوم ليظلّ بصحبتي ويستفيد ممّا تعلّم في مجال الحقوق متّبعا رغبة أبويه أكثر من رغبته الخاصّة. وقد اشتغل قاضيا مساعدا ثلاث مرّات أكسبته إعجاب الآخرين، وكان هو نفسه يعجب أكثر ممّن يؤثرون الذّهب على ذمّتهم. وقُدّر له أن يُمتحن مرّة أخرى، لا بفتنة الحرص فقط، بل كذلك بمهماز الخوف. كان يشتغل في رومية مساعدا لأمين خزينة إيطالية، وكان يوجد آنذاك عضو بمجلس الشّيوخ متنفّذ يدين له كثيرون بجمائله أو تدين له رقابهم مخافة سطوته. أراد استجازة أمر غير قانونيّ من باب غطرسة المتنفّذين فرفض أليبيوس. أغراه بمكافأة فضحك، ولوّح بالوعيد فلم يأبه، والجميع معجبون من خلقه الفريد الّذي لم يتأثّر بشخص بمثل ذلك النّفوذ والصّيت له وسائل لا تحصى للإفادة والإيذاء، فيودّه صديقا أو يخشاه عدوّا. حتّى القاضي الذي كان يشتغل مساعدا له رغم عدم رضاه عن العمليّة المطلوبة لم يرفضها جهارا، وللتّملّص من الورطة أحال القضيّة إلى أليبيوس، مؤكّدا أنّ مساعده لن يسمح بذلك التّجاوز ولو فعل هو المطلوب لاستقال، وصدق في ما قال. كان أمر واحد يكاد أن يغويه: هوايته للأدب، فبحكم سلطته كان يمكنه أن يتدبّر انتساخ كتب، لكنّه باستفتاء روح العدالة فيه حوّل تفكيره إلى ما هو خير وأجدى، مرتئيا أنّ النّزاهة الّتي تمنعه أنفع من السّلطة التي تخوّله. كان ذلك لا محالة أمرا غير ذي بال، لكنّ من يكون أمينا في القليل يكون أمينا في الكثير أيضا. وما عبثا أتى من فم حقّك: "إن كنتم غير أمناء في مال الظّلم فمن يأتمنكم على مال الحقّ؟ وإن كنتم غير أمناء فيما ليس لكم فمن يعطيكم ما هو لكم؟"* كذلك كان الرّجل الّذي ارتبط بي في تلك الأيّام، وكان مذبذبا إذّاك مثلي حول نهج الحياة الّذي يحسن بنا اتّباعه.

  17 نبريديوس هو الآخر ترك موطنه القريب من قرطاج وقرطاج نفسها الّتي كان يتردّد عليها، وترك أراضي والده الممتازة، وترك بيته وأمّه الّتي لم تكن ستلحق به، وأتى إلى مديولانيوم لا لغاية أخرى سوى العيش معي في بحث محموم عن الحقيقة والحكمة. كان مثلي يتطلّع ومثلي يتأرجح باحثا بحماس عن حياة النّعيم وفاحصا بحصافة مستعصيات المسائل. ثلاثة أفواه غرثى تتشاكى سغبها لاهثة وترتجيك "لترزقها طعامها في حينه". وعند كلّ مرارة تتبع أعمالنا في هذا العالم وفق ألطافك، لمّا نتساءل عن الغاية ممّا نعاني كان الظّلام يتغشّانا ونرتدّ متأوّهين ونقول: "إلى متى يستمرّ شقاؤنا؟" كثيرا ما قلنا ذلك ودون أن نتركها، إذ لم يكن يتجلّى لنا أيّ أمر ثابت نتعلّق به بعد تركها.

6-11 بين متاع الدّنيا ونداء الله

  18 كنتُ من جهتي أعجب غاية العجب كلّما تفكّرت وتذكّرت لطول الوقت المنصرم منذ سنّ التّاسعة عشرة لمّا بدأت أنشد الحكمة بحماس وقّاد، مستعدّا لأترك حين ألقاها كلّ الآمال الزّائفة والأكاذيب الخرقاء لأهوائنا الباطلة. وها أنا بلغت الثّلاثين وما زلت أتخبّط في نفس الوحل وأشتهي بنهم التّنعّم بمتاع العاجلة الزّائل الّذي يبدّد نفسي، قائلا: "غدا سأكتشف الحقيقة، ستبدو لي بيّنة جليّة وسأمسكها. هذا فاوستوس سيأتي ويشرح لي كلّ ما يحيّرني. يا للأكاديميّين العظام! ألا يمكن حقّا إدراك أيّة حقيقة ثابتة بشأن نهج حياتنا؟ بل لنجدّ في البحث ولا نقنطْ. هي ذي أمور في الكتاب المقدّس طالما بدت لي لامعقولة ويمكنني اليوم فهمها بنحو مختلف يستسيغه العقل. سأركز قدميّ في الموقع حيث وضعني أبواي صبيّا حتّى تنجلي لي الحقيقة ساطعة. لكن أين ومتى ألتمسها؟ لا فراغ لأمبروسيوس لي ولا فراغ لي للقراءة. ثمّ أين أبحث عن الكتب؟ كيف ومتى أقتنيها؟ ممّن آخذها؟ لأوزّعْ أوقاتي ولأخصّصْ ساعات منها لخلاص نفسي. لقد وُلد لديّ رجاء عظيم بعدما بان لي أنّ العقيدة الكاثوليكيّة لا تنادي بما ظننتُ سابقا واتّهمتها به باطلا. العالمون بها يستنكرون تمثّل الله محدّدا بصورة الجسم الإنسانيّ. وأتردّد أن أقرع فيُفتح لي المزيد! الطّلاّب يشغلونني ساعات فترة الصّباح فماذا أفعل بالأخرى؟ لِم لا أنفقها في ذلك البحث؟ لكن متى أزور إذّاك أصدقائي المتنفّذين الّذين أحتاج إلى مساعدتهم؟ ومتى أحضّر ما يبتاع طلاّبي؟ متى أستعيد قواي مريحا نفسي من التّفكير في شتّى هواجسها؟

  19 ألا سحقا لكلّ تلك السّفاسف، ولنطّرحْ تلك المشاغل الباطلة التّافهة! لأصرفْ همّي إلى البحث عن الحقيقة فقط. بؤسٌ كلّها الحياة، وساعة الموت مجهولة، الأجل يأتي بغتة، فكيف سأنصرف من هذه الحياة؟ وأين سأتعلّم ما أهملت تعلّمه فيها؟ ألستُ معرّضا لأنال عقابا شديدا على تفريطي؟ ماذا لو يزيل الموت وينهي مع الوعي كلّ شاغل؟ ذاك أيضا يجب البحث عن الحقيقة بشأنه. لكن بعيدا عنّي الظّنّ بأنّ الأمر كذلك. فما عبثا ولا باطلا ينتشر سلطان دين المسيح في رفعة وجلال على الأرض قاطبة. وما كان الله ليصنع لنا أبدا مثل تلك الأشياء العظيمة الرّائعة لو كانت حياة الرّوح تفنى هي أيضا بموت البدن. لِم التّردّد إذن في ترك مطامح الدّنيا والاتّجاه كلّيّة إلى البحث عن الله وحياة النّعيم؟ لكن مهلا: جميلة هي أيضا تلك الأمور الدّنيويّة ولها حلاوة لا يستهان بها. لذا لا يجب فطام النّفس عنها دفعة واحدة بدون تروّ، فخزيٌ أن أعود إليها لاحقا. هأنذا على أعتاب نيل شرف ما، فماذا أبتغي أكثر من متاع الدّنيا؟ لي كثير من الأصدقاء المتنفّذين تحت الطّلب، يمكنني إن لم أتعجّل الحصول على منصب أرقى نيل العمادة على الأقلّ. بوسعي كذلك الزّواج من امرأة ذات مال كيلا أثقل كاهلي بنفقات أسرة. تلك غاية مناي. كثير من عظماء الرّجال يصلحون مثالا يحتذى في التماس الحكمة تزوّجوا."

  20 كنت أحدّث نفسي هذا الحديث، وهذه الرّياح تميل بقلبي وتدفعني إلى هنا وهناك، والأيّام تمرّ، وأنا أتأخّر في التّحوّل إلى الله وأتباطأ يوما فيوما عن الحياة فيك، ولا أتباطأ عن الموت في ذاتي كلّ يوم. كنتُ أحبّ حياة النّعيم وأخشاها حيث توجد حقّا، وأنشدها وأنا أفرّ منها. وأحسبني سأبتئس كثيرا إن حُرمتُ عناق امرأة، ولا أفكّر في الدّواء الّذي تقدّمه رحمتك لعلاج هذا الضّعف فما جرّبته قبل، وأظنّ البتوليّة طاقة تأتي من قوى الإنسان الذّاتيّة الّتي لم أكن أحسّ بتوفّرها فيّ جاهلا في حمقي بما أتى في كتابك من أنّ لا أحد يكون عفيفا ما لم تهبه العفّة. وما كنتَ إلاّ ستمنحنيها لو أبلغتُ سمعك زفير قلبي، وبإيمان صلب ألقيت إليك بهمّي.

6-12 رغبته في الزّواج

  21 ما انفكّ أليبيوس ينهاني عن الزّواج مردّدا أنّا إن فعلتُ لن نستطيع العيش معا بأيّة حال متفرّغين لطلب الحكمة خليّين من كلّ همّ سواها كما كان ديدننا منذ أمد. فقد كان هو نفسه يتّبع بتوليّة صارمة، والعجيب في الأمر أنّه عرف في مستهلّ شبابه تجربة معاشرة امرأة لكنّه لم يتعلّقها، وخلّفت لديه تجربته كثيرا من المرارة والاحتقار إزاء تلك العلاقة وظلّ يعيش مذّاك في عفّة تامّة. أمّا أنا فاعتدتُ الاعتراض عليه بأمثلة متزوّجين عكفوا على الحكمة وارتضاهم الله واستمرّوا على الإخلاص والودّ لخلاّنهم. كنتُ أنا نفسي بالتّحقيق بعيدا جدّا عن رفعة أنفسهم، مكبّلا بسقم جسدي، أجرجر بلذّة مميتة قيدي خائفا من انعتاقي ودافعا كمن به جرح ناغز كلمة النّصيح ويد الآسي. بل فوق ذلك راحت الحيّة تخاطب من خلالي أليبيوس أيضا، وبلساني تحيك وتنصب في طريقه شراكها المغرية لتورّط بها قدميه البريئتين الطّليقتين.

  22 كان يعجب إذ يراني، أنا الّذي يوليني فائق التّقدير، عالقا في دبق اللّذّة إلى حدّ التّأكيد أثناء مناقشاتنا حول المسألة أنّي أعجز تماما عن عيش حياة البتوليّة، والدّفاع عن موقفي إذ أرى عجبه منّي قائلا إنّ هناك فرقا شاسعا بين العلاقة العابرة العجولة الّتي جرّبها ولا يكاد إذّاك يذكرها فيسهل عليه ولا يضيره الاستخفاف بها، وملذّات معاشرتي الطّويلة الّتي لو زيد إليها اسم الزّواج الجليل لما أمكنه بعد العجب ألاّ أستطيع ازدراء تلك الحياة. فبدأ بدوره يرغب في الزّواج، لا انقيادا للرّغبة في ذلك النّوع من المتعة بل من باب الفضول، ويقول إنّه يرغب في معرفة هذا الجانب الّذي تبدو لي بدونه حياتي، الّتي تعجبه كما هي، عقابا لا حياة. وكانت نفسه الطّليقة من هذا القيد تدهش من أسري وتصل بها الدّهشة حدّ الرّغبة في اختباره، فتعتزم إجراء نفس التّجربة والتّعرّض بذلك إلى احتمال الوقوع في الأسر مصدر دهشتها، إذ تريد "عقد عهد مع الموت" والحال أنّ "الذي يحبّ الخطر يسقط فيه". في الحقيقة لم يكن يجذب كلينا إلاّ قليلا ما في الزّواج من جمال، أعني إدارة شؤون أسرة وتربية ذرّيّة. بل كانت عادة إشباع شهوتي الّتي لا تشبع ما يبقيني في الأسر ويعذّبني بشدّة، أمّا هو فكانت دهشته تجرّه إلى الأسر. تلك كانت حالنا حتّى أرسلتَ، أيّها العليّ الّذي لم تتخلّ عن وحلنا ورحمتَ بؤسنا، إلينا غوثك بطرقك الخفيّة العجيبة.

6-13 خطوبته

  23 كنت أتعرّض إلى تحضيض ملحّ على الزّواج، حتّى خطبتُ فتاة ووعدني بها أهلها، فقد أولت أمّي المسألة عناية قصوى عسى أن ينقّيني لدى زواجي التّعميد المنقذ. كانت تطفح بهجة وهي تراني مهيّأً في غضون أيّام لتلقّيه وترى تحقّق أمانيها ووعودك في إيماني. أخذتْ بطلب منّي ووفق رغبتها تتضرّع إليك يوميّا، رافعة نحوك صراخ قلبها لتبدي لها في المنام شيئا عن زواجي المنتظر فلم تشأ قطّ الاستجابة لها. وربّما رأت بعض السّخافات والأوهام الّتي يدفع إليها جموح فكر الإنسان المنشغل بهاجس ما، فترويها لي بدون تلك الثّقة الّتي اعتادت إظهارها لمّا تُظهر لها أنت تلك الرّؤى، بل باستخفاف. كانت تميّز كما تقول نكهة معيّنة تعجز عن تفسيرها بالكلمات تفرّق بين ما توحي به إليها وأضغاث الأحلام الآتية من نفسها. مع ذلك ظلّت تستحثّني فطلبتُ الفتاة لإتمام الزّواج. كانت سنّها دون البلوغ بسنتين ولأنّا ارتضيناها انتظرناها.

6-14 مشروع تعاونيّة

  24 كنّا مجموعة من الأصدقاء نتطارح ونكره دوامة الحياة الإنسانيّة المليئة بالمتاعب، قلّبنا في أذهاننا وعقدنا العزم بنحو قطعيّ تقريبا، على العيش في دعة بمعزل عن النّاس، بانين حياة الدّعة المنشودة على أساس جعْل كلّ ما بحوزتنا ملْكا مشتركا فندمج مجموع أملاكنا الفرديّة في ملك جماعيّ بحيث لا يكون شيء لهذا وشيء لذاك بل بفضل مودّتنا الصّادقة يكون كلّ شيء مَشاعا للجميع. بدا لنا أنّ عددنا يبلغ حوالي عشرة أعضاء، ومن ضمننا أفراد ذوو ثروة طائلة، لاسيما رومانيوس أصيل مدينتي الّذي تربطني به صداقة حميمة منذ الصّبا، وجرّته إلى مجموعتنا صعاب جسام في شؤونه، فكان أشدّنا حرصا وعجلة على بعث تعاونيّتنا، ومشورته محلّ كلّ اعتبار لأنّ ثروته الطّائلة تفوق إسهامات الآخرين. وقد بدا لنا أن يتناوب اثنان منّا سنويّا كناظريْن على توفير كلّ ما يلزم المجموعة بينما يستريح الآخرون من كلّ شاغل*. لكن بعدما بدأنا نفكّر في إمكانيّة سماح نسائنا بذلك، فبعضنا متزوّجون ونحن من جهتنا على أهبة الزّواج، تداعى ذلك المشروع الجميل المحكم الحبك وتهشّم بين أيدينا وتُرك. فعدنا إلى التّنهّد والشّكوى والسّير على طرق العالم الرّحبة الّتي طالما ذرعتها الأقدام قبلنا إذ كانت "في قلوبنا أفكار كثيرة لكنّ مشورتك هي الّتي تثبت". كنتَ في حكمة مشورتك تضحك من خططنا وتهيّء لنا خططك، مقرّرا أن تعطينا الطّعام في حينه وتفتح كفّك وتُشبع أنفسَنا مرضاتُك.

6-15 انفصاله عن سرّيّته. أسر الشّهوة

  25 في الأثناء كانت ذنوبي تتكاثر، وبعدما انتُزعتْ من جنبي المرأة الّتي كنت أعاشر كعقبة أمام زواجي، جُرح وانفطر قلبي الّذي تعلّقها وظلّ يجرّ جرحه النّازف. عادت إلى إفريقية ناذرة لك ألاّ تعرف بعدي أيّ رجل آخر وتاركة لي ابن سِفاح أنجبته منّي. أمّا أنا البائس العاجز عن تقليد امرأة* وتحمّل الانتظار سنتين حتّى البناء على الفتاة الّتي كنت أنتظرها للزّواج، والواقع تحت سيطرة شهوتي أكثر من تأثير رغبتي في الزّواج، فاقتنيت امرأة أخرى، خليلة تتغذّى وتستمرّ بها علّة روحي بكامل قوّتها بل متفاقمة في ظلّ عادتي المستديمة حتّى حلول عهد الزّوجيّة. هكذا لم يكن الجرح الّذي تركتْه فيّ عمليّة الاستئصال يندمل بل أخذ بعد الحمّى والأوجاع يتعفّن ويزداد إيلاما ومع فتور حمّاه استمرّ يؤلمني وقد ازداد نغزا ووخزا.

6-16 سعادة الحسّ وسعادة الرّوح

  26 لك الحمد ولك المجد يا نبع الرّحمات! كنتُ أزداد بؤسا وأنت تزداد قربا منّي، وأكثر فأكثر تلازمني يدك الّتي ستنتاشني من طين الحمْأة وتغسلني، دون أن أدري. لم يكن يمنعني من الانحدار في هاوية شهوات الجسد السّحيقة سوى الخوف من الموت ومن حسابك الآتي، فإنّه عبر تقلّبات أفكاري لم يفارق قلبي أبدا. ما فتئتُ أتجادل مع صديقيّ أليبيوس ونبريديوس حول حدود الخير والشّرّ، وكان أبيقور* سيفوز حتما بسعفة الانتصار في نظري لولا إيماني باستمرار حياة الرّوح بعد الموت، والجزاء الأبديّ، وهو ما رفضه. كنتُ أتساءل: "لو كنّا خالدين ونعيش في لذّة جسديّة لا تنتهي دون أدنى خوف من فقدانها، لِم لا ننعم بالسّعادة؟ ماذا ننشد غير ذلك؟" وما كنت أعلم أنّه شقاء ما بعده شقاء ألاّ أستطيع، في تخبّطي وعماي، تصوّر نور الفضيلة والجمال المنشود لذاته الّذي لا تراه عيننا الحسّيّة وإنّما بعين باطننا نراه. وفي بؤسي لم أكن أفكّر من أيّ مصدر أستمدّ لذّتي كلّما تحدّثت مع خلاّني حتّى عن تلك المخازي، ولا أنّي لا أستطيع بدونهم أن أنعم بالسّعادة ولو حسب الحسّ كما اعتدتُ آنذاك، حتّى لو غمرني طفاح من لذّات الجسد. كنتُ أكنّ لأولئك الأصحاب حبّا مجرّدا من الأغراض وأحسّ أنّهم يبادلونني مثله. يا للسّبل المعوجّة! ويل نفسي الجسورة الّتي أمِلتْ أن تنال بعد تفريطها فيك شيئا أفضل! تتقلّب وتتقلّب، على الظّهر حينا وحينا على الجنبين وعلى البطن، وكلّ الأوضاع تعنتها، فأنت وحدك راحتها. ثمّ ها أنت تأتي وتنقذنا من أخطائنا المزرية وتضعنا في طريقك وتواسينا وتقول: "سابقوا فأنا أحملكم، أنا أقلّكم وآتي بكم إلى جواري."