القدّيس أغسطينوس

 

الاعترافات

 

الكتاب الخامس

 

حواش 

13

12

11

10

9

8

7

6

5

4

3

2

1

مقدّمة

 

 

5- الكتاب الخامس

5-1 دعاء

  1 تقبّل يا ربّ اعترافاتي قربانا يقدّمه لك لساني الّذي جبلتَ وحضضتَ على الاعتراف لاسمك، واشف كلّ عظامي، ولتقل: "من مثلك أيّها الرّبّ؟" لا يعلّمك شيئا ممّا في سريرته من يعترف لك، فما يمنع القلب المغلق عينيك من الولوج ولا تردّ يدَك قساوةُ عبادك بل تذيبها إن شئتَ مُنزلا رحمتك أو نقمتك، و"ليس من يتوارى عن حرّك". لتسبّحْ لك نفسي لتحبّك، ولتعترفْ لك برحماتك لتسبّحك. خليقتك كلّها لا تكفّ أو تمسك عن تسبيحك: كلّ فكر بفمه المتّجه إليك والحيوانُ والجمادُ بفم المستغرقين في تأمّله، لتنتعشَ فيك نفوسنا العليلة من سُقامها متّخذة ممّا صنعت سندا ومرتقية إليك أنت من صنعتَ هذه المعجزات فهناك الانتعاش والقوّة الحقيقيّة.

5-2 لا مفرّ من الله إلاّ إليه

  2 ليذهبْ وليفرّ بعيدا عنك القلقون والظَّلّمَةُ*، فإنّك تراهم وتبدّد ظُلْمتهم؛ ها هو الكون بهيّا بهم وهم أنفسهم دِمام. فيم ضاروك وفيم دنّسوا ملكوتك الممتدّ من أعالي سمائك إلى أقاصي أرضك خيّرا سليما؟ أين فرّوا حين فرّوا من وجهك؟ وأين يفرّون منك فلا تجدهم؟ لقد فرّوا منك كيلا يروك وأنت تراهم، ليجدوك وقد أُعموا أمامهم، فأنت لا تترك شيئا ممّا خلقت، ليجدوك أمامهم فيلقوا حساب ظلمهم العادلَ*، منسحبين من فيء لطفك، لاقين أمامهم عدالتك، وواقعين تحت طائلة بأسك. هم يجهلون طبعا أنّك في كلّ مكان، وأنّ لا حيّز يحويك، وأنّك وحدك الحاضر باستمرار حتّى مع الفارّين منك بعيدا. فليلتفتوا ويبحثوا عنك، فإنّك ما تركتَ خلقك كما تركوا خالقهم. ليلتفتوا ويبحثوا عنك فها أنت في أعماق قلوبهم، في قلوب المعترفين لك المرتمين أمامك الباكين في حضنك بعد متايههم المنهكة فتمسح بسماحة* دموعهم ويمعنون في البكاء ويسعدون به فأنت اللّهمّ الّذي صنعتَهم تنعشهم وتواسيهم لا بشر من لحم ودم. وأنا أين كنتُ لمّا كنتُ أبحث عنك؟ كنتَ أمامي لكنّي كنت قد نأيتُ عن ذاتي فما كنت أجدها ولا أجدك أكثر ممّا أجدها.

5-3 فاوستوس وقضايا عالقة في المانويّة

  3 سأتحدّث أمام ربّي عن السّنة التّاسعة والعشرين من عمري. كان قد قدم إلى قرطاج أسقفّ من أتباع ماني يدعى فاوستوس*، واحد من أكبر "فخاخ إبليس"، أوقعت طلاوة كلامه الكثيرين في شراكه. ومع ثنائي عليها كنت أميّزها عن الحقيقة الّتي أتوق إلى تعلّمها. كان همّي لا الطّبق البلاغيّ بل الغذاءَ العلميّ الّذي يقدّم لي فاوستوس المذكور الذّائع الصّيت عند جماعته. وقد سبقته إليّ شهرته كرجل ضليع في كلّ العلوم المعتبرة واسع الاطّلاع خاصّة على العلوم الشّريفة. ولمّا كنت قد قرأت كثيرا من كتب الفلاسفة وما فتئت أحفظ تعاليمهم، رحت أقارن بعضها بخرافات المانويّين الهذرة. فبدت لي أكثر احتمالا أقوال أولئك الّذين "استطاعوا إدراك كنه الدّهر" فقط دون أن يكتشفوا ملِكه. لأنّك عظيم يا ربّ و"تنظر إلى المتواضع وأمّا المتكبّر فتعرفه من بعيد"، أنت قريب من "منكسري القلوب" فقط ولا يجدك المتكبّرون حتّى لو استطاعوا بفطنتهم المتطلّعة عدّ النّجوم وحبّات الرّمال وقيس مسافات الأفلاك واستكشف مدارات النّجوم.

  4 بذهنهم وبالذّكاء الّذي وهبتهم يبحثون في هذه المسائل واكتشفوا الكثير، وتكهّنوا قبل عدّة سنوات بخسوف الشّمس والقمر في أيّ يوم وأيّة ساعة وبأيّ مقدار فلم يخطئوا في حساباتهم وتمّ كلّ شيء كما تكهّنوا به. ووضعوا قواعد كشفتها بحوثهم، نطالعها اليوم فتنبئنا في أيّة سنة وأيّ شهر وأيّة ساعة وبأيّ مقدار سيخسف القمر والشّمس فيتمّ طبق التّوقّعات*. ويعجب من يجهلون تلك المسائل ويندهشون، ويبتهج من يعلمونها ويستكبرون وفي كبْرهم الكفور يبتعدون عن نورك وتخسف أبصارهم فيتنبّؤون بخسوف الشّمس الآتي ولا يرون خسوفهم الحاضر، لأنّهم لا يبحثون بتقوى عن مصدر فكرهم الّذي به يبحثون عن ذلك. ولمّا يكتشفون أنّك أنت خلقتهم لا يقدّمون لك أنفسهم لتحفظ ما صنعتَ. ولا يضحّون لك بأنفسهم كما صنعوا بأنفسهم فيقتلون تساميهم كطير السّماء، وفضولهم الّذي به كسمك البحر يسيرون في سبل البحار، وشهوات جسدهم كبهائم الصّحراء*، لتتلف اللّهمّ أنت "النّار الآكلة" أهواءهم الميّتة وتبعثهم للحياة الأبديّة.

  5 لكنّهم لا يعرفون الطّريق، كلمتك الّذي به خلقت ما يحصون، وهم أنفسهم الّذين يحصون، والعقل الّذي به يحصون. أمّا علمك فليس له إحصاء. ابنك الوحيد "صار لنا حكمة وبرّا وقداسة"، وأحصي بيننا ودفع جزية قيصر. لا يعرفون هذه الطّريق الّتي بها ينزلون من أنفسهم إليه ثمّ يصعدون به إليه. لا يعرفون تلك الطّريق ويحسبون أنفسهم عالين مع الكواكب ساطعين، فها هم هووا على الأرض و"أظلمت قلوبهم". وهم يقولون عن الخليقة حقائق كثيرة ولا يبحثون بتقوى عن الحقّ صانع الخليقة، لذا لا يجدونه، "وإن وجدوه لم يمجّدوه ولم يشكروه كإله وسفهوا في أفكارهم، وزعموا أنّهم حكماء"، ناسبين لأنفسهم ما لك بل ومجتهدين في غيّهم لينسبوا لك ما لهم، عازين أكاذيبهم لك أنت الحقّ، و"مستبدلين مجد الله الذي لا يدركه الفساد بشبه صورة إنسان ذي فساد وطيور وذوات أربع وزحّافات" فيبدلون حقّك بالباطل ويتّقون ويعبدون المخلوق دون الخالق.

  6 مع ذلك كنت أحفظ عنهم آراء صحيحة كثيرة عن ظواهر الطّبيعة وأجد تعليلها العقليّ بالحسابات والمتتاليات الزّمنيّة والأرصاد الفلكيّة وأقارنها بأقوال ماني الّذي كتب عن هذه المسائل مطنبا مغرقا في الهذيان فلا أجد لديه تعليلا لانقلابات الشّمس وتعادلات اللّيل والنّهار دوريّا، ولا خسوف الشّمس والقمر ولا أيّ شيء ممّا تعلّمت في كتب الحكمة الدّنيويّة. هنا أجد نفسي مأمورا بتصديق أقوال لا أجد لها تعليلا يؤيّده الحساب والعيان، بل تخالفهما.

5-4 علم الطّبيعة ومعرفة الله

  7 فهل ترتضي اللّهمّ إله الحقّ كلّ من يعرف تلك الأمور؟ كلاّ بل شقيّ من يعرفها كلّها ويجهلك، وسعيد من يعرفك حتّى وهو يجهلها. أمّا من يعرفك ويعرفها هي أيضا، فما هو بمعرفتها أسعد، بل بك أنت وحدك سعادته وإذ يعرفك "يمجّدك ويشكرك ولا يسفه في أفكاره". وكما أنّ من يعلم امتلاكه شجرة ويشكرك على استفادته منها، حتّى إن جهل كم ذراعا يبلغ طولها وعلى أيّة مساحة تمتدّ، أفضل ممّن يحصي كلّ فروعها ولا يملكها ولا يعرف ويحبّ منشئها، كذلك المؤمن الّذي يملك كلّ خزائن الكون ودون أن يكون له شيء يملك كلّ شيء بتعلّقه بك أنت الّذي يخضع لك كلّ شيء، حتّى إن لم يعرف مدار بنات نعش فمن الحمق الشّكّ في أنّه أفضل ممّن هو يعلم مقادير السّماء وعدد الأفلاك وأوزان العناصر، ثمّ هو في شُغل عنك أنت الّذي "رتّبت كلّ شيء بمقدار وعدد ووزن".

5-5 أخطاء ماني في علم الطّبيعة تدمّر الثّقة في تعاليمه الدّينيّة

  8 لكن من ترى كان يطلب من ماني أن يكتب في تلك الأمور الّتي يمكن قطعا تعلّم تقواك دون معرفتها؟ فقد قلتَ للإنسان: "ها أنّ التّقوى هي الحكمة." كان يمكن أن يجهلها حتّى لو استقصى كلّ تلك المسائل. لكن لجهله بهذه مع اجترائه السّفيه على تعليمها، لم يمكن قطّ أن يعرف الأولى. من غرور الدّنيا التّبجّح بهذه المعلومات الدّنيويّة ولو عُلمت، والبرّ الاعتراف لك*. لكنّه جانب هذه السّبيل وعجّ في هذه المسائل فافتضح لدى من تعلّموها بحقّ وعُلم مدى إلمامه بغيرها الأخفى بجلاء*. أراد ألاّ يستهان بقدره وحاول إقناعنا بأنّ روحك القدس معزّي وواهب المؤمنين بك حلّ بكامل قدرته في شخصه. لذا لمّا ضُبط عليه قول أباطيل عن السّماء والنّجوم وحركات الشّمس والقمر حتّى إن انعدمت صلة تلك الأمور بالتّعاليم الدّينيّة برز بنحو كاف ما في اجترائه عليها من تعدّ آثم معتدّ، لا فقط لأنّه يهرف بما لا يعرف، بل كذلك لأنّه يقول أباطيل خرقاء باعتداد مغرور بلغ حدّ نسبتها إلى الذّات الإلهيّة فيه.

  9 لمّا أسمع أخا لي في المسيح يخوض في هذه الأمور مع جهله بها ويخلط بينها أنظر بأناة إلى آرائه ولا أرى عليه من بأس- ما لم يعتقد بشأنك ما لا يليق بشرفك اللّهمّ خالق الكون- إن اتّفق أنّه يجهل مواضع وأحوال منظوراتك. لكن هناك مضرّة إن زعم أنّ لمذهبه ذاك علاقة بتعاليم الدّين، ولجّ في عناده مؤكّدا ما ليس له به علم. لكن حتّى هذا السّقم يجد في مهد الإيمان العون من أمومة محبّتك حتّى "ينتهي الإنسان الجديد إلى إنسان كامل، حتّى لا يكون فيما بعد مائلا مع كلّ ريح تعليم". أمّا ذاك الرّجل الّذي انتصب معلّما وإماما وقائدا وزعيما لمن أقنعهم بأفكاره، وبلغت جسارته حدّ إيهام أتباعه بأنّهم يتبعون لا بشرا أيّا كان بل روحك القدس فمن لا يرى جنونه المجاوز كلّ مدى، إن ثبتت عليه أكاذيب، جديرا بالبغض والتّشنيع؟ لكنّي لم أكن قد اكتشفت بعد بوضوح إن لم يكن ممكنا تفسير تناوب النّهار واللّيل بين الطّول والقصر وتعاقبهما والخسوف وظواهر مماثلة قرأتها في كتب أخرى بناء على تعاليمه أيضا؛ فإن أمكن ذلك ربّما، بات البتّ غير مؤكّد لديّ لكن سأرجّح سلطته أساسا لمعتقدي بسبب ما يُعتقد عن قداسته.

5-6 خيبة أمله في فاوستوس

  10 طوال قرابة تسع سنين، أصغيتُ أثناءها شارد اللّبّ إلى أولئك الجماعة، انتظرتُ بشوق عظيم مجيء فاوستوس هذا. فقد كان الأتباع الآخرون الّذين جمعتني الصّدفة بهم والعاجزون عن الإجابة على أسئلتي حول تلك المواضيع يعدونني بأنّه عند قدومه واجتماعي وتحاوري معه سيبيّن لي بسهولة ووضوح تامّ تلك المسائل وأيّة أخرى أهمّ تعرض لي إن عرضتها عليه. فلمّا جاء وجدتُه رجلا كيّسا لبقا يردّد مقالاتهم بطريقة أحلى، لكن ما حاجة ظمئي إلى ذلك السّاقي الأنيق وأقداحه النّفيسة؟ فقد صخّتْ من تلك المقولات أذناي، ولم تكن تبدو لي أفضل لصياغتها بلفظ أفضل، فما بصحيح كلّ قول فصيح، ولا بحكمة الألباب لياقة المظهر وأناقة الخطاب. وما أصاب في الحكم من كانوا يعدونني به، فإنّما بدا لهم حكيما أريبا لأنّه كان يفتنهم بسحر بيانه. والحال أنّي عرفت كذلك نوعا آخر من النّاس يرتابون بالحقيقة ويرفضون قبولها إن صيغت بأناقة وجزالة. لكنّك علّمتني يا ربّ بطرقك العجيبة الخفيّة، ولذا أؤمن بما علّمتني لأنّه الحقّ ولا معلّم سواك للحقّ أينما كان وأيّا كان مأتاه. تعلّمتُ منك إذن ألاّ يجب اعتبار مقولة ما صحيحة لأنّها صيغت بعبارة بليغة، ولا خاطئة لأنّ دوالّ الشّفاه تترجم عنها بغير تأنّق، وبالمقابل ليس حقّا بالضّرورة ما يفصَح عنه بدون أناقة في اللّفظ، ولا غلطا كلّ خطاب مزخرف. وأنّ الحكمة والحماقة كجيّد الأطعمة وغثّها، بينما العبارات المنمّقة أو غير المهذّبة كالأواني الفاخرة أو الخشنة.

  11 كانت شاهيتي الّتي انتظرت بها طوال تلك المدّة ذلك الرّجل تلتذّ لا محالة بحيويّة وحماس نقاشه، وعثوره بيسر على الكلمات المناسبة لإلباس معانيه، وكنت معجبا به، ومع الكثيرين وأكثر منهم أشيد به وأعلي شأنه، لكنّي أتضايق مع ذلك من عدم توفّر فرصة لي، في زحام المستمعين إليه، لمطارحته المسائل الّتي تشغلني ومناقشته فيها في حوار بلا كلفة فيه لكلينا أخذ وردّ. فلمّا تسنّى لي ذلك ووجدت لديه أخيرا مع بعض رفاقي أذنا مصغية وفي وقت لا يستهجن فيه النّقاش فطرحت عليه بعض هواجسي، وجدته بالأحرى قليل الدّراية بالعلوم الشّريفة باستثناء النّحو الذي بدا إلمامه به عاديّا. ولقراءته بعض الخطب التّولّيانيّة وقليل من كتب سينيكا*، وشيئا من نظم الشّعراء، وكتب فرقته المؤلّفة بلاتينيّة أنيقة، ومواظبته على التّدرّب يوميّا على المحادثة استطاع صقل منطقه الّذي زاده رونقا وفتنةً حسن استخدامه لفكره وقدر من الجاذبيّة الطّبيعيّة. أفكان الأمر كما أذكر يا ربّي وسيّدي وحكَم سريرتي؟ ذان قلبي وذاكرتي أمامك، أنت الّذي كنت إذّاك تتصرّف بي حسب خفيّ تدبيرك، وتنصب مذّاك آثامي لعينيّ لأراها وأبغضها.

5-7 فتور حماسه للمانويّة

  12 بعدما بدا لي بقدر كاف جهله بتلك الفنون الّتي خلته قبل يتقنها، بدأت أيأس من قدرته على إيضاح وحلّ المسائل الّتي كانت تحيّرني، والّتي يمكن أن يجهلها مع امتلاك الدّين الصّحيح لكن لو لم يكن مانويّا. فكتبهم تعجّ بخرافات طويلة عن السّماء والنّجوم والشّمس والقمر. لم أعد أظنّ بوسعه تفسيرها لي بدقّة، كما كنت أتمنّى، حتّى يتّضح لي، بمقارنتها بالتّعاليل الحسابيّة الّتي قرأتها سابقا في كتب غيرهم، إن كان ما جاء في كتب ماني يفضلها أو على الأقلّ يعدلها في تصوير الوقائع. مع ذلك طرحتها عليه للنّقاش، فأحجم بتحفّظ مشروع عن الاعتباء بتلك المهمّة، إذ كان يعلم جهله بتلك القضايا، ولم يخجل من الإقرار به. لم يكن كعديد من الهذرين الّذين طالما دُهيتُ بهم يزعمون تعليمي ولا يفسّرون شيئا. خلافا لهم كان له فؤاد، ولئن لم يستقم معك فما خلا من الحيطة لنفسه. كلاّ لم يبلغ حدّ الجهل بجهله، وأبى أن يزجّ بنفسه، بنقاش متهوّر حول تلك المسائل، في متاهات لا مخرج منها وما باليسير الانكفاء منها. وفي هذا زادني إعجابا به، فإنّ تحفّظ فكر يُقرّ بعدم كفاءته لأجمل من تحرّقي للمعرفة. ولقد وجدته في كلّ المسائل العويصة واتلدّقيقة كذلك.

  13 لذا ثُبّطتْ همّتي لدراسة كتب المانويّة وزاد يأسي من علمائهم الآخرين بعدما بدا لي على تلك الحال أحد مشاهيرهم في عدّة مسائل تشغل بالي. بعد ذلك طفقت أمضي معه ساعات طوالا لولعه المشبوب بالأدب الّذي كنت إذّاك بصفتي أستاذ الخطابة بقرطاج أدرّسه للشّبّان، وأقرأ معه كتبا سمع بها ويودّ الاطّلاع عليها أو أقدّر أنّها تناسب فكرا كفكره. والحقّ أنّ الحماس الّذي أظهرته قبل للإيغال في هذه الفرقة خبا بعدما عرفت ذلك الرّجل، لا لأنفصل عنهم تماما، بل نظرا لأنّي لم أجد أفضل من ذلك المذهب الّذي زججت فيه بنفسي بنحو ما، قرّرت أن أقنع به مؤقّتا حتّى يتّضح لي موقف أحقّ بأن أتبنّاه*. هكذا أخذ فاوستوس ذاك الّذي نصب للكثيرين "أشراك الموت" يفكّ بغير قصده أو علمه الشّرَك الّذي تلجلجت فيه. ففي خفيّ عنايتك ما تخلّتْ عن نفسي طوال تلك الفترة يداك يا ربّ وما انفكّت أمّي ليل نهار تقدّم لك بدموعها دم قلبها قربانا لأجلي. وتصرّفتَ معي وفق خططك العجيبة. أجل أنت اللّهمّ الّذي صنعت ذلك، فإنّ "الرّبّ يقوّم خطوات الرّجل ويرضى عن طريقه". ومن يسعفنا بالخلاص سوى يدك الّتي تصلح ما صنعتَ؟

5-8 سفره إلى رومية وتخلّيه عن أمّه

  14 قيّضتَ لي إذن أن أقتنع بالذّهاب إلى رومية، لأدرّس فيها ما كنت أدرّس بقرطاج. لن يفوتني أن أعترف لك بما أقنعني بذلك، فلا بدّ أن أذكر وأحمد مقاصدك الخفيّة العميقة في هذا الباب أيضا ولطفك الّذي لا يبرحنا لحظة. لم أبغ الذّهاب إلى رومية نزولا عند نصح أصحابي الّذين راحوا يعدونني أجرا أكبر وتقديرا أكثر، مع أنّ هذه الاعتبارات أيضا كانت توجّه نفسي. بل كان الدّافع الأقوى والوحيد تقريبا ما سمعتُ عن الشّباب هناك أنّهم أكثر هدوءا وانضباطا وجدّا في التّعلّم، فهم لا يتقحّمون بصفاقة وفوضى قاعة مدرّس ليسوا من طلبته، ولا يُقبَلون مطلقا ما لم يأذن لهم، خلافا لتسيّب الطّلاّب القبيح والمشطّ في قرطاج، إذ يكتسحون الفصل بوقاحة، وبهرجهم وسوء سلوكهم يخلّون بالنّظام الّذي فرضه على تلاميذه لمصلحتهم. ويقومون بكثير من الشّغب ببلادة عجيبة وجديرة بعقاب القوانين لولا التّقاليد الّتي تحميهم مبيّنة أنّهم أشقى باستحلال ما لن تجيزه أبدا شريعتك الأبديّة، والظّنّ أنّهم يفعلون ذلك دون عقاب، والحال أنّ عماهم الّذي يدفعهم إلى فعله في ذاته عقاب لهم، وهم في الواقع يتعرّضون لأنكال أسوأ وبما لا يقبل المقارنة ممّا يوقعون بغيرهم. كان عليّ إذن أن أعاني مدرّسا تصرّفات من غيري رفضت طالبا إتيانها، ممّا حبّب لي الذّهاب إلى مكان أجمع كلّ من يعرفونه على غيابها منه. لكنّك "أنت يا معتصمي وحظّي في أرض الأحياء" كنتَ تستحثّني بمناخيسك في قرطاج لأرحل عنها وأغيّر مُقامي لخلاص نفسي وتقدّم لي مغريات لتجتذبني إلى رومية بواسطة بشر يحبّون الحياة الفانية يأتون هنا فعالا خبلاء ويعدونني هناك متاع الغرور. ولتثبّت خطاي كنتَ خفيةً تستخدم غيّهم وغيّي فكان مزعجو راحتي هنا يعميهم سُعر قبيح ودعاتي إلى هناك همّهم في الأرضيّات، وأنا الّذي أتبرّم بتعاستي الحقيقيّة هنا أنشد سعادة وهميّة هناك.

  15 أمّا السّبب الحقيقيّ لرحيلي من هنا وذهابي إلى هناك، فكنتَ يا ربّ تعلمه ولا تبديه لي ولا لأمّي التي برّح بها الجزع لرحيلي وتبعتني حتّى البحر. كانت تتشبّث بي تريد ثنيي أو السّفر معي، فخدعتها زاعما أنّي لا أودّ مبارحة صديق لي حتّى موعد رحيله عند هبوب ريح مواتية. كذبتُ على أمّي، وأيّة أمّ، وأفلتّ. هذا أيضا غفرته لي بواسع رحمتك، وحفظتني من مياه البحر وأنا مليء بأرجاس مقيتة حتّى أصل إلى ماء نعمتك فأغتسل به وتجفّ من مقلتي أمّي سيول الدّمع الّتي ظلّت تروي بها الأرض يوميّا تحت أنظارك. ومع رفضها العودة بدوني أقنعتُها بمشقّة أن تقضي تلك اللّيلة في مصلّى قريب من سفينتنا أقيم لذكرى المبرور كبريانوس*. لكنّي في تلك اللّيلة انطلقت خفية، بينما بقيتْ تصلّي وتبكي. وماذا كانت تطلب منك اللّهمّ بكلّ تلك الدّموع سوى ألاّ تسمح بإبحاري؟ لكنّك في عليّ حكمتك ومع استجابتك لجوهر رجائها لم تلبّ طلبها الظّرفيّ منك لتجعل منّي ما لم تن عن طلبه منك. هبّت ريح طيّبة نفخت قلوع سفينتنا، وتوارى عن أنظارنا السّاحل حيث كانت في الصّباح تفقد من الأسى صوابها وتملأ بشكاواها وآهاتها سمعك، وأنت لا تحفل بها إذ انتشلتني من أهوائي لتنهي تلك الأهواء ولتجلد بسوط الآلام العادل تعلّقها الجسديّ بي. فككلّ الأمّهات لكن أكثر من كثيرات منهنّ بكثير كانت تحبّ وجودي معها وتجهل ما ستعدّ لها بغيابي من مسرّات. ولجهلها تبكي وتنتحب مثبتة بما تعاني من عذاب إرثَ حوّاء فيها طالبة بالأنين ما ولدت بالأنين. ثمّ بعدما نعت غدري وقسوتي عادت تدعوك من أجلي ورحنا هي إلى دأب حياتها المعتاد وأنا إلى رومية*.

5-9 مرضه. قلب الأمّ 

  16 فإذا سوط المرض الجسديّ يستقبلني هناك، وقد كنت هابطا إلى الجحيم، حاملا كلّ ما اقترفت في حقّك وفي حقّي وحقّ الآخرين من آثام، جنايات عديدة وخطيرة تردف أثقالا على أغلال الخطيئة الأصليّة الّتي بها "يموت في آدم الجميع". لم تكن قد غفرتَ لي أيّا منها في المسيح، ولا "نقض في صليبه العداوة" الّتي أنشأتُها معك بآثامي. وكيف يخلّصني منها في الصّليب حيث كنت أتخيّل عنه أوهاما؟ فبقدر ما كان يبدو لي موت جسده خطأ كان موت روحي حقيقة، وبقدر ما كان موت جسده حقيقةً كانت خطأً حياة روحي الّتي لم تكن تؤمن بموته. اشتدّت بي الحمّى وأخذت في الأفول والتّلف. لكن أين كنت سأروح لو رحت آنذاك سوى النّار والعقاب الّذي تستحقّ فعالي وفق حقّ تدبيرك في مُلكك؟ ذاك أيضا كانت تجهله، وهي مع ذلك في غيابي لا تنقطع عن الدّعاء لي. أمّا أنت الكائن في كلّ مكان فكنتَ تستجيب لها حيثما كانت وترأف بي حيثما كنتُ، لأستعيد صحّة جسدي وإن لم أزل سقيما بقلبي الآثم. لم أكن أرغب وأنا في مثل ذلك الخطر في معموديّتك وكنت أفضلَ وأنا صبيّ فقد طلبتُها يومذاك من برّ الأمومة كما ذكرتُ واعترفتُ سابقا. لكن كنتُ واخجلتاه قد "نمَوْتُ في قبائحي"، وفي جنوني بتّ أسخر من تعاليم طبّك، أنت الّذي لم تسمح بأن أموت على حالي مرّتين. ولو مُني بذلك الجرح قلب أمّي لما شُفي منه أبدا. إذ لا أدري كيف أعبّر بنحو كاف عن حبّها لي وما كانت تعاني في ولادتها لي بالرّوح من حصر يفوق ما عانت في ولادتها لي بالجسد.

  17 لا أرى كيف كانت ستشفى لو أصمى حبَّها موتي وأنا على حالي تلك. وأين كانت تذهب كلّ صلواتها المتتالية بلا انقطاع؟ إليك ولا أحد سواك. أفتستخفّ يا "إله الرّحمات" بقلب منكسر منسحق، قلب أرملة بتول قنوع قنوت معطاء للصّدقات مطواع لصدّيقيك لا تكفّ يوما عن بذل عطاياها لمذبحك وتأتي إلى كنيستك يوميّا مرّتين في العشيّ والإبكار دون انقطاع، لا للدّردشات الجوفاء وثرثرات العجائز، بل لتنصت خاشعة إلى كلامك وتُسمعك تضرّعاتها؟ أفبدموع صدّيقة مثلها لا ترجوك بها ذهبا وفضّة ولا شيئا من متاع الدّنيا الحُوّل الفاني بل خلاص روح ابنها تستخفّ وتمسك عنها عونك أنت الّذي بمنّك كانت كذلك؟ حاشا وكلاّ. بل كنتَ دوما إلى جانبها مستجيبا لدعائها، صانعا ما قدّرتَ أن يتمّ. حاشا أن تخدعها في تلك الرّؤى وأجوبتك الّتي ذكرتُ والّتي لم أذكر، الّتي ظلّت تحفظها في صدرها المؤمن وتعيدها عليك في صلواتها المتواصلة كصكوك منك. فإنّك لتأبى، "لأنّ للأبد رحمتك"*، إلاّ أن تجعل ذاتك لمن فسختَ كلّ ديونهم مدينا بوعودك.

5-10 حيرته ومعوّقات اعتناقه العقيدة الكاثوليكيّة

  18 شفيتني إذن من ذلك المرض وأبرأت ابن أمتك في جسده إذّاك لتمنحه لاحقا خلاصا أفضل وأثبت. كنتُ حتّى في تلك الفترة مرتبطا بصدّيقي رومية الضّلّين المضِلّين، لا فقط بالسّمّاع ومنهم الرّجل الّذي اعتللت وشُفيت في بيته، بل كذلك من يدعونهم الأصفياء. فحتّى تلك الفترة ظلّ يبدو لي أن لسنا نحن الّذين نخطأ بل تخطأ فينا طبيعة أخرى لا أدريها، وأستطيب تبرئة كبْري من الإثم وإذا فعلت سيّئة ألاّ أعترف بها لك يا ربّ كي تشفي نفسي الّتي خطئت إليك، بل أوثر تبرئة نفسي وتجريم شيء آخر لا أدريه يلزمني ولستُ إيّاه. لكنّي كنتُ الكلّ وإنّما قسّمني كفري على ذاتي. وهو إثم يجعله أعضل أنّي لم أكن أعدّ نفسي آثما، وظلمٌ مقيتٌ أن أوثر يا إلهي القدير اندحارك فيّ لهلاكي على اندحاري أمام لطفك لخلاصي. لم تكن بعد قد "جعلتَ يا ربّ حارسا لفمي رقيبا على باب شفتيّ كيلا يميل قلبي إلى أمر السّوء إلى الانغماس في جرائم النّفاق مع الرّجال الفاعلين الإثم"*. لذا ظللتُ أتعامل مع أصفيائهم وإن كنت قد يئست من إمكانيّة التّقدّم في هذا المذهب الباطل، وأحتفظ بتلك الأفكار الّتي قرّرت قبلُ الاكتفاءَ بها ما لم أجد خيرا منها، لكن بمزيد من الفتور واللاّمبالاة.

  19 فعلا نشأتْ لديّ فكرة أنّ الفلاسفة الملقّبين بالأكاديميّين* كانوا أحكم من غيرهم، في تأكيدهم لزوم الشّكّ في كلّ شيء، وحكمهم باستحالة إمساك الإنسان بأيّة حقيقة. كذلك فعلا بدت لي جليّة أفكارهم وفق نظرة النّاس إليهم، ولم أكن قد فهمت حتّى ذلك اليوم مقاصدهم. لم يفتني أن أردع مضيّفي عمّا رأيت لديه من إيمان مفرط بالخرافات الّتي تعجّ بها كتب المانويّة. مع ذلك كنتُ أوثقَ صداقةً بهم من سواهم خارج طائفتهم. حقّا لم أعد أدافع عنها بحماسي القديم لكنّ عشرتي بهم- وكانت رومية يومذاك تخفي كثيرين منهم- ثبّطتني عن البحث عن سواها سيما أنّي يئست من أن أجد في كنيستك يا ربّ السّماء والأرض خالق كلّ المنظورات وغير المنظورات الحقيقةَ الّتي صدّوني عنها، وكنتُ أستشنع الاعتقاد في تقمّصك صورة الجسد الإنسانيّ وحصر ذاتك في ملامح أعضائنا. لأنّي كلّما أردت تمثّل إلهي لا أعرف كيف أتمثّله إلاّ في شكل كتلة جسمانيّة إذ لم يكن يبدو لي أنّ شيئا يكون ما لم يكن كذلك، فكان ذلك السّببَ الأهمَّ بل الأوحدَ تقريبا لخطئي الحتميّ.

  20 من هنا اعتقادي في وجود جوهر للشّرّ مماثل هو أيضا: ذي كتلة بشعة دميمة، إمّا ثخينة يدعونها أرضا، وإمّا دقيقة ولطيفة كجسم الهواء يتخيّلونها روحا شرّيرا زاحفا على الأرض. ولأنّ تقواي، أيّا كانت، كانت تحملني على الاعتقاد بأنّ إلها خيّرا لم يخلق أيّ جوهر شرّير، نصبتُ الكتلتين في تضادّ متصوّرا كلتيهما لامتناهية، مع ضيق في الخبيثة وسعة في الخيّرة، وعن هذه البُداءات الوبيئة انجرّت بقيّة ضلالاتي فكلّما حاول فكري العودة إلى العقيدة الكاثوليكيّة* القويمة يصدّه عنه تصوّري الغالط عن العقيدة الكاثوليكيّة. كان يبدو لي أتقى اللّهمّ، يا من تعترف لك رحماتك* فيّ، تمثّلك لامتناهيا من كلّ الوجوه سوى واحد أضطرّ إلى الإقرار بتناهيك فيه هو مضادّة كيان الشّرّ لك من تصوّرك متناهيا من كلّ الوجوه في صورة الجسم البشريّ. ويبدو لي أفضلَ الاعتقادُ بأنّك ما خلقت أيّ شرّ- وهو ما كنت في جهلي أتصوّره لا جوهرا فقط بل وجسمانيّا أيضا لعجزي عن تمثّل الرّوح إلاّ كجسم لطيف ينتشر مع ذلك في حيّز المكان- من الاعتقاد بفيض جوهر الشّرّ كما أتصوّره عنك. بل أرى ابنك الوحيد منقذنا قد صدر بذلك النّحو من كتلة كيانك النّورانيّ لتخليصنا ولا أعتقد بشأنه إلاّ ما يتيح لي تخيّلَه غروري. لذلك أرى مستحيلا مولد تلك الطّبيعة من مريم العذراء دون مخالطة الجسد ولا أرى كيف يخالطها ولا يدنّسها* حسبما كنت أتمثّلها. لذا خشيت الإيمان بتجسّده مخافة الاضطرار إلى الاعتقاد في تدنّسه بالجسد. الآن سيبتسم منّي روحيّوك بسماحة وودادة إذ يقرؤون خلطي بذلك النّحو بين المفاهيم لكن كذلك كنتُ يومذاك. 

5-11 استمرار حيرته رغم انهيار ثقته في المانويّة

  21 كنت لا أرى بالإمكان ردّ مآخذهم على كتابك، لكن أودّ أحيانا مناقشة نقاط معيّنة مع أحد علمائهم المتبحّرين في كتبهم ومعرفة رأيه حولها. وقد بدأتْ تؤثّر فيّ منذ إقامتي بقرطاج مقالات رجل يدعى إلبيديوس ضدّهم كان يناظرهم ويقارعهم علنا مستشهدا بنصوص من الكتاب المقدّس يصعب الصّمود أمامها. وبدا لي في غاية الضّعف ردّهم الّذي كانوا لا يعرضونه بسهولة جهارا بل يُسرّون لنا به إسرارا، مدّعين أنّ العهد الجديد حرّفه ناحلون أرادوا دسّ شريعة اليهود في العقيدة المسيحيّة، دون تقديم أيّة نسخة صحيحة من جهتهم. لكن كانت تجثم عليّ خصوصا وتشلّني وتخنقني بنحو ما تانك الكتلتان اللّتان أتمثّلهما في صورة جسمانيّة وألهث تحت وطأتهما دون أن أستطيع تنفّس نسمة حقّك الصّافية الشّفيفة.

5-12 ممارسات قبيحة لطلبة رومية

  22 باشرت بتفان ما جئت من أجله: تدريس البلاغة برومية. فبدأت بجمع ثلّة من الطّلبة ببيتي، وتعريف نفسي لهم وبواسطتهم. وإذا بي أعلم بأمور تحدث في رومية ما سبق أن عانيت منها في إفريقية. ثبت لي فعلا أنّ ذلك "التّدمير" الّذي يمارسه هناك شبّان مستهترون لا يقع هنا، لكنّ كثيرا من الشّبّان هنا، على ما يقال، يتآمرون فجأة كيلا يدفعوا لمدرّسهم أجره وينتقلون إلى آخر ناقضين عهدهم ومستخفّين بالعدل حبّا للمال. أولئك أيضا أبغضهم قلبي لكن بغضا "غير تامّ". فربّما كان ما أبغض فيهم ضرري الشّخصيّ أكثر من فعلهم محرّما في حقّ الغير. مع ذلك هم لا شكّ أخسّة و"يزنون" بعيدا عنك بحبّ بهارج العالم الزّائفة وربحه القذر الّذي يلوّث أيّة يد تمسكه، واحتضانهم هذا العالم السّريع الزّوال واستخفافهم بك أنت الباقي معيد النّفس الإنسانيّة وغافر عهرها إذ تؤوب إليك. ما زلت اليوم أبغض أولئك العوج المنحرفين، لكنّي أحبّ إصلاحهم ليؤثروا على المال العلم الّذي يتلقّون، وعلى العلم ذاتك اللّهمّ أنت الحقّ ومَعين الخير المحقّق والسّلام المشرق نقاء. أمّا في تلك الأيّام فكنت أكره معاناة أولئك الأشرار لأجلي أكثر ممّا كنت أريد جعلهم أخيارا لأجلك.

5-13 السّفر إلى مديولانيوم

  23 اتّفق آنذاك أن أُرسل من مديولانيوم* إلى محافظ رومية في طلب مدرّس خطابة لتلك المدينة، وتمّ الإعلان عن ذلك الإيفاد في مركبة رسميّة. فترشّحت للوظيفة بوساطة أولئك الأصدقاء الثّملين بأوهام المانويّة الّذين كان رحيلي عنهم للخلاص منهم لكنّي وإيّاهم نجهل ذلك. وبعدما عرض عليّ سِمّاكوس* محافظ رومية آنذاك محادثة وافق عليّ وبعثني. وجئتُ إلى أمبروسيوس* أسقفّ مديولانيوم المعروف في كلّ الأرض كأحد مصطفيْك الأخيار، عابد تقيّ لك كانت خطبه الحازمة آنذاك تقدّم لشعبك "شحم حنطتك" و"بهجة دهنك" ونشوة خمرتك الّتي لا غوْل فيها. بدون علمي قدتَني إليه ليقودني بعلمي إليك. فاستقبلني "رجل الله" بعطف أبويّ، وسُرّ بسفرتي بسماحة أسقفّيّة، وبدأتُ أحبّه لا كمعلّم للحقّ الّذي يئستُ من العثور عليه في كنيستك بل بالأخصّ كإنسان طيّب معي. واظبت على الاستماع إلى خطبه باهتمام بالغ لا بالقصد المفروض بل قصد الاطّلاع على فصاحته أتستحقّ تلك الشّهرة وهل تُرمي أو تُكري عمّا يقال عنه. فكنت أقف مشدودا إلى ألفاظه لامباليا ومستخفّا بالمعاني وألتذّ بعذوبة كلامه الّذي وإن ربا عن حديث فاوستوس علما كان في أسلوبه دونه مرحا وحلاوة؛ أمّا المحتوى فلا وجه للمقارنة: ذاك يتيه في ضلالات المانويّة وهذا يعلّم طريق الخلاص الآمنة. لكنّ الخلاص بعيد عن الخطأة مثلما كنتُ يومذاك. مع ذلك بدأت أدنو منه رويدا وبدون علمي.

5-14 تأثير أمبروسيوس والقطيعة مع المانويّة

  24 بينما كنت أجتهد لا لأتعلّم ما يقول بل فقط لأسمع كيف يقوله- فرغم يأسي من انكشاف السّبيل إليك للإنسان بقي لديّ ذلك الاهتمام السّخيف- كانت تصل إلى نفسي مع الألفاظ التي أحبّها المعاني التي لا آبه بها، إذ لم يكن بوسعي الفصل بينهما، وبينما أفتح قلبي لتلقّي ما يقول بفصاحة تلج طبعا في نفس الوقت وبالتّدريج الحقائق الّتي تتضمّنها أقواله. بدءا بدأ يبدو لي أنّ من الممكن الدّفاع عن أفكاره، وأنّ العقيدة الكاثوليكيّة الّتي لم أكن أرى قبل بالإمكان الدّفاع عنها ضدّ هجمات المانويّة يمكن تأكيدها دون خطل، سيما بعدما سمعته يحلّ ملغز العهد العتيق في عديد من المواضع حيث كنتُ، لأخذي بحرف النّصّ، "أقتل نفسي". هكذا بعد ما بُيّن لي "بالرّوح" كثير من مقاطع تلك الأسفار، صرت أقرّع نفسي على يأسي السّابق الّذي جعلني أعتقد في استحالة صمود الشّريعة والأنبياء أمام المناوئين والهازئين. مع ذلك لم أكن أرى لزاما بعد اتّباع سبيل الكثلكة- فقد يكون لها هي أيضا علماؤها الذّابّون عنها رادّين الاعتراضات بنحو مستفيض ووجيه- ولا كذلك التّخلّي عمّا في يدي لتعادل الطّرفين. هكذا لم تعد العقيدة الكاثوليكيّة تبدو لي مغلوبة لكن دون أن تظهر لي بعد الغالبة.

  25 إذّاك ركّزت فكري على إمكانيّة الإبانة ببعض الأدلّة الدّامغة على خطإ المانويّة. لو كنت أستطيع إذّاك تصوّر جوهر روحانيّ لتهافتتْ فورا كلّ خزعبلاتهم وقذفتُ بها خارج فكري، لكن لم أكن أستطيع. لكن فيما يتعلّق بعالمنا الجسمانيّ وكلّ الطّبيعة القابلة لإدراك حسّنا الجسديّ، صرت بطول التّفكير والمقارنة أجد أنّ فلاسفة كثيرين توصّلوا إلى آراء أرجح. هكذا في شكّي في كلّ شيء على طريقة الأكاديميّين، كما كان يُنظر إليهم، وتذبذبي بين شتّى المواقف، قرّرت التّخلّي عن المانويّة اقتناعا بأنّ لا مجال في خضمّ شكّي للبقاء في تلك الطّائفة الّتي بتّ أفضّل عليها عديدا من الفلاسفة أرفض مع ذلك مطلقا، لخلوّ فلسفتهم من اسم المسيح المنقذ، أن أكِل لهم شفاء سُقام نفسي. لذا قرّرت البقاء كمرشّح للتّنصّر في الكنيسة الكاثوليكيّة على دين أبويّ حتّى يتّضح لي أمر ثابت أوجّه إليه مسيري.