القدّيس أغسطينوس
الاعترافات
الكتاب الرّابع
|
||||||||||||||||
4-
الكتاب
الرّابع
4-1
التّمادي في الضّلال
1 خلال
تلك السّنوات
التّسع من التّاسعة
عشرة حتّى الثّامنة
والعشرين ظللتُ
أُضَلّ وأُضِلّ
وأغوى وأغوي في
شتّى الأهواء،
جهرا من خلال تدريس
العلوم المسمّاة
بالشّريفة، وسرّا*
تحت اسم الدّين
زورا، منتفخا
هنا كبْرا، ناشرا
هناك خرافات وممتلئا
في الحالتين باطلا.
كنتُ من جهة ألاحق
زيف الإشادة الشّعبيّة
حتّى هتافات المسرح
والمسابقات الشّعريّة
والمنافسة على
أكاليل السّفا
وسفاسف عروض التّسلية
وتفلّت الشّهوات،
ومن جهة أخرى أتوق
كذلك إلى تنقية
نفسي من تلك الخبائث
على أيدي من يدعونهم
أصفياء وصدّيقين
وأحمل إليهم أطعمة
ليصنعوا منها
في مشغل بطونهم
أملاكا وآلهة
ليخلّصوني من
الخطيئة. كنتُ
أتّبع تلك الضّلالات
وأروّجها مع رفاقي
الضّالّين بواسطتي
وبمعيّتي. ليسخرْ
منّي المتكبّرون
ومن لم تطرحهم
اللّهمّ بعد إلى
الأرض لتشفي أنفسهم
لكن لأعترفْ لك
بقبائحي إشادة
بمجدك. أدعوك: اسمح
ويسّر لي أن ألفّ
بذاكرتي الحاضرة
على تلافيف ضلالي
الماضية وأقدّم
لك ذبيحة هتاف.
وهل أنا لذاتي
بدونك سوى هاد
إلى الهاوية؟
وهل أنا في أحسن
أحوالي سوى تابع
يرضع لبنك ويقتات
منك أنت الطّعام
الّذي لا يدركه
الفساد؟ وما الإنسان
أيّ إنسان بصفته
مجرّد إنسان؟
لكن ليسخرْ منّا
الأقوياء الموسرون
ولنعترفْ لك نحن
الضّعفاء المعوزون.
4-2 تسرّيه،
رفض الطّقوس الوثنيّة
2 كنتُ في
تلك السّنين أدرّس
الخطابة، وأبيع
أنا المغلوب بشهوتي
البلاغة الغلاّبة.
مع ذلك كنت أوثر
يا ربّ، وأنت بذلك
عليم، أن يكون
لديّ طلاّب صالحون،
بمعنى الصّلاح
المتداول. فكنت
بلا حيلة ألقّنهم
حيلا لا لإطاحة
رأس البريء بل
لإنقاذ رأس المجرم
أحيانا. ومن بعيد
رأيتَني يا ربّ
تزلّ بي في المزلق
قدماي ويلتمع
في دخان كثيف صدق
طويّتي الّذي
أبدي في أداء وظيفتي
كمعلّم لمحبّي
الباطل ومبتغي
الكذب وأنا شريكهم.
كنتُ في تلك السّنين
أعاشر امرأة لا
تربطني بها علاقة
زواج شرعيّ كما
يدعونه بل لاحقها
هواي الأهوج عديم
الرّشاد، لكن
امرأة واحدة وفيت
لمضجعها. عرفتُ
جيّدا من خلال
تجربتي معها الفرق
بين العلاقة الزّوجيّة
السّويّة، الّتي
تُعقد لغاية الإنجاب،
وميثاق الحبّ
الشّهوانيّ حيث
ينشأ كذلك نسل
لكن رغم إرادة
الطّرفين وإن
أرغمهما على حبّه
بعد ميلاده. 3 أذكر أيضا
كيف استهوتني
المساهمة في مسابقة
في الشّعر المسرحيّ
مرّة وسألني عرّاف
أيّة مكافأة أودّ
إعطاءه مقابل
فوزي، فأجبته
بنفور واشمئزاز
من تلك الطّقوس
القبيحة أنّي
أرفض، حتّى لو
كان إكليل الفوز
من الذّهب الّذي
لا يدركه التّلف،
أن تُقتل ذبابة
من أجل انتصاري.
فقد كان ينوي تقديم
ذبائح حيوانيّة
واستمالة الشّياطين
لي بهذا التّكريم
حسب ظنّه. لكنّي
لم أدرأ هذا الرّجس
أيضا حبّا لنقائك
يا إله قلبي. فما
كنتُ إذّاك أعرف
محبّتك ولا أتصوّر
آلاقا غير الجسديّة.
أوَليست النّفس
اللاّهثة وراء
تلك الصّور فعلا
"تزني" بعيدا عنك
و"تعتمد على الأكاذيب
وترعى الرّياح"؟
وهل يعني سوى ارتعاء
الرّياح أن نرعى
تلك الأرواح الّتي
تجد في غيّنا مسرّة
ومسخرة؟ 4-3 الولع
بالتّنجيم
4 لذلك لم
أكفّ حقّا عن استشارة
الدّجّالين الّذين
يدعوهم النّاس
منجّمين، باعتبار
أنّهم لا يقدّمون
ذبائح أو يوجّهون
صلوات لروح ما
قصد العرافة،
وهو مع ذلك أمر
ينبذه ويُدينه
الدّين المسيحيّ
الصّحيح طبقا
لعقائده. صالحٌ
بالفعل الاعتراف
لك والقول: "يا
ربّ ارحمني واشف
نفسي فإنّي خطئت
إليك"، لا استغلال
حِلمك لاستحلال
حُرُمك، بل تذكّر
قول الرّبّ: "ها
إنّك قد عوفيتَ
فلا تخطأ بعد لئلاّ
يصيبك أعظم." يحاول
أولئك الدّجّالون
تدمير هذه العقيدة
الّتي هي تمام
السّلامة قائلين:
"من السّماء سبب
خطيئتك وما لك
عنه من محيص، والزُّهرة
سبّبت ذلك أو زحل
أو الحمل"، وذلك
طبعا لتبرئة الإنسان،
وهو لحم ودم وعفن
متشامخ، وتخطئة
فاطر ومنسّق السّماوات
والنّجوم. ومن
ذا سواك أنت ربّنا
معدن العذوبة
والبرّ، الّذي
تجازي كلاّ بحسب
أعماله ولا تستخفّ
"بالقلب المنسحق
المنكسر"؟ 5 كان يوجد
في تلك الفترة
رجل فطن، متضلّع
ومشهور في الطّبّ.
كوالي الإقليم
وضع إكليل الفوز
في المسابقة على
رأسي العليل،
لكن لا بصفته طبيبا.
فشافي ذلك الدّاء
أنت الّذي "تقاوم
المتكبّرين وتعطي
النّعمة للمتواضعين".
أفحقّا تخلّيتَ
عنّي أو تركتَ
علاج نفسي، ولو
بواسطة ذلك الشّيخ؟
فقد صرتُ من خلصائه
وواظبتُ على الاستماع
بانتباه إلى أحاديثه
الخالية من زخرف
اللّفظ والممتعة
بحيويّة أفكارها
والرّصينة. فلمّا
علم من حديثي بشغفي
بكتب قراءة الطّالع
نصحني بطيبة الأب
أن أنبذها ولا
أبذل بلا طائل
في ذلك الباطل
الجدّ والجهد
اللاّزمين لشؤون
الحياة النّافعة،
قائلا إنّه شُغف
هو نفسه أيّام
شبابه بالتّنجيم
إلى درجة الرّغبة
في اتّخاذه مهنة
ومورد رزق، وما
دام قد فهم أبقراط*
فبوسعه فهم تلك
الكتب. لكنّه تخلّى
عنه من بعد واتّبع
الطّبّ لا لسبب
سوى أنّه وجد تلك
الكتب محض أباطيل،
وهو كرجل نزيه
لا يريد كسب رزقه
بغشّ النّاس. ثمّ
أضاف: "لكنّك متضلّع
في الخطابة التي
تستطيع بها تأمين
عيشك بين النّاس.
أنت إذن تتّبع
هذه الأكاذيب
بمحض اختيارك
لا لضرورة كسب
معاشك. وهو ما ينبغي
أن يدفعك أكثر
إلى تصديقي أنا
الّذي اجتهدت
لتعلّم التّنجيم
وأتقنته إلى درجة
الرّغبة في اتّخاذه
مورد رزقي الأوحد."
سألته إذّاك لأيّ
سبب إذن يصدق كثير
ممّا ينبئ به المنجّمون،
فردّ كيفما أمكنه
أنّ السّبب قوّة
الصّدفة المنبثّة
في الطّبيعة. وقال:
" فعلا إن أمكن
غالبا لمن يتصفّح
ديوان شاعر يتغنّى
ويفكّر بأمر مختلف
تماما عمّا يشغله
أن يستخرج منه
عرَضاً بيتا يتجاوب
مع هاجسه بنحو
عجيب، فلا يجب
الاستغراب من
أن يصدر عن النّفس
الإنسانيّة بفضل
ملَكة أرقى، مع
جهلها بما يعتلج
فيها، لا بفضل
الصّنعة بل بفعل
الصّدفة، شيء
يطابق وقائع ومشاغل
السّائل. 6 ذاك ما
أمددتَني به من
ذلك الرّجل أو
بواسطته وخططتَ
في ذاكرتي ما سأبحث
عنه بعد بنفسي*.
فإذّاك ما استطاع
هو ولا صديقي العزيز
نبريديوس الشّابّ
الكريم المستقيم
الّذي طالما هزئ
من ذلك النّوع
من العرافة بمجمله
إقناعي بالتّخلّي
عنه، فقد كانت
هالة أولئك الكتّاب
أقوى تأثيرا عليّ،
ولم أجد حتّى ذلك
اليوم دليلا دامغا
كالّذي كنت أبحث
عنه يتّضح لي منه
بلا لبس أنّ صدق
ردود المنجّمين
على استشارات
النّاس ناجم عن
الصّدفة والبخت
لا عن فنّ* رصد الأفلاك.
4-4 موت
صديقه
7 في تلك
السّنوات لمّا
بدأت أمارس التّعليم
في مسقط رأسي ارتبطتُ
بصديق عزيز جدّا
زميل لي في التّعليم
وندّي وهو إذّاك
في زهرة الشّباب*.
وقد ترعرع معي
أيّام الصّبا
فكنّا نذهب إلى
المدرسة معا ونلعب
معا. لكنّه لم يكن
إذّاك قد صار ولا
كان كذلك حتّى
في تلك الفترة
صديقي، كما هي
الصّداقة الحقيقيّة،
فما من صداقة حقيقيّة
ما لم توثّقها
بين المتحابّين
بملاط محبّتك
الّتي قد "أفيضت
في قلوبنا بالرّوح
القدس الّذي أعطي
لنا." مع ذلك كانت
لصداقتنا لدى
كلينا حلاوة،
وأعطاها حرارة
تطابق وحماس ميولنا.
وقد ثنيتُه عن
الإيمان الحقّ
الّذي لم يكن كشابّ
يمتلكه بنحو صحيح
وعميق، ووجّهته
نحو المعتقدات
الباطلة والضّارّة
الّتي بسببها
كانت أمّي تُذهب
نفسها حسرات عليّ.
فكانت نفسه تهيم
معي في الضّلالة
ونفسي لا تستطيع
الاستغناء عنه.
وها أنت متعقّب
الفارّين من وجهك،
"إله كلّ النّقمات"
ونبع الرّحمات
معا، الّذي توجّهنا
إليك بطرقك العجيبة،
ها أنت اخترمتَ
ذاك الإنسان من
هذه الحياة ولم
تكد تمضي سنة على
صداقتي الألذّ
لديّ من كلّ ملاذّ
حياتي. 8 من ترى
يحصي مكافآتك
حتّى ما خبر بمفرده
فقط؟ ماذا فعلتَ
اللّهمّ إذّاك،
وما أبعد غمر أحكامك
عن الإدراك! لمّا
لزم الفراش طويلا،
نهبا للحمّى فاقد
الوعي مبلّلا
برُحضاء الاحتضار
وقنط من شفائه
ذووه عمّدوه بدون
علمه. فلم أبالِ
بذلك مفترضا أنّ
نفسه ستحتفظ بالأحرى
بالمعتقدات الّتي
غرستُ فيها، لا
بما حصل في جسمه
وهو غائب عن الوعي.
لكن تمّ خلاف ذلك
تماما: تحسّن وتماثل
للشّفاء، وحالما
أتيح لي أن أكلّمه-
وهو ما أتيح لي
سريعا حالما أتيح
له أن يتكلّم إذ
لم أكن أغادره
لارتباطنا الوثيق-
هممتُ بممازحته
لأضحكه معي من
التّعميد الّذي
تلقّاه وهو غائب
الحسّ والفكر؛
لكنّه كان قد علم
بالأمر وبالعكس
ذُعر منّي كأنّي
عدوّ، وبصراحة
عجيبة ومفاجئة
أنذرني، إن كنتُ
أودّ أن أبقى صديقه،
أن أكفّ عن مثل
تلك الأقوال. في
دهشتي وحيرتي،
أجّلتُ أيّ ردّ
إلى ما بعد نقاهته
واستعادة صحّته
فيكون في حالة
مناسبة لأتعامل
معه بحرّيّة. لكنّك
اختطفته من جنوني
لتحتفظ به لديك
لتعزيتي: بعد بضعة
أيّام عاودته
الحمّى في غيابي
وقضى. 9 فأظلم
قلبي أسى عليه،
وصرتُ لا أرى في
كلّ شيء سوى الموت.
صار الوطن لي عذابا
وبيت الأسرة شقاء
مريرا وكلّ شيء
مشترك بيننا استحال
بدونه ويلا وحسوما.
كانت عيناي تلتمسانه
في كلّ مكان فلا
تلقيانه وصرتُ
أستوحش كلّ الأشياء
لأنّها خلتْ منه
ولم يعد ممكنا
أن تقول لي: "ها
هو آت"* كما في حياته
كلّما غاب عنّي.
بتّ لذاتي لغزا
معضلا. أسأل نفسي
لماذ تكتئب وتقلق
فيّ فلا تدري بماذا
تجيبني. وإن قلت:
"ارتجي الله" لا
تطاوعني وهي محقّة
فالفقيد العزيز
أفضل وأثبت حقيقةً
من الوهم التي
آمرها بارتجائه.
كان البكاء وحده
عذبا عندي، وخلَف
صديقي بين مستلذّات
نفسي. 4-5 سرّ
حلاوة البكاء
10 والآن
يا ربّ ها قد مرّت
تلك الأحداث،
وسكّن الزّمن
جرحي. أفلا يمكنني
أن أسمع منك، أنت
الحقّ، وأدني
من فيك أذن قلبي
لتقول لي لماذا
يلذّ البكاء للتّعساء؟
أم تراك مع حضورك
معنا حيثما كنّا
لفظتَ بعيدا عنك
شقاءنا؟ وبينما
تبقى ثابتا في
ذاتك، تتقاذفنا
نحن صروف الحدثان.
مع ذلك لو لم نكن
نرفع إلى مسامعك
بكاءنا لما بقيت
أثارة من رجائنا.
أنّى أمكن لنا
إذن أن نجني ثمرة
حلوة من مرارة
حياتنا في التّوجّع
والبكاء والتّنهّد
والشّكوى؟ أم
نستعذبه لأنّا
نرجو أن تسمعنا؟
ذاك يصحّ على الأدعية
فهي تتضمّن رغبة
الوصول إليك،
فهل يصحّ على اللّوعة
على المفقود وعلى
الأسى الّذي كنتُ
أعاني، إذ لم أكن
إذّاك آمل عودته
إلى الحياة ولا
أرتجيها من دموعي،
بل أكتفي بالتّألّم
والبكاء. فقد كنت
بائسا وفقدت* كلّ
بهجتي. أفيلذّ
لنا البكاء ترى
مع مرارته بسبب
قرفنا من الأشياء
الّتي كنّا نلتذّ
بها سابقا بعدما
لقسنا منها؟ 4-6 الأسى
11 لكن لِم
أستعرض كلّ ذلك؟
فما الوقت الآن
وقت مساءلتك،
بل هو وقت الاعتراف
لك. كنت بائسا،
وبائسة هي كلّ
نفس أسرها حبّ
الأشياء الفانية،
وتتمزّق جزعا
حين تفقدها، فتحسّ
إذّاك الشّقاء
الّذي كان ينخرها
حتّى قبل فقدانها.
على هذه الحال
كنتُ إذّاك: أبكي
بمرارة وأجد في
المرارة شيئا
من السّكينة. كنت
بائسا وحياتي
البائسة مع ذلك
أغلى عندي من صديقي.
فرغم رغبتي في
تغييرها، لم أكن
أحبّ أن أفقد أكثر
منه، ولا أدري
إن كنت أودّ أن
أفعل حتّى لأجله
هو مثل الّذي يروى،
إن لم يكن محض اختلاق،
عن أورستس وبيلادس*
اللّذين أرادا
الموت معا كلاهما
لأجل الآخر لأنّه
يجد الحياة بدون
خلّه شرّا من الموت.
لكنّ شعورا، مجهولا
لديّ، مضادّا
تماما لهذا ولد
بداخلي فكان فيّ
قرف مضجر من الحياة
والخوف من الموت
معا. أظنّني بقدر
حبّي له كنت أكره
وأخشى الموت الّذي
اختطفه منّي كعدوّ
رهيب وأفكّر أنّه
سيبيد النّاس
فجأة كما أفناه.
تلك كما أذكر حقيقة
شعوري آنذاك. هوذا
يا ربّ قلبي، هو
ذا صميمه. انظر
إليّ وأنا أستعيد
ذكراي يا رجائي
أنت الذي تنقّيني
من رجس تلك الانفعالات
وأنا أوجّه إليك
عينيّ وأُخرج
من الشّباك رجليّ.
كنت أعجب أن يعيش
الآخرون لأنّ
من أحببتُ كأنّه
لا يموت قد مات.
وأعجب أكثر من
استمراري في الحياة
بعده فأنا ذاته
الأخرى. قال أحدهم
عن صاحبه بعبارة
رائعة إنّه شطر
روحه. أنا أيضا
أحسست أنّ روحي
وروحه كانتا روحا
واحدة في بدنين*،
لذا كانت الحياة
فظيعة بالنّسبة
لي إذ لم أكن أحبّ
العيش نصفا منفصلا
عن صنوه وربّما
أتى خوفي من الموت
من خشية أن يموت
كلّيّا من أحببت
كلّ ذلك الحبّ.
4-7 عذاب
12 يا للجنون
الّذي يجهل كيف
يحبّ النّاس حبّا
إنسانيّا! يا للإنسان
الأخبل إذ يغلو
في التّأثّر بأمور
إنسانيّة! كذلك
كنتُ يومذاك: لذلك
كنت أتلهّب وأتنهّد
وأبكي وأتموّر،
لا أعرف الرّاحة
ولا أقرّ على رأي.
أحمل نفسي المنفطرة
الدّامية وهي
لا تتحمّل أن أحملها،
ولا أجد أين أضعها.
كانت لا تجد السّلام
في الغابات الرّائقة
ولا في الألعاب
والأغاني، ولا
في الجنائن الفوّاحة
بشذيّ العطور،
ولا في المآدب
الفاخرة ولا في
لذاذة الحجرة
والمضجع، ولا
أخيرا في الكتب
والأشعار؛ وتستقبح
كلّ الأشياء حتّى
الضّياء. وكلّ
شيء سواه يبدو
سيّئا مقزّزا
إلاّ الزّفرات
والدّموع ففيها
وحدها تجد شيئا
من الرّاحة فإذا
انتزعتها منها
سحقني وِقر شقائي
المطبق. إليك يا
ربّ كان يجب رفعها
لعلاجها، كنت
أعلم ذلك لكن لا
أريده ولا أستطيعه*،
سيما أنّك لم تكن
عندي في تصوّري
لك إذّاك كائنا
ذا حقيقة صلبة
ركينة، فما إيّاك
بل شبحا باطلا
وزيفا كان يومذاك
إلهي. وكلّما حاولت
أن أضعها بكنفه
لتقرّ بلابلها
تقع في الخواء
متهافتة عليّ
مجدّدا. بقيتُ
لذاتي مأوى موحشا
لا أستطيع أن أقرّ
فيه ولا أن أبرحه.
وأين لقلبي بالفرار
من قلبي؟ وأين
لي بالفرار منّي؟
وأين لي بالنّجاة
من ملاحقة ذاتي؟
مع ذلك فررت وطني
لأنّ عينيّ أقلّ
التماسا له حيث
لم تعتادا رؤيته:
من طاغستة جئت
إلى قرطاج. 4-8 بلسم
الزّمن والصّداقة
13 الزّمن
لا يني، ولا يمرّ
دون تأثير على
مشاعرنا، فيصنع
في النّفس عجائبه.
ظلّ يأتي ويمضي
يوما فيوما وفي
مأتاه ومضيّه
يدسّ فيّ آمالا
أخَر وذكريات
أخَر وشيئا فشيئا
يصلح عطبي ويعيدني
إلى ملاذّي التّليدة
الّتي أخذ ألمي
يفسح لها. أخذتْ
تخلفه لا آلام
أخر بل بالأحرى
بذور آلام أُخر.
من أين ولج فيّ
بسهولة وحتّى
الصّميم ذاك الألم
سوى نشر روحي على
الرّمال بحبّ
كائن فان كأنّه
غير آيل إلى الفناء؟
كانت تجبُرني
وترفأني بالأخصّ
سُلى أصدقائي
الآخرين الّذين
كنت أحبّ معهم
ما كنت أحبّ بدلا
منك: تلك الخرافة
الكبرى والكذبة
الطّويلة* الّتي
كان احتكاكنا
المتلف بها يُفسد
فكرنا ويهيّج
"استحكاك آذاننا".
فما كانت تلك الخرافة
لتموت بموت أحد
أصدقائي. كانت
لديهم أمور أخرى
تشدّ أكثر نفسي
إليهم: الحديث
والضّحك معهم،
المجاملات المتبادلة،
قراءة الكتب المسلّية
معا، المزاح والتّقدير
المتبادل والاختلاف
أحيانا في الرّأي
دون حزازات كما
بين الإنسان ونفسه،
فتتبّل هذه الخلافات
القليلة أوجه
الاتّفاق الكثيرة،
تعليم الآخرين
والتّعلّم منهم
دواليك، الاشتياق
بفارغ الصّبر
للغائبين والاحتفاء
ببهجة بالقادمين:
بمثل هذه الأمارات
النّابعة من قلوب
الألاّف عبر الفم
واللّسان والعينين
وألف حركة لطيفة
تنصهر النّفوس
كما بفعل وقود
مؤلّفة من كثرتها
واحدة. 4-9 حبّ
الأصدقاء في الله
يجنّب الأسى عند
فقدانهم
14 ذاك ما
يحَبّ في الخلاّن،
وإلى درجة إحساس
الضّمير بالذّنب
إن لم يحبّ من ردّ
له ودّا أو لم يردّ
على من يحبّه ودّا
دون أن يطلب شيئا
غير أمارات الوداد
الصّادرة من جسم
الخِلّ. من هنا
الأسى عند موت
الصّديق وظلمةُ
الألم وتضمّخُ
القلب بالأسى
بعد انقلاب الحلاوة
مرارة وبفقدان
حياة الأموات
موت الأحياء*. فطوبى
لمن يحبّك أنت،
ويحبّ فيك صديقه
ولأجلك عدوّه!
وحده لا يفقد عزيزاً
مَن الجميع أعزّاء
عليه في من لا يفقَد
أبدا. ومن ذاك إلاّ
الله إلهنا الّذي
خلق السّماء والأرض
ويملأهما فإنّما
خلقهما ليملأهما؟
لا يفقدك إلاّ
من نأى عنك ولنأيه
عنك؛ وأين يذهب
أو يفرّ إلاّ من
رضاك إلى غضبك؟
إذ أين لا يجد في
عقابه ناموسك؟
شريعتك حقّ وحقّ
أنت. 4-10 كلّ
الخلائق فانية
15 "يا إله
الجنود*، أرجعنا
وأنرْ بوجهك علينا
فنخلصَ." أينما
تتّجه نفس الإنسان
تعلقْ في الآلام
في كلّ ما سواك
حتّى إن علقت في
الكائنات البهيّة
خارجك وخارجها.
فتلك الكائنات
لا شيء لو لم تستمدّ
منك وجودها، وهي
تولد وتموت، فتبدأ
بميلادها وجودَها
وتنمو لتبلغ كمالها،
حتّى إذا اكتملت
شاخت وماتت. وما
كلّها تشيخ لكنّها
كلّها تموت. حين
تولد إذن ويعانقها
شوق الحياة، بقدر
ما تسرع وتيرة
نموّها ليكتمل
وجودها تسرع نحو
الفناء*. ذاك نمط
كينونتها، ذاك
ما أعطيتَها فقط،
لأنّها جزء من
الأشياء، الّتي
لا تكون كلّها
معا، بل بتلاشيها
وتعاقبها تؤلّف
في مجموعها الكلّ
الّذي هي أجزاؤه.
هكذا أيضا يتكوّن
كلامنا من رموزه
الصّوتيّة المتتالية،
فالخطاب ككلّ
لا يحصل إن لم تتلاش
الكلمة بعد أداء
دورها لتخلفها
أخرى. لتسبّحك
نفسي على تلك الأشياء
يا ربّ يا خالق
كلّ شيء، لكن لا
تتعلّقنّها بغراء
الحبّ النّاضح
من حسّ الجسد. فهي
تسير إلى حيث كانت
تسير، إلى الفناء،
وتلهبها بشهوات
موبوءة، ففيها
تريد النّفس أن
تكون وتحبّ أن
تستريح. لكن هيهات
أن تجد فيها ذاك
المقرّ، لأنّ
الأشياء لا تبقى
ثابتة، بل تفرّ
وتمضي، ومن له
أن يبلغها بحسّ
الجسد؟ أو أن يمسكها
حتّى وهي في متناول
يده؟ فبطيء حسّ
الجسد لأنّه تحديدا
حسّ الجسد: ذاك
نمط وجوده. هو يفي
بغرض آخر خُلق
له، لكنّه لا يكفي
لإمساك أشياء
تروح سراعا من
مبتدئها المقدور
لها إلى منتهاها
المقدور لها،
ففي كلمتك الّذي
خلقتها به تسمع:
"من هنا إلى هناك".
4-11 في الله
وحده راحة النّفس
16 لا تغترّي
يا نفس ولا تصخّي
أذن قلبي بضجيج
غرورك. اسمعي أنت
أيضا: الكلمة نفسه
يهتف بك أن ارجعي،
مقرّ الرّاحة
الخالية من كلّ
كدر حيث لا يُجفى
الحبّ إلاّ إن
جفا. كذا هي الأشياء:
زمر تمضي وأخرى
تعقبها، ومن كلّ
أجزائه تلك يتألّف
عالمنا الدّنيويّ.
"وأنا هل أمضي
إلى مقام آخر؟"
يقول كلمة الله.
هنا أقيمي بيتك.
هنا أودعي كلّ
ما استلمت من هنا،
إن عييت أخيرا
بالأباطيل. أودعي
الحقّ كلّ ما آتاك
الحقّ ولن تخسري
شيئا. وسيزهر مجدّدا
ما انحلّ منك وتشفى
كلّ أمراضك وتعود
للتّشكّل أشلاؤك
المهترئة وتتجدّد
وتلتحم بك ولن
تحطّك حيث تهوي
بل ستثبت معك وتبقى
في عند الله الثّابت
الباقي أبدا. 17 لِم تنحرفين
وتتّبعين جسدك؟
بل استديري وليتّبعك
هو بالأحرى. كلّ
ما تدركين بواسطة
حسّه جزئيّ، وتجهلين
الكلّ الّذي تشكّل
تلك الأشياء أجزاءه
وهي مع ذلك تستهويك.
لكن لو كان حسّ
جسدك ملائما لإدراك
الكلّ بأتمّه،
ولم يتلقّ حدّه
النّمطيّ المناسب
لالتقاط الجزئيّات
فقط عقابا لك،
لأردتِ أن تمرّ
أمامك كلّ الأيسيّات
معا لتروق لك أكثر
في كلّيّتها. فكلامنا
مثلا تسمعينه
بواسطة حسّ الجسد
وتودّين ألاّ
تتوقّف المقاطع
بل أن تمضي لتأتي
أخرى فتسمعي الخطاب
كلّه. ذاك شأن كلّ
الأشياء التي
تتكوّن منها كلّيّة
فالعناصر الّتي
تؤلّفها لا توجد
جميعا في نفس الوقت.
وتروق مجتمعة
أكثر منها متفرّقة،
لو أمكن بالحسّ
إدراكها كلّها
معا. لكن أفضل منها
بما لا يوصف صانعها
خالق الكون إلهنا
الّذي لا يمضي
ولا يخلفه شيء.
4-12 في الله
وحده سعادة النّفس
18 إن تعجبكِ
الأجسام فاحمدي
الله عليها وحوّلي
حبّك إلى خالقها
كيلا تسوئيه في
الأشياء الّتي
تعجبك. وإن تعجبك
النّفوس فأحبّيها
في الله، فهي الأخرى
متغيّرة وفيه
تجد الثّبات وإلاّ
فإنّها تمضي وتزول.
فأحبّيها فيه
واحملي منها إليه
ما استطعت وقولي
لها: "ألا لنحبّه
هو صانع هذه الأشياء
وما هو عنّا ببعيد.
وما خلق الكائنات
ليتخلّى عنها،
بل هي منه وفيه.
هو حيثما يلذّ
الحقّ: في صميم
القلب لكنّ القلب
هام بعيدا عنه.
تأمّلوا في قلوبكم
أيّها العصاة
واستمسكوا بالّذي
خلقكم. اثبتوا
معه تجدوا الثّبات
واستريحوا فيه
تجدوا الرّاحة.
أين تذهبون باتّجاه
الأوعار؟ قولوا
أين تذهبون؟ الخير
الّذي تحبّون
منه، لكنّه بقدر
ما ينحو إليه خير
وعذب، وعدلا سيستحيل
مرارة إن تحبّوه
ظلما بعدما تركتم
من هو مصدر كلّ
الأشياء. لِم تتمادون
في المشي في متايه
منهكة لا طريق
فيها؟ ليست الرّاحة
حيث تلتمسونها.
التمسوا ما تلتمسون
لكنّه ليس حيث
تلتمسونه. في وادي
الموت تلتمسون
حياة النّعيم:
ليست هناك. وكيف
توجد حياة النّعيم
حيث لا حياة أصلا؟
19 لقد نزل
إلينا حياتُنا،
وأخذ موتَنا،
قتله بامتلاء
حياته، وأرعد
هاتفا أن نعود
إليه في علائه
الخفيّ الّذي
منه خرج إلينا
أوّلا في رحم عذراء
حيث اتّحد به النّاسوت
الّذي هو جسد فان
كيلا يظلّ دوما
فانيا، ومنه
"كالعروس الخارج
من حجلته وثب كالجبّار
للعدو في السّبيل".
لم يتأخّر بل عدا
هاتفا بنا من خلال
أقواله وأفعاله
ومماته وحياته
وصعوده ونزوله
هاتفا أن نعود
إليه. واختفى من
أنظارنا لنتأمّل
في قلوبنا ونجده
فيها؛ انصرف عنّا
و"إنّه ههنا".
لم يشأ البقاء
معنا طويلا ولم
يتخلّ عنّا. انصرف
إلى مُقام لم يبرحه
أبدا، لأنّ "العالم
به كُوّن، وكان
في هذا العالم
وجاء ليخلّص الخطأة".
له تعترف نفسي،
وهو يشفيها فقد
خطئت إليه. "يا
بني البشر حتّى
متى تقسو قلوبكم"؟
ألا تحبّون، بعد
نزول الحياة إليكم،
أن تصعدوا وتحيوا؟
لكن أين تصعدون
وأنتم في العلاء
وقد "جعلتم أفواهكم
في السّماء"؟
انزلوا لتصعدوا،
لتصعدوا إلى الله.
فإنّما سقطتم
بصعودكم ضدّ ربّكم."*
قولي لها يا نفس
ذلك لعلّها تبكي
في وادي البكاء،
وخذيها معك إلى
الله، فمن روحه
تستمدّين ما تقولين
لها إن قلته وأنت
تتّقدين بنار
المحبّة. 4-13 كتاب
"في الجميل والمناسب"
20 كنت إذّاك
أجهل هذه الحقائق،
وأحبّ الأشياء
البهيّة الدّنيا،
وأسير نحو الهاوية
وأقول لأصحابي:
"أنحبّ شيئا إن
لم يكن بهيّا؟
ما البهيّ إذن؟
وما البهاء؟ ما
الّذي يجتذبنا
ويشدّنا إلى الأشياء
الّتي نحبّ؟ إن
لم يكن بها رونق
ورواء فلن تجذبنا
إليها بأيّ نحو."
كنت ألاحظ وأرى
في الأجسام ذاتها
أنّ اعتبارها
في كلّيّتها،
كأشياء بهيّة
إذن، شيء، وشيء
سواه اعتبار ما
هو فيها مناسب
لأنّه يتوافق
تماما مع شيء آخر
كالجزء من الجسم
مع الكلّ أو كالحذاء
مع القدمين وهلمّ
جرّا*. انبثقت تلك
الأفكار في ذهني
من صميم قلبي،
وألّفت كتابا
"في الجميل والمناسب"
في جزءين أو ثلاثة
في ظنّي. أنت اللّهمّ
بذلك أعلم فقد
غاب عن ذاكرتي.
ليس الكتاب عندي
الآن فقد ضاع منّي
لا أدري كيف. 4-14 سبب
إهداء الكتاب
لهيريوس
21 لكن ما
الّذي حداني يا
ربّ لأهدي كتابي
ذاك لهيريوس الخطيب
برومية؟ إذ لم
أكن أعرفه شخصيّا
إنّما أحببت الرّجل
من شهرة علمه ذائع
الصّيت، ومن بعض
أقواله الّتي
عرفتها بالسّماع
وأعجبت بها، لكن
بالأخصّ لأنّه
أشاد به الآخرون،
ونشر مدائحه المعجبون.
كان يبهرني كيف
تسنّى لذلك السّوريّ
الّذي تضلّع أوّلا
في الخطابة اليونانيّة
البروز لاحقا
كخطيب مفوّه باللاّتينيّة،
والتّفقّه في
العلوم المتّصلة
بدراسة الحكمة.
هكذا يُمدح شخص
ويحَبّ وهو غائب.
أفيلج ذلك الحبّ
ترى من فم المادح
إلى قلب المستمع؟
كلاّ. إنّما يتأجّج
الحماس من محبّ
إلى آخر. من هنا
يحبّ المرء من
يُمدح أمامه،
إن لم يظنّ المديح
آتيا من قلب منافق،
أي لمّا يثني عليه
وهو يحبّه بصدق.
22 هكذا كنت
إذّاك أحبّ النّاس
بناء على أحكام
النّاس لا على
حكمك أنت يا إلهي
الذي لا يُخدع
أحد فيك. لكن لِم
كان ذلك بنحو غير
الّذي نخصّ به
سائق مركبة مشهورا
أو صيّاد سرك ذا
شعبيّة واسعة،
بل مختلف تماما،
فيه توقير، وكما
أودّ أن أُمدح
أنا نفسي. ففي الواقع
لم أكن أودّ أن
يمدحني ويحبّني
النّاس كما يمدحون
ويحبّون مهرّجي
المسرح، وإن مدحتهم
وأحببتهم أنا
نفسي، بل أوثر
أن أبقى مغمورا
على أن أُعرف بتلك
الصّفة، وأن أُكره
على أن أُحَبّ
بذلك الشّكل. تُرى
كيف تتوزّع شحنات
الحبّ المتنوّعة
المتعدّدة في
نفس واحدة؟ لِم
أحبّ في شخص آخر
صفة لم أكن، لولا
كراهيتي لها،
لأنفر منها وأستبعدها
فيّ، والحال أنّ
كلينا بشر؟ فليس
ذلك من قبيل حبّ
المرء لحصان جيّد
مع أنّه لا يحبّ
أن يكون هو نفسه
حصانا حتّى لو
أمكن ذلك. هذا لا
ينطبق على المهرّج
الّذي يشترك معنا
في الطّبيعة البشريّة.
أتراني أحبّ إذن
في إنسان ما أكره
أن أكون وأنا إنسان
مثله؟ غمرٌ سحيق
هو الإنسان الذي
تعلم اللّهمّ
عدد شعر رأسه ولا
تعزب عنك واحدة
منه: مع ذلك شعر
رأسه أسهل عدّا
من عواطفه ونزوعات
قلبه. 23 أمّا أستاذ
البلاغة المذكور
فكان من نوع من
النّاس أحبّه
بنحو أرغب معه
في أن أكون مثله.
كنت من كبْري تائها
"مائلا مع كلّ
ريح"، وأنت تدير
دفّتي في الخفاء.
ومن أين لي أن أعرف
وأعترف لك جازما
أنّي أحببت ذلك
الرّجل متأثّرا
بحبّ مادحيه أكثر
ممّا يذكرون من
مناقبه؟ فلو ذمّه
نفس أولئك الرّواة
بدلا من تقريظه
ورووا عنه نفس
الأخبار لكن بلهجة
التّشهير والتّحقير
لما كلِفت به وتحمّست
له وإن لم تختلف
الأخبار المنقولة
عنه ولا الشّخص
نفسه، إنّما فقط
مشاعر الرّواة.
على مثل هذا الأخسوف
تثوي النّفس الكسيحة
الّتي لم تعتمد
بعد على دعامة
الحقّ المتينة.
كيفما هبّت رياح
الألسن من صدور
النّاطقين عن
الهوى مالت حيث
تميل فتدوّمها
وتديرها ثمّ تعود
بها في الاتّجاه
المعاكس، ويعتم
الضّياء أمامها
فتعمى عن الحقّ
وهو مع ذلك ههنا
أمامنا. وبدا لي
في غاية الأهمّية
أن يعلم ذلك الرّجل
بمقالتي وبحوثي،
فإن قبلها فسيتأجّج
حماسي، أمّا إن
اتّخذ موقفا سلبيّا
فسيجرح قلبي الخاوي
الخالي من مرتكزك
المتين. مع ذلك
كنت أوجّه فكري
إلى مسألة الجميل
والمناسب الّتي
أهديته كتابي
عنها عن ميل شخصيّ
وكنت مولعا بها
وإن لم يشاركني
حماسي أحد. 4-15 تصوّره
لله والشّرّ
24 لكن لم
أكن بعد أرى سرّ
ذلك الجمال الرّائع
في صنعك أنت القدير
"صانع المعجزات
وحدك". فكنت أسرّح
فكري أوّلا في
بهاء المحسوسات،
وأعرّف البهيّ
بأنّه ما يروق
بذاته، والمناسب
بأنّه ما يروق
بملاءمته شيئا
آخر، وأميّز بينهما
على هذا الأساس
داعما فكرتي بالأمثلة
المادّيّة. ثمّ
وجّهت نظري إلى
طبيعة الرّوح
لكنّ فكرتي الغالطة
عن الرّوحانيّات
لم تتح لي رؤية
الحقّ. كان يتجلّى
لعينيّ قويّا
وضّاحا فأحوّل
فكري المختلج
عن اللاّمحسوسات
إلى الخطوط والألوان
والأحجام، ولعجزي
عن رؤيتها في روحي
أظنّ أنّي لا أستطيع
رؤية روحي. ولأنّي
كنت أحبّ في الفضيلة
السّلام، بينما
أكره في الرّذيلة
النّزاع، وألاحظ
في تلك الوحدةَ
وفي هذه الانقسامَ،
كان يبدو لي أنّ
تلك الوحدة جوهر
النّفس العاقلة
وطبيعة الحقّ
والخير الأعظم،
بينما يتمثّل
في انقسام الحياة
اللاّعقليّة
حسبما كنت أظنّ،
وبئس الظّنّ،
جوهر ما، وطبيعة
تجسّد الشّرّ
الأعظم كانت في
نظري لا كيانا
قائم الذّات فحسب،
بل كذلك حياة بأتمّ
المعنى، وإن لم
تنبثق منك يا ربّ
أنت الّذي انبثقت
منك كلّ الكائنات.
فأدعو الجوهر
الأوّل المتمثّل
في روح غير ذي جنس
جوهرا فردا والثّاني
جوهرا مزدوجا*
هو الغضب في الجرائم
والشّهوة في المخازي،
جاهلا بما أقول،
إذ لم أكن أعلم،
ولا أنا تعلّمت
أنّ الشّرّ ليس
جوهرا قائم الذّات،
ولا كذلك أنّ عقلنا
ليس الخير الأعظم
والثّابت. 25 فكما تتمّ
الجرائم إن حرّك
النّفس باعث فاسد
فتندفع بنزق وهوج،
وتتمّ المخازي
إن دفعها هواها
المتفلّت إلى
عبّ اللّذّات
الجسديّة، كذلك
تسمّم الأخطاء
والأباطيل حياة
الإنسان إن فسدت
نفسه العاقلة
ذاتها. كذلك كانت
نفسي العاقلة
آنذاك، وأنا جاهل
بحاجتها إلى الاستضاءة
بنور آخر لتشارك
في الحقيقة، فما
هي بطبيعة الحقّ
بل "أنت سراجي"
يا ربّ، أنت "ستنير
ظلمتي"، و"من امتلائك
نحن كلّنا أخذنا".
أنت "النّور الحقيقيّ
الّذي ينير كلّ
إنسان آت إلى هذا
العالم"، إذ "ليس
فيك تحوّل ولا
ظلّ دوران". 26 لكنّي
كنت أسعى إليك
فتصدّني عنك،
لأذوق طعم الموت،
فإنّك "تقاوم
المتكبّرين".
وهل من كبْر أكبر
من ادّعائي بجنون
عجاب أنّي من نفس
طبيعتك؟ والحال
أنّي عرضة للتّحوّل،
وذاك بيّن لديّ
إذ لا شكّ أنّي
كنت أرغب في الحكمة
تحديدا لأصلح
نفسي متحوّلا
من أسوأ إلى أحسن.
لكنّي كنت أوثر
تصوّرك قابلا
للتّغيّر على
الكفّ عن تصوّر
ذاتي من ذات طبيعتك.
لذلك كنتَ تصدّني
وتقاوم انتفاخي
النّفّاج، إذ
أتمثّل صورا جسمانيّة
وأشجب أنا الجسد
الجسد ولا أعود
أنا الرّوح الهائم
بعد إليك، وفي
هيماني أهيم في
أشياء ليست فيك
ولا فيّ ولا في
الواقع الجسمانيّ،
ولا خلقها حقّك
لي، بل اختلقها
انطلاقا من الجسد
باطلي، وفي حمقي
وهذري أقول للصّغار
عبادك المؤمنين،
إخوتي الّذين
انعزلت دون أن
أعلم عنهم: "لماذا
تخطئ النّفس والله
هو الّذي خلقها؟"،
ولا أحبّ أن يقال
لي: "لِم يخطئ الله؟"
وأزعم ماهيتك
المنزّهة عن التّغيير
مقسورة على الخطإ
بدلا من الاعتراف
بأنّ ماهيتي المعرّضة
للتّغيير زاغت
بمحض إرادتها
وتخطئ عقابا لها.
27 كنت قد
بلغت من العمر
ربّما ستّا أو
سبعا وعشرين لمّا
ألّفت ذلك الكتاب،
مقلّبا في فكري
تصوّرات حسّيّة
تشوّش بلغطها
سوامع قلبي الّتي
كنت أشدّها لنغمك
الباطن أيّها
الحقّ العذب إذ
أفكّر في مسألة
"الجميل والمناسب"
وأودّ النّهوض
وسماعك والابتهاج
كما تبتهج "العروس
بصوت عريسها"
فلا أستطيع، لأنّ
أصوات ضلالي كانت
تأخذني إلى الخارج،
وتهوي بي أثقال
كبْري في أعماق
الهاوية. وأنت
لا "تسمعني سرورا
وفرحا" ولا "تبتهج
عظامي" إذ لم تكن
قد انطرحتْ في
اتّضاع. 4-16 دراسة
كتاب المقولات
العشر
28 وفيم نفعني،
وأنا في سنّ العشرين
تقريبا، أن يقع
بيدي كتاب أرسطو
المسمّى بالمقولات
العشر* الّذي كنتُ
كلّما ذكر اسمه
معلّمي أستاذ
البلاغة بقرطاج
وآخرون يُعدّون
علماء وأفواههم
تقرقع من الخيلاء،
أظلّ مشدوها مشدودا
إليه كشيء ربّانيّ
جليل، فقرأته
بدون عون أحد وفهمته؟
ولمّا تحدّثت
مع من يقولون إنّهم
بالكاد فهموه
مع تفسيرات معلّمين
راسخين في العلم
إضافة إلى رسوم
بيانيّة في التّراب
لم يستطيعوا أن
يذكروا لي منه
شيئا لم أكن قد
فهمته وحدي لمّا
قرأته بانفراد.
كان، كما بدا لي،
يتحدّث بوضوح
كاف عن جواهر الأشياء،
كالإنسان مثلا،
وماذا تتضمّن،
كصورة الإنسان
كيف هي، وقامته
كم تبلغ من قدم،
أو العلاقة كالقرابة،
أخ من هو مثلا،
أو المكان، كأين
يوجد، أو الزّمان،
كمتى وُلد، هل
هو واقف أو جالس،
هل له نعل أو شكّة
أسلحة، هل يفعل
شيئا ما أو يقع
عليه فعل ما، وعديد
الأوجه الّتي
استطعت إبراز
بعضها بأمثال
من منظور هذه المفاهيم
التّسعة، أو من
منظور الجوهر
نفسه أو الماهية.
29 فيم أفادني
ذلك والحال أنّه
أضرّ بي لمّا أوقع
في ذهني أنّ كلّ
شيء قابل للحصر
داخل تلك المقولات
العشر، فدفعني
إلى تصوّرك اللّهمّ،
أنت البسيط غاية
البساطة والمنزّه
عن التّحوّل،
كذات تُضفى عليها
صفة العظمة أو
البهاء، بحيث
تكونان فيك على
غرار الصّفات
في الذّات، كما
هو الشّأن في الجسم.
والحال أنّك ذات
عظمتك وجمالك،
بينما لا يكون
الجسم عظيما وجميلا
من مجرّد كونه
جسما*. إذ هل يكفّ،
حتّى إن صار أقلّ
عِظما أو جمالا،
عن كونه جسما؟
كان خطلا ما تصوّرتُ
بشأنك لا حقّا،
أخيلة بؤسي الخاوية
لا واقع سعادتك
الصّلب*. أنت شئت،
وكذا قُضيتْ فيّ
مشيئتك، أن تقدّم
لي الأرض "شوكا
وحسكا"، وألاّ
أحصل على خبزي
إلاّ بكدّي وكدحي*.
30 وفيم أفادني
أن أقرأ بمفردي
وأفهم كلّ ما وقع
تحت يدي من كتب
الصّنائع الحرّة
الشّريفة كما
يدعونها، أنا
عبد شهواتي السّيّئة
المنغمس في الشّرور؟
كنت أبتهج بها
وأجهل مصدر ما
فيها من حقائق
ثابتة، إذ اتّخذت
النّور ظِهريّا
وولّيت وجهي نحو
الأشياء التي
تستمدّ منه ضياءها،
بحيث لا يستقبل
ضياءه وجهي الّذي
أرى به الأشياء
المضاءة. كلّ ما
فهمتُ من فنّ الكلام
والاستدلال،
أو من قيس الأشكال،
أو الموسيقى وعلم
العدد* بدون صعوبة
كبرى، وبدون أن
يعلّمنيه أحد،
تعلمه يا ربّ فسرعة
الفهم ونفاذ الذّهن
هما أيضا هبتك.
لكنّي لم أكن أضحّي
لك حمدا على إنعامك،
لذا لم يفيداني،
بل أضرّا بي، إذ
اجتهدتُ لأسخّر
ذلك الجانب الصّالح
من طبيعتي لنفسي،
وبدلا من حفظ قوّتي
عندك ابتعدت عنك
و"سافرت إلى بلد
بعيد" لأهدره
في تفلّت الأهواء
الفاجرة. ماذا
استفدتُ من امتلاكي
شيئا حسنا لم أحسن
استعماله؟ لم
أكن أدرك فعلا
كم تستعصي تلك
العلوم على أفهام
النّاس، حتّى
الجادّين والأكياس،
إلاّ لمّا كنت
أحاول بدوري تفسيرها
لهم، فكان الفطن
بينهم أقلّهم
بطءا في متابعة
شرحي. 31 لكن فيم
نفعني ذلك، وأنا
يومذاك أتصوّرك
اللّهمّ ربّي
الحقّ كائنا جسمانيّا
نيّرا لامتناهيا،
وأتصوّر نفسي
مزعة من ذلك الجسم.
فأيّ إدّ! لكن كذلك
كان تفكيري، ولا
أستحي اليوم أن
أعترف لك اللّهمّ
برحماتك، وأدعوك
أنا الّذي لم أستح
يومذاك من المجاهرة
بكفري والنّباح
عليك. فيم أجداني
إذّاك فكري البارع
في تلك العلوم،
وفكّي عقد كلّ
تلك الكتب المستغلقة
بدون عون معلّم
بشريّ، ما دمت
ارتكبت في شؤون
ديني خطأ شنيعا
وأثيما، وتهت
في أخزى الضّلال؟
وفيم يضير صغارَك
بطء أذهانهم ما
داموا لم يبتعدوا
عنك، بل أنبتوا
لهم في وكر كنيستك
الآمن ريشا، وغذّوا
بقوت الإيمان
الصّحّيّ أجنحة
محبّتك؟ اللّهمّ
ربّنا في ظلّ جناحيك
نرتجي، فاحمنا
واحملنا. ستحملنا
يا ربّ، ستحملنا
صغارا وحتّى مشيبنا.
فقوّتنا وأنت
معنا هي القوّة
وهي بدونك كساح.
عندك يحيا دوما
خيرنا، وإنّا
بإعراضنا عنك
زغنا وضللنا. فلنستدرْ
نحوك الآن يا ربّ
فلا يحلّ بنا دمارك*.
فعندك يحيا بلا
هنة خيرنا الّذي
هو أنت. ولا خوف
ألاّ نجد المأوى
لأنّا منه خررنا،
فما خرّ في غيابنا
بيتنا العتيد:
أبديّتك. |