القدّيس أغسطينوس

 

الاعترافات

 

الكتاب الثّاني

 

 

 

 

2- الكتاب الثّاني

2-1 تذكّر خطايا الشّباب

  1 أريد تذكّر قبائحي الماضية وأرجاس البدن الّتي كانت تلوّث نفسي لا لحبّي لها بل لأحبّك يا ربّ. فحبّاً لحبّك* أفعل ذلك مستعيدا ذكرى طرقي الشّرّيرة بمرارة لألتذّ بك يا لذّة بلا زيف، لذّة سارّة آمنة تلمّني من الشّتات الّذي تفرّقتُ فيه شَعاعا مذ تخلّيت عن وحدتك وتبدّدت في كثرة الأباطيل؛ فقد تحرّقت في سِني شبابي الخوالي لإشباع شهواتي السّفليّة، وزيّنت لي نفسي أن أعرّش هنا وهناك في علاقات حبّ حُوّل كدراء، "وتحوّلت نضرتي إلى ذبول"، وانحللتُ أمام عينيك رائقا لذاتي وراغبا في أن أروق لعيون النّاس.

2-2 شهوة الجسد كبرى خطايا الشّباب

  2 وهل كان مصدر التذاذي سوى أن أحِبّ وأن أحَبّ؟ لكنّ ذلك لم يكن يتمّ في حدود علاقة روحيّة، فنيّرٌ درب الصّداقة، لكن من درن* شهوة الجسد وفوران سنّ البلوغ كانت تنبعث غمائم تتغشّى قلبي وتلفّه فيتعذّر التّمييز بين صفاء المودّة وظلام الشّهوة. كانا معا يغليان في فوضى ويتخطّفان شبابي الغرير عبر مهالك الغوايات وينزلان به في بؤرة المفاسد. كان غضبك يشتدّ عليّ وأنا لا أدري. كنتُ أتصامم عن صليل قيود فنائي، عقاب كبْر نفسي، وأمعن في الابتعاد عنك وأنت بذلك راض، وأتخبّط وأتبدّد وأتفسّخ وأتغالى في فجوري وأنت عنّي متغاضٍ. يا فرحي المتأخّر، كنتَ تصمت إذّاك وأتمادى في ابتعادي عنك قاذفا في كبْري وكلل نفسي القلقة الكثير من البذور العقيمة نطفًا للآلام*.

  3 من كان يمكن أن يكبح اندفاعي إلى الشّقاء ويحوّل إلى الصّلاح فتنَ الأشياء المتجدّة الّتي سرعان ما تزول، ويرسم لحلاوتها حدودا، فيحملني لجّ الشّباب المتلاطم حتّى ساحل الزّواج، لتجد متنفّسا، إن تعذّر أن تهدأ ثائرتها، في غاية الإنجاب كما تنصّ عليه شريعتك اللّهمّ يا واهبنا خلفة تعزّي موتنا، والقادر، بوضع يدك الرّفيقة علينا، أن تزيل عنّا "الأشواك والأحساك" الّتي لا يوجد في جنّتك مثلها. وما ببعيدة عنّا قدرتك حتّى حين نصدّ عنك. أو ليتني على الأقلّ انتبهت أكثر إلى صوتك المُهيب بي من وراء الغمام: "تكون لمثل هؤلاء مشقّة في الجسد، وأمّا أنا فإنّي أشفق عليكم" و"حسنٌ للرّجل أن لا يمسّ امرأة" و"إنّ غير المتزوّج يهتمّ فيما للرّبّ كيف يرضي الرّبّ وأمّا المتزوّج فيهتمّ فيما للعالم كيف يرضي امرأته"*. ليتني أصخت بمزيد من الاهتمام إلى نداءاتك وخصيت نفسي "من أجل ملكوت السّماء"* وانتظرت فرحا أن تضمّني بين أحضانك.

  4 لكنّي لبؤسي تحرّقت، وركبتُ إتيّ أهوائي المعتسف معرضا عنك يا ربّ وتعدّيت حدودك فلم أنج من سياطك، وهل يستطيع ذلك بشر؟ كنتَ دوما بقربي تتغمّدني برحمة صرامتك* راشّا ملذّاتي المحرّمة بمرارة الجراح، لأبحث بذلك عن ملذّات بلا جراح. وأنّى لي بذلك وأنا لا أجد شيئا فيما عداك اللّهمّ، فيما عداك أنت الّذي تتّخذ الألم أداة لتعليمنا وتوجع لتشفي وتميتنا كيلا نموت بمنأى عنك؟ أين كنت أسير، وكم كنت أبتعد عن "مستلذّات بيتك" وأنا في السّادسة عشرة من عمري الجسديّ لمّا استسلمت مذعنا لسلطان شهوة الجسد المشبوبة الّتي تبيحها أعراف البشر الشّائنة، وتحرّمها نواميسك؟ لم يهتمّ ذويّ بإسعافي بالزّواج إذ وجّهوا كلّ همّهم إلى تمكيني من حذق فنّ الخطابة وإتقان الإقناع برائع البيان.

2-3 انغماسه في الفجور ومسؤوليّة أبويه

  5 في نفس تلك السّنة انقطعت دراستي، فقد طلب منّي أبي العودة من مادورة* المدينة المجاورة حيث سافرت لأبدأ دراسة الأدب والخطابة، وراح يُعِدّ تكاليف رحلة أطول إلى قرطاج لمتابعتها، يحدوه الطّموح أكثر ممّا تتيح له ذات يده، فقد كان مواطنا بسيطا جدّا من طاغستة*. لمن أروي كلّ هذا؟ قطعا ما لك أنت اللّهمّ وإنّما قدّامك لبني جنسي البشر أرويه، حتّى لو لم يتيسّر لغير فئة قليلة، مهما ضؤل عددها، أن تقع على كتابي. ولِم أرويه؟ لنتفكّر، أنا وكلّ من يقرأه، من أيّة أعماق علينا أن نصرخ إليك يا ربّ*. وأيّ شيء أقرب من سمعك من قلب منيب وحياة بحسب الإيمان؟ مَن فعلا لم يُثن إذّاك جزيل الثّناء على أبي، الرّجل الّذي بذل لابنه فوق ما تسمح به موارده، لتسديد تكاليف رحلته الطّويلة، لمواصلة دراسته؟ فما كان مواطنون كثيرون أيسر منه حالا بكثير يُعنون بتوفير ذلك لأبنائهم. في الوقت نفسه لم يكن الأب نفسه يبدي حرصا على نموّي في طاعتك وعفّتي واستقامتي مادمتُ خصب اللّسان أو مجدبا* من حرثك بالأحرى يا إلهي أنت الرّبّ الواحد الحقّ الودود حارث حقلك- قلبي.

  6 لمّا بدأت وأنا في السّادسة عشرة إذّاك أعيش مع أبويّ جرّاء تلك العطلة لضرورة أسريّة في فراغ من كلّ المشاغل المدرسيّة، كانت سِدر الشّهوات قد تجاوزت رأسي طولا وما من يد لاقتلاعها. بل أكثر من ذلك، لمّا رأى أبي يوما في الحمّام غلالة شباب قلق تكسو جسدي، أسرع وكأنّ الأمر أهاج لديه لاعج الأحفاد يزفّ البشرى لأمّي فرحا منتشيا بتلك الخمرة الّتي جعلت هذا العالم ينساك أنت خالقه، فيحبّ خليقتك بدلا منك*، بالخمرة اللاّمرئيّة لإرادته المنحرفة الميّالة إلى أسفل. لكنّك كنت قد شرعت تشيد في قلب أمّي هيكلك وتضع الأساس لبيتك المقدّس* بينما كان هو لا يزال إلى ذلك اليوم مرشّحا للتّنصّر* فقط وحديث العهد. فانتفضتْ في رجفة ملؤها التّقوى والقلق وخافت عليّ وإن لم أكن بعد في عداد أتباعك من السّبل المعوجّة الّتي يسلكها من "يولّونك قفيّهم لا وجوههم".

  7 واحسرتاه! أأجرأ على القول إنّك ظللت صامتا يا ربّ وأنا أتمادى في الابتعاد عنك؟ أحقّا كنتَ صامتا إذّاك عنّي؟ وممّن سواك إذن تلك الكلمات العِذاب الّتي كنتَ بواسطة أمّي، أمتك الصّدّيقة، تلقيها في أذنيّ؟ لكن لا شيء منها واأسفاه نزل إلى قلبي لأفعل ما تأمرني. كانت تريد، وما زلت أذكر في خفايا سريرتي كيف أنذرتني بحرص وخوف شديدين، أن أجتنب الزّنا وخاصّة بالمحصنات. فتبدو لي أقوالها نصائح نسوان أخجل من الامتثال لها، وهي في الحقيقة منك دون أن أعلم، وأظنّك صامتا والكلام لها هي الّتي كنتَ بواسطتها تكلّمني، وفي شخصها تتلقّى استخفافي بك، أنا ابنها عبدك وابن أمتك. لكنّي كنت أجهل ذلك وأتقدّم إلى الهاوية في عمىً، خجلا من أن أكون بين لداتي الأقلّ خزًى. كنت أسمعهم يتحدّثون عن مخازيهم ويفاخرون على قدر ما يأتون من القبائح، فأستطيب فعل ذلك لا بدافع الشّهوة* فقط بل وللمباهاة أيضا. أيستحقّ الذّمّ غير الرّذيلة؟ أمّا أنا فكنت أنغمس أكثر في الرّذيلة كيلا أقعد مذموما مخذولا فإذا رأيتُني قصّرت عن غيري، أنسب لنفسي فعالا لم آتها حرصا على أن أعدل أرذل الفجرة كيلا أبدو أفدم لأنّي أبرأ وأُعَدّ أخسّ لأنّي أنقى.

  8 مع مثل هذه الفئة من رفاق السّوء كنت أمشي على ساحات بابل* وأتمرّغ في أوحالها كما لو كنت أتمرّخ "بالمرّ والعود وأفخر الأطياب". ولألتصق أكثر بسرّتها كان العدوّ الخفيّ يدوسني ويغويني لقابليّتي الإغواء. فتلك الّتي كانت قد نجت بنفسها من وسط بابل وإن تخلّف بها المسير في بعض أرباضها، أمّي الجسديّة، حضّتني لا محالة على العفاف، واهتمّت بما سمعت عنّي من زوجها، وبدأتْ تدرك ضرورة حبس ذلك الفوران الوبيء المنذر بخطر وبيل لاحقا ضمن حدود الزّوجيّة ما دام متعذّرا قطع شأفته، ومع ذلك لم تهتمّ جدّيّا بالأمر مخافة أن تخيّب أكبالُ الزّواج الرّجاءَ المعقود عليّ، لا رجاءَ الحياة الآخرة الّذي كانت أمّي تضعه فيك، بل رجاء تفوّقي في الدّراسات الأدبيّة الّتي كان كلا أبويّ، فيما أعلم، متعلّقا بها إلى أقصى حدّ، هو لأنّه كان لا يفكّر بك على الإطلاق تقريبا ويحمل بشأني أخبل الأفكار، أمّا هي فلأنّها كانت ترى هذه الدّراسة لا خالية من أيّة مضرّة فقط، بل وقد تساعدني لاحقا على الوصول إليك. كذلك أتصوّر وأنا أتذكّر قدر طاقتي موقفَ أبويّ يومذاك. هكذا أُطلق لي العنان للعبث فوق الحدّ المعقول كما يقتضي الحزم إلى الانحلال في شتّى الأهواء. وفي كلّ ذلك كأنّما كان سحاب كثيف يخفي عنّي اللّهمّ صفاء حقّك، و"إثمي يخرج من الشّحم".

2-4 جريمة مجّانيّة

  9 تعاقب السّرقةَ يا ربّ بلا شكّ شريعتك، وكذلك النّاموس المكتوب في قلوب البشر، والّذي لا يلغيه ظلمهم: إذ أيّ سارق يقبل بطيب خاطر أن يُسرق؟ ولا الغنيّ كذلك يرضى بأن يسرقه أحد ولو من عوز. والحال أنّي أردت أن أسرق وفعلت، لا مدفوعا بالعوز، بل فقط لافتقاري إلى البِرّ وعزوفي عنه، وتشبّعي من الإثم: فقد سرقت ما يوجد عندي منه أكثر وأحسن، وما كنت أريد التّمتّع بما استهدفته بسرقتي، بل بالسّرقة والخطيئة في ذاتها. كانت توجد بجانب كرمتنا شجرة إجّاص مثقلة بثمار ليس في شكلها ولا رائحتها ما يغري بها حقّا. كنّا مجموعة من شرار الفتيان، جسنا إليها في هجعة اللّيل لنجنيها ونحمل غلّتها، بعدما واصلنا حتّى ذلك الوقت عبثنا في تلك النّواحي وفق عادتنا المقيتة، فحلَتْنا منها كمّيّة وفيرة، لا لنأكلها بل لنرمي بها إلى الخنازير، وإن أكلنا منها لا محالة شيئا يسيرا، فإنّما راق لنا فعل ذلك لأنّه غير مباح. هوذا اللّهمّ قلبي، هوذا قلبي الّذي رأفتَ به وهو في أعماق الهاوية. ليقل لك الآن قلبي الماثل أمامك عمّا كان يبحث هنالك، ولماذا جعلني أسيء مجّانا، بلا داع إلى الشّرّ سوى الشّرّ ذاته. بشعا كان الشّرّ وأحببته، أحببت موتي، أحببت زللي، لا ما زللت بمدّ يدي إليه بل زللي ذاتَه أحببتُ، مبينا عن دمامة نفسي المنصرفة عن سندك المتين إلى اندحارها ودمارها والملتذّة في الخسّة بالخسّة ذاتها ولا شيء سواها.

2-5 هل توجد حقّا جريمة مجّانيّة؟

  10 للأشياء المادّيّة الجميلة وللذّهب والفضّة وما شابههما فتنة. وفي التّماسّ الجسديّ يعود للتّوافق دور أساسيّ، والأمر مماثل في بقيّة الحواسّ، لكلّ واحدة منها أسلوبها الخاصّ في التّلاؤم مع الحسّيّات. كذلك لشرف هذا العالم، وللسّيادة والسّيطرة رونقها، ومن هنا أيضا تأتي الرّغبة في الانتقام. مع ذلك لا يقتضي نيل هذه المستحسنات الابتعاد عنك يا ربّ، ولا الحياد عن شريعتك. وللحياة الّتي نحيا هنا فتنتها الّتي تعود إلى حدّ ما إلى جمالها وتوافقها مع هذه المستلذّات الدّنيويّة. عذبة أيضا هي الصّداقة بين النّاس، فهي برباط الوداد توحّد بين أنفس عدّة. من أجل هذه الأشياء وما شابهها نخطَأ، لمّا نلهث وراءها وهي خيرات دنيا، وندع خيرات أفضل وأسمى: أنت اللّهمّ وحقّك وشريعتك. لهذه الأشياء الدّنيا لا جرم عذوبتها لكن لا كالّتي لله الّذي خلق كلّ شيء، والّذي "به يفرح الصّدّيق وبه يلتذّ ويفتخر كلّ مستقيمي القلوب".

  11 عند التّحقيق في جريمة ما، لا نصل عادة إلى اعتقاد حول دافعها ما لم نتبيّن احتمال الطّمع في نيل شيء من تلك الخيرات الّتي نعتناها بالدّنيا، أو الخوف من فقدانه. فلها بهاؤها وجاذبيّتها، وإن بدت بجانب الخيرات العليا والنّعيم الرّبّانيّ حطيطة وخسيسة. هذا قتل إنسانا، فلِم قتله؟ اشتهى زوجته أو متاعه، أو أراد سرقة ما يوفّر به لنفسه أسباب العيش، أو خشي أن يسلبه نفس تلك الخيرات، أو تحرّق للثّار من إساءته إليه. هل يعقل أن يرتكب جريمة قتل بدون سبب سوى التّلذّذ بجريمة القتل لذاتها؟* من يصدّق ذلك؟ قيل عن شخص وصلت به القسوة حدّ الجنون "إنّه كان شرّيرا ومتوحّشا مجّانا بالأحرى"، لكن سبق لراوي أخباره أن بيّن السّبب إذ قال: "كلّ ذلك مخافة أن يصيب يده ونفسه الفتور إن بقي عاطلا". لم ذلك؟ لم هذا التّصرّف؟ بالتّحقيق ليستولي على رومية* بفضل التّمرّس بالإجرام، فينال الشّرف والثّروة والسّؤدد، ويتخلّص من خوف القوانين وعسر الأمور بسبب ضيق موارده ووعيه بجرائمه. حتّى كاتلينا* أحبّ إذن لا جرائمه لذاتها، بل بالتّأكيد شيئا آخر لأجله كان يرتكبها.

2-6 زيف حرّية الاختيار الإنسانيّة

  12 وأنا الشّقيّ ماذا أحببت فيك يا سرقتي، يا جريمتي البشعة في تلك اللّيلة من سنتي السّادسة عشرة؟ ما كنتِ شيئا بهيّا، فأنت سرقة. بل هل أنتِ شيء كائن حتّى أخاطبك؟ بهيّة كانت الفواكه الّتي سرقنا فهي اللّهمّ خليقتك، أنت أبهى الكائنات جميعا، خالق كلّ الأشياء، الإله الودود، الخير الأعظم وخيري الحقّ. بهيّةً كانت تلك الفواكه لكن ما إيّاها اشتهت نفسي الشّقيّة. كان عندي أكثر وأجود منها، وإنّما قطفتها لأسرق فقط. فبعدما جنيتها رميت بها مُقتاتا فقط بإثمي الّذي كنت ألتذّ به في ابتهاج. ولئن دخل فمي شيء من تلك الفاكهة فالسّرقة وحدها حلّت فيه مذاقه. وأنا الآن يا ربّ أبحث عمّا استمرأت في سرقتي، فما فيها أيّ جمال، لا أقصد كذلك الماثل في البرّ والحكمة، ولا كالّذي في فكر الإنسان وذاكرته وحواسّه وحياته النّابضة بالحركة ولا في النّجوم المشرقة حسنا في مواقعها، أو الأرض والبحر الزّاخر بالأحياء تتلو مواليدُها أمواتَها، ولا حتّى كالجمال النّاقص الّذي تخدعنا به عيوب باطنة.

  13 فالكبْر يحاكي الرّفعة بينما أنت وحدك الله العليّ الرّفيع فوق كلّ الكائنات. وماذا غير الجلال والمجد يَنشد الطّموح، والحال أنّك حقيق بالتّمجيد والإجلال إلى الأبد وحدك دون سواك؟ كذلك يريد جبروت الأقوياء أن يُتّقى، لكن من غير الله الأحد حقيق بالتّقى، وهل ومتى وأين وكيف يستطيع كائن أن ينتزع أو يأخذ من سلطانه شيئا؟ بملاطفاتهم يريد المُجّان الفوز بالحبّ، لكنّ لا شيء ألطف من محبّتك ولا شيء حبُّه أسلم من حقّك المشرق حسنا وسنا بين كلّ الأشياء. والفضول يتّخذ مظهر حبّ العلم وأنت بكلّ شيء فوق كلّ ذي علم عليم. حتّى الجهل والحمق يستتران باسم البساطة والبراءة بينما لا يوجد أبسط منك؛ ومن أبرأ منك وأبعد عن الظّلم، فإنّما أنفسَهم يظلم الأشرار بسيّئات أعمالهم؟ والكسل يحبّ أن يُعَدّ طلبا للرّاحة، لكن أيّة راحة أجلب من روْح الله للطّمأنينة؟ والبذخ يحبّ أن يدعى رخاء ووفرة، لكنّك أنت الامتلاء والمَعين الدّائم لملذّات لا تفسد. الإسراف يتستّر بقناع السّخاء، لكنّك أنت موزّع كلّ الخيرات الأغنى والأسخى. الشّحّ يحبّ امتلاك المزيد والحال أنّك مالك كلّ الأشياء. حبّ التّميّز ينافس على الصّدارة، فمن يفوقك امتيازا؟ الغضب يطلب الانتقام، فمن أعدل منك نقمة؟ الحرص يرتعد فرَقا على الأشياء الحبيبة ويسهر قلقا على سلامتها من غوائل الدّهر العجيبة المفاجئة فأيّ شيء لديك مفاجئ أو عجيب؟ ومن يفصل عنك ما تحبّ؟ وهل من ضمان وأمان في غير حماك؟ الأسى يفنينا على المفقود الّذي كان حبّه يسلّينا، لأنّه يحبّ ألاّ يؤخذ منه شيء كما هو الشّأن فيك.

  14 هكذا تزني النّفس لمّا تولّي عنك وتبحث في ما سواك عمّا لا تجد نقيّا صافيا إلاّ لمّا تعود إليك. زوراً يحاكيك كلّ من يبتعدون عنك ويطاولونك. لكنّهم حتّى بمحاكاتك بهذا النّحو يظهرون أنّك خالق الكون ولا سبيل بالتّالي إلى الابتعاد عنك تماما. ماذا أحببتُ إذن في تلك السّرقة وفيم حاكيتُ ربّي ولو إفكا وعدوانا؟ أم زُيّن لي فعل ذلك ضدّ ناموسك زورا، لأنّي لا أملك قدرة حقيقيّة على فعله، لأتظاهر أنا الأسير بحرّيّة كسيحة بفعل المحرّم بدون عقاب في محاكاة آثمة لقدرتك الواسعة؟*. هوذا بين يديك ذاك العبد الآبق من سيّده المشتاق إلى الظّلّ. يا لنتن وبشاعة الحياة ويا لغور هاوية الموت! أأمكن أن أحبّ الحرام فقط لأنّه حرام؟*

2-7 نعمة الله على البشر بتجنيبهم الذّنوب أو مغفرتها

  15 ماذا أردّ للرّبّ عمّا أنعم به عليّ، إذ تستعيد ذاكرتي تلك الخطايا ونفسي لا تخاف عقباها؟ حقيق بي أن أحبّك يا ربّ وأشكرك وأعترف لاسمك، فلقد غفرتَ لي سيّئات أعمالي الكُبَر. أعلم أنّك أنت بنعمتك ورحمتك أذبتَ كالثّلج خطاياي. وأعلم أنّي بنعمتك أيضا تركتُ ما لم آت من السّيّئات، وهل كان بمقدوري أن أتناهى عن منكر أنا الّذي أحببت جريمة مجّانيّة؟ وأعرف بأنّك عفوتَ عن كلّ ذنوبي، ما فعلتُ من ذات نفسي وما لم أفعل بهدايتك. مَن من النّاس يجرؤ عند التّفكير بضعفه على أن ينسب لقواه الذّاتيّة نقاوته وبراءته ليوليك حبّا أقلّ كما لو كان أقلّ حاجة إلى رحمتك الّتي تمحو بها آثام من ثاب إليك؟ فلا يهزأْ منّي من دعوتَه فاتّبع نداءك واجتنب الآثام الّتي يقرأها عنّي إذ أستذكرها وأعترف بها، إن شفيتُ من علّتي على يد الطّبيب الّذي قيّض له ألاّ يعتلّ أو بالأحرى أن يعتلّ أقلّ منّي وليزددْ لك حبّا وهو يرى أنّ من خلّصني من كلّ أسقام آثامي هو الّذي حفظه من أسقام تلك الآثام العظام.

2-8 التّواطؤ مع رفاق السّوء هو الدّافع إلى الجريمة؟

  15 "أيّ ثمر حصل لي" واشقوتي من تلك الفعال الّتي أخجل الآن إذ أذكرها، لاسيما تلك السّرقة الّتي ارتكبتها لأجل السّرقة ولا شيء سواها والحال أنّها عدم فيزيدني ذلك شقاء؟ مع ذلك ماكنت سأفعلها بمفردي. كذلك كانت ذهنيّتي يومئذ على ما أذكر، ما كنت سأفعلها مطلقا لوحدي. أحببتُ إذن فيها أيضا مشاركة رفاقي الّذين نفّذتها معهم، وليس صحيحا إذن أنّي لم أحبّ سوى السّرقة. كلاّ بل لا شيء سواها فهذا الدّافع الآخر عدم. ما حقيقة أمري؟ من يعلّمني ذلك سوى الّذي ينير قلبي ويبدّد عتماته؟ لمَ يدور بذهني أن أبحث وأتبيّن وأميّز، فلو كنتُ يومذاك أحبّ تلك الثّمار الّتي سرقتها وأشتهي التّمتّع بأكلها، لو كان هذا كافيا، لأمكنني أن أقترف بمفردي هذا الجرم الكفيل بتبليغي متعتي دون حاجة إلى إذكاء أُكال شهوتي بالتّحاضّ مع شركائي فيه؟ لكن بما أنّي لم أكن أجد لذّة في تلك الفاكهة، فقد كانت إذن في الجرم ذاته الّذي تظاهر عليه جمع من الخطأة.

2-9 الشّرّ بقصد العبث

  16 ماذا كان تفكيري؟ كان بالتّأكيد في منتهى القبح، وويل لي أنا الّذي كنت أفكّر بذلك النّحو. لكن ماذا كان بالتّحديد؟ "من الّذي يتبيّن الزّلاّت"؟ كان كضحك يدغدغ قلوبنا لأنّا نخدع أناسا لا يدور ببالهم أن تصدر عنّا تلك الفعال ويتضايقون منها. لماذا كنت ألتذّ إذن بأنّي لا أفعلها بمفردي؟ ألأنّ لا أحد يضحك وحده؟ صحيح أنّ لا أحد يفعل ذلك بسهولة، ومع ذلك يحدث لأشخاص يوجدون بمفردهم بدون حضور أحد أن يغلبهم الضّحك إن عرض لحواسّهم أو ذهنهم أمر مضحك جدّا. في حالتي ما كنت سأفعل ذلك وحدي، قطعاً ما كنت سأفعله وحدي. هي ذي أمامك يا ربّ ذكرى حيّة من نفسي؛ ما كنت بمفردي لأرتكب تلك السّرقة الّتي التذذت فيها لا بما سرقت بل بأنّي سرقت، ولم أكن بمفردي لأقترفها فما كان اقترافها سيلذّ لي. فيا للصّداقة العدوّة اللّدود*، ويا لغواية الفكر العصيّة عن الفهم، وحبّ الإيذاء وشهوة الإضرار بالغير قصد العبث والمزاح بدون أيّة رغبة في مغنم أو انتقام، بل كما يقال: "هيّا! هلمّنا!" فيستحي المرء إذّاك ألاّ يكون عديم الحياء.

2-10 الظّمأ إلى البراءة

  17 من يحلّ هذه العقدة المتناهية الاشتباك والالتواء؟ كان فعلا شائنا! لا أريد أن أفكّر به ولا أن أراه. إيّاك أبغي، أيّتها العدالة والبراءة البهيّة المتألّقة بهاء وضياء وصفاء، لأتشبّع ولا أشبع منك*. في كنفك الرّاحة والحياة الخليّة المنعّمة. من يدخل فيك "يدخل إلى فرح ربّه"، ولا خوف عليه، وسيُحبر في النّعيم الأسنى. لقد حدْتُ عنك اللّهمّ وتهتُ بعيدا عن جادّتك الصّلبة في شبابي واستحلت "بلد مجاعة" لذاتي.