أبوليوس

 

الحمار الذّهبيّ

 

الكتاب العاشر

 

حواش 

11

10

9

8

7

6

5

4

3

2

1

مقدّمة

 

 

10- الكتاب العاشر

10-1 الحمار بالزّيّ الحربيّ

   لا أدري ما فعل صاحبي الجنّان من الغد، أمّا أنا فاقتادني من المذود، بدون اعتراض أحد، ذاك الجنديّ الّذي تلقّى خير تأديب على فرط هوجه^، فساقني على الطّريق محمّلا بأمتعة له من ثكنته، على ما بدا لي، وبكامل الجهاز والعتاد، بالطّريقة العسكريّة. فكنت أحمل خوذة لمّاعة، ودرعا دلاصا يبدو بريقها من بعيد، ورمحا تلفت الأنظار بطول قناتها، وقد رتّب هذه العدّة بأعلى كومة الأكياس، على غرار المحاربين، لا لكونها جزءا من الزّيّ النّظاميّ آنذاك، بل على الأرجح لتخويف المسافرين المساكين. بعدما اجتزنا طريقا ريفيّة غير وعرة وصلنا إلى بلدة، فلم نتوجّه إلى فندق بل نزلنا ببيت خفير^؛ فعهد بي حالا إلى خادم وانطلق عجلا إلى قائده الّذي ينضوي ألف عسكريّ تحت إمرته.

10-2 عاشقة ربيبها

   تعود لي هنا ذكرى جريمة بشعة اقترفت هناك بعد أيّام من وصولنا، أدوّنها لكم لتقرؤوها بدوركم^: كان لربّ بيت ولد شابّ أحسن تربيته فكان مثال البِرّ والأدب، يودّ كلّ لو أنجبه أو أنجب مثله. ماتت أمّ ولده منذ أمد بعيد، فتزوّج من جديد، وأنجبت زوجته الثّانية ولدا آخر أدرك بدوره الثّانية عشرة مؤخّرا. لكنّ زوجته الّتي غدت في بيت زوجها صاحبة العقد والحلّ بحسنها لا بخُلُقها، حطّت عينها، إمّا لسفه مركّب في طبعها وإمّا مدفوعة بقدر إلى أرذل المخازي، على ربيبها^. فلْتعلمْ هنا أيّها القارئ أنّك ستقرأ فاجعة لا طرفة، وسترتفع من نعل الملهاة إلى خفّ المأساة.  قاومت تلك المرأة طالما بقي حبّها النّاشئ في طور الطّفولة، قواه الّتي لم تستفحل بعد مخفية حمرة خفيفة بمنتهى السّهولة. ثمّ لمّا اجتاح أتون الحبّ فؤادها وأضرمه بناره المستعرة بلا اعتدال، استسلمت للإله الجبّار، فتظاهرت بالمرض مموّهة جرح الرّوح بسقم الجسد. لا أحد يجهل فعلا أنّ أعراض ذُويّ الصّحّة والوجه تتشابه تماما عند المرضى والعشّاق: من شحوب وامتقاع، وعيون ذبلى، ورُكُب تعبى، ونوم يغلب عليه الاضطراب وتنهّد ملؤه العذاب يزيد حرقته السّقام؛ حتّى لتخالها ببساطة نهبا لنوبات الحمّى لولا بكاؤها. فواسخفَ عقول الأطبّاء وجهلهم، لِم هذا النّبض المضطرب وهذا الامتقاع، لِم اللّهاث المعنّى والتّقلّي على الجانبين بلا انقطاع؟ وما أيسر تشخيص الدّاء مع ذلك يا آلهة السّماء، لا على الطّبيب النّطاسيّ لزاما، بل على من يعرف الغرام، إن رأى أحدا يلتهب ولم ير في جسمه اضطراما!

10-3 بوح بالحبّ

   في عجزها عن احتمال جنون هواها الّذي كان يخضّ حشاها، قطعت صمتها الطّويل، طالبة إحضار ابنها، وهو اسم كم كان بودّها أن تزيله عنه كيلا يذكّرها بخزيها؛ ودون توان لبّى الفتى أمر أمّه المريضة، وقصد غرفتها مغضّن الجبين كالشّيخ من الأحزان، مؤدّيا واجب الطّاعة المستحقّ لزوجة أبيه وأمّ أخيه. أمّا هي فأعياها عذاب صمتها الطّويل واستمرّت في حيرتها كالغريق بين الأمواج متأرجحة، كلّما بدا لها لفظ مناسبا للظّرف عادت فاستبعدته مستقبحة؛ إذ لم تزل بها بقيا من الحياء تقاوم مترنّحة؛ وظلّت تتردّد من أين تبدأ. أمّا الشّابّ الّذي لم يكن يخامره ريب، فبعفويّة سألها مطرقا عن سبب مرضها. إذّاك استجمعت شجاعتها، وانتهزت فرصة خلوتهما المشؤومة، وقالت له باختصار بصوت مرتعش ودمع مدرار، ومغطّية وجهها بطرف الإزار: ^ "سبب دائي الحاضر ومصدره، وفي نفس الوقت دواؤه والمنجى الآمن الوحيد لي منه هو أنت؛ عيناك نزلتا عبر عينيّ إلى صميم فؤادي لتضرما فيّ حريقا التهمني حتّى النّخاع. فارحم من تتلف بسببك ولا يزعْك البتّة البرّ بأبيك الّذي ستنقذ زوجته المحتضرة؛ في محيّاك أرى صورته فأهواك وما أخالف سنّة الحياة في ذاك؛ ها أنت بمأمن ولديك فرصة مواتية لفعل ما يلزم! ففي عداد ما لم يقع ما لا أحد يعلم."

10-4 الحبّ والكراهية

   صُعق الفتى من الخطب الفجائيّ، ورغم نفوره فورا من ذلك الفعل الإجراميّ، قدّر أنّه لا ينبغي تأجيج صبابتها بصرامة رفض لا توافق الموقف، بل يحسن إرجاؤها بوعد حذر حتّى تخفَّف. لذا وعدها متلطّفا، ونصحها مشدّدا أن تتشجّع وتستردّ نضرتها وعافيتها، إلى أن يخلو بغياب أبيه الجوّ للذّة الهوى، وانقلب في الحين بعيدا عن مرآها الأثيم. رأى أنّ كارثة أسرته الكبرى بحاجة إلى رأي أحكم، فتوجّه فورا إلى مربّيه الشّيخ المشهود له بالرّأي السّديد، وبعد طول المداولة لم يبدُ لهما من حلّ أسلم من الإسراع بالفرار للإفلات من ضربة القدر الجبّار. لكنّ المرأة الّتي لم يكن بوسعها تحمّل أدنى تأجيل سارعت باختلاق ذريعة وأقنعت زوجها بأساليب عجيبة بالمضيّ حالا إلى ضياع  له بعيدة. فلمّا فعل طلبت بتلهّف، وقد جنّت بحلول الأجل، موعدا للشّهوة الموعودة؛ لكنّ الفتى ظلّ يتعلّل تارة بعذر وطورا بآخر متجنّبا لقاءها المقيت، حتّى أدركت بوضوح من تنوّع معاذيره إخلافه وعده؛ إذّاك حوّلت في حركة عكسيّة حبّها الآثم إلى حقد شرّ منه. لجأت في الحال إلى عبد لها من مخصّصات مهرها، طويل الباع في كلّ شرّ ولكلّ جرم مطلق اليد حرّ، وأخبرته بما تبيّت من المكر والغدر، فلم يبد لهما من حلّ أفضل من إزالة الشّابّ المنكود كلّيّا من الوجود؛ من ثمّ أرسلت عبد السّوء على الفور فأحضر سمّا فتّاكا خلطته جيّدا بالخمر؛ وأعدّت الشّراب القاتل لتقتل ربيبها الغافل.

10-5 أرادت ربيبها وأراد القدر ابنها

   بينما الغادران يتشاوران حول الفرصة المناسبة لتقدَّم له الخمر، شاءت الصّدفة أن يرجع إلى البيت، من حصّة التّعليم الصّباحيّة، الولد الأصغر، ابن تلك المجرمة، فيجد، وقد ألمّ به عطش إثر تناول غدائه، قدح النّبيذ الّذي دُسّ السّمّ فيه، فيجترعه فورا جاهلا بالكيد الّذي يخفيه. وما إن شرب قدح الموت المعَدّ لأخيه حتّى هوى على الأرض مردى؛ فانفطر لمصرع الولد المفاجئ قلب معلّمه، وأخذ حالا يصرخ ويولول مناديا أمّه وكلّ أسرته؛ وما لبث الجميع أن علموا بحادثة الشّراب المسموم واختلفوا في من يتّهمون بذلك الجرم العظيم. لكنّ تلك المرأة الشّرسة والمثال الفريد لمكر زوجة الأب لم تتأثّر بميتة ابنها الشّنيعة، ولا بعلمها أنّها المتسبّبة فيها، ولا بالكارثة الّتي حلّت ببيتها، ولا برزيّة زوجها، ولا بألم المأتم، إذ كان همّها استغلال مصاب الأسرة للانتقام؛ وعلى الفور أوفدت رسولا ليخبر بخراب البيت زوجها المسافر، فعاد على عقبيه بسرعة؛ وبكلّ جسارة اتّهمت المجرمة علنا ربيبها بقتل ابنها. وما كذبت في ذلك تماما، فقد سبق ولدها الشّابّ للموت المعدّ له؛ لكنّها كانت تدّعي أنّ الأخ الأصغر قُتل على يد ربيبها لرفضها تلبية مراودته الدّنيئة ومحاولته انتهاك عرضها. ولم تكتف بتلك الأكاذيب النّكراء، بل أضافت أنّه هدّدها بسيفه لفضحها خزيه؛ فجزع الأب المنكود المنكوب في كلا نجليه، وجاشت نفسه بالآلام أمام تلك الكرب العظام. كان يرى ابنه الأصغر يُدفن أمام عينيه، ويعلم أنّ الآخر سيُحكم عليه بالإعدام حتما، لمحاولة الزّنا بزوجة أبيه وقتل أخيه؛ وباستمرار زوجته المحبوبة في شكاواها الكذوبة نجحت في تأجيج حقده ضدّ ولده.

10-6 الشّيخ يرفع قضيّة ضدّ ابنه

   ما كادت تتمّ طقوس الدّفن حتّى انطلق الشّيخ المنكود من المحرقة رأسا إلى المحكمة، مبلّلا وجهه بدموعه المسترسلة، وممزّقا شيبته المعفّرة بالرّماد. هناك بالتّوسّلات وبالبكاء، بل والتّمسّح برُكب الخفراء، وفي جهله بمكائد زوجته الماكرة، وبكلّ حماس نفسه الفائرة، مضى يجتهد لإلحاق شرّ الأذى بابنه الباقي، مستحلّ الزّنا بمحرمه في فراش والده، وقاتل القريب السّاعي في هلاك أخيه، والسّفّاح المتوعّد بسيفه زوجة أبيه. فأثار تعاطف واستنكار القضاة والجمهور معا إلى درجة أنّ الكلّ ضجّوا ضيقا بطول إجراءات المحاكمة والتّحقيق مع المتّهم في جرم جليّ وتعميات الدّفاع المدروسة طالبين توقيع العقاب على هذا الخطر العموميّ على مرأى من العموم بسحقه بالأحجار. دفع القضاةَ الخوفُ على سلامتهم في حال تطوّر الغليان الشّعبيّ من سخط بسيط في بداياته إلى شغب يخلّ بالنّظام العامّ، إلى طلب تدخّل الخفراء وتهدئة الشّعب ليُبتّ في القضيّة وفق القانون والأعراف بنحو متحضّر من خلال محاكمة، وبفحص حجج الطّرفين، لا أن يدان المتّهم دون الاستماع إليه على نحو وحشيّة الهمج أو تسلّط الطّغاة المستبدّين، فتُترك للأجيال سابقة فظيعة تتمّ في زمن أمن وسلم.

10-7 شهادة حاسمة

   لقي هذا الرّأي السّديد القبول، وفي الحال طُلب من المُحضر الإعلان عن عقد جلسة لمجلس الشّيوخ؛ فأتوا حالا وجلس كلّ في مكانه المعتاد الّذي يخوّله قانونيّا مقامه؛ وبطلب جديد من المحضر دخل المدّعي أوّلا. ثمّ نودي على المتّهَم فاقتيد بدوره؛ وأهاب المحضر بالمحامين، وفقا للتشريع الأتيكيّ * وقانون مارس*^ أن يمتنعوا عن الافتتاحيّات الخطابيّة واستثارة عواطف الجمهور. عرفت كلّ هذه التّفاصيل من عدّة أناس كانوا يذكرونها في أحاديثهم أمامي. أمّا العبارات الّتي حمل بها المدّعي على المتّهم، والوقائع الّتي فنّد بها المتّهم الدّعوى، والخطب والمحاجّات، فلا أستطيع، لوجودي بعيدا عند معلفي، معرفتها ولا يمكنني بالتّالي إخباركم بما لم أعلم؛ لكنّي سأدوّن في هذه الرّسالة ما علمتُ يقينا. ما إن انتهت مرافعة الطّرفين، حتّى قرّرت المحكمة أنّه لا بدّ من تبيين حقيقة الجرائم وصدق الحجّة بوقائع ثابتة، ولا مجال للظّنّ والشّبهات في حكم بمثل تلك الخطورة. لذا يجب أوّلا إحضار ذلك العبد الّذي يعلم وحده على ما يقال حقيقة ما جرى. بدأ  الوغد بدون أدنى وجل من فداحة الحكم وحجمه، ولا من مرأى المجلس الموقّر بأتمّه، ولا من إدراكه شناعة جرمه، يدّعي ويؤكّد^ كحقائق ثابتة أكاذيب اختلقها: × أنّ الشّابّ في غيظه من صدّ زوجة والده وليثأر لإهانته دعاه وأمره بقتل ابنها مع وعده بمكافأة سنيّة جزاء صمته، وهدّد في حالة الرّفض بقتله، وأنّه سلّمه السّمّ ليعطيه أخاه بعدما مزجه بيده، ثمّ لارتيابه بأنّه قد يمتنع عن تقديم القدح ويحتفظ به دليلا على جرمه قدّمه في النّهاية للغلام بيده. بإدلاء عبد السّوء بتلك الشّهادة بتأثّر مفتعل وبالطّريقة الّتي تجعلها شبيهة تماما بالحقيقة انتهت إجراءات المحاكمة.

10-8 منعطف في مسار القضيّة 

   لم يكن يوجد بين الخفراء من بقي لديه عطف على الفتى كيلا ينسب الجريمة باقتناع إليه، ويحكم بأن يخاط في كيس من الجِلد عليه. لمّا باتت جاهزة أخيرا بطاقات الحكم المتماثلة حيث خطّت أزاميل كلّ القضاة بالإجماع نفس العبارة، لتُلقى وفق العادة المتّبعة منذ القدم في صندوق الاقتراع النّحاسيّ، وبالإدلاء بحصى التّصويت يكون قد بُتّ في مصير المتّهم بنحو نهائيّ، ولا يُسمح بعدئذ بتغيير أيّ شيء، بل يُسلّم المدان إلى يد الجلاّد، تقدّم أحد أعضاء المجلس، وهو شيخ طبيب يحظى لدى الجميع بثقة مطلقة ومصداقيّة فائقة فسدّ فتحة الصّندوق بيده كيلا يدلي أحد بدون رويّة ببطاقته، وأعلن للهيئة: × "في مثل سنّي يسعدني حقّا أنّي حظيت لديكم باستمرار بكلّ اعتبار؛ ولن أسمح بارتكاب جريمة قتل محقّقة بإدانة متّهم على أساس تهم ملفّقة، ولا أن يجرمكم، وأنتم تصدرون تحت اليمين حكمكم، كذب عبد شقيّ على أن تنكثوا قسمكم. شخصيّا لا أستطيع أن أنتهك حرمة الآلهة وأخادع ضميري بإصدار حكم جائر، فاعلموا منّي حقيقة ما جرى.

10-9 شهادة الطّبيب

   أتاني هذا الوغد قبل أيّام، طالبا منّي إحضار سمّ قتّال، وعارضا مقابل ذلك عينا مائة مثقال، زاعما أنّ مريضا يشكو من داء عضال بحاجة إليه لرغبته في التّخلّص من عذاب حياته#. لكنّي فطنت إلى أنّ عبد السّوء اللّئيم كان يكذب ويلفّق التّعاليل بأقبح وجه، فبادرت وأنا على يقين أنّه يدبّر جريمة، بإعطائه الشّراب؛ نعم، أعطيته إيّاه. لكنّي لم أقبل على الفور الثّمن الّذي قدّمه احتياطا للمساءلة المتوقّعة، وقلت له: "لنتحقّقَ من عدم وجود قطعة مغشوشة أو منقوصة الوزن بين هذه المثاقيل الذّهبيّة، لنضعْها في هذه الصّرّة ولتمهرْها بخاتمك، فنتأكّد غدا بمحضر الصّرّاف من سلامتها." هكذا استدرجته إلى ختم النّقود الّتي أرسلتُ بمجرّد مثوله أمام المحكمة للشّهادة، أحد أعواني لإحضارها بسرعة من العيادة، وهأنذا أعرضها أمامكم. فليرها وليتعرّف على ختمه؛ فكيف يجوز اتّهام الأخ بالسّمّ الّذي اشتراه هذا العبد؟"

10-10 مكافحة بين شاهدين

   استولى إذّاك على العبد اضطراب شديد، وحلّت محلّ نضرة الحياة فيه غبرة الأموات وغمر عرق بارد كلَّ أعضائه، × واصطفقت ساقاه، وأخذ يحكّ رأسه هذه النّاحية مرّة وتلك مرّة، وتلعثم وهو يغمغم بكلمات غير مفهومة وقد انفرجت شفتاه؛ بحيث لم يعد أحد يصدّق حقًّا براءته؛ لكنّه ما لبث أن استجمع مكره ورباطته، وأخذ ينفي مع الإصرار على الإنكار والتّمسّك بتكذيب شهادة الطّبيب. إزاء الطّعن في نزاهته كقاض وفي صدقه أمام العموم، بذل الطّبيب قصارى جهده لتفنيد مزاعم العبد اللّئيم. أخيرا فحص أعوان الأمن بأمر من القضاة يديه، فوجدوا خاتما حديديّا لديه قارنوه بالدّمغة الّتي على الصّرّة فأيّدت المقارنة الشّبهة وعزّزتها. أحضر دولاب التّعذيب والمنصبة وفق عادة اليونان لكنّ العبد رسخ على موقفه بعناد عجيب ولم يفلّ عزمه الجَلْد ولا حتّى النّار.

10-11 حجّة إضافيّة

   إذّاك انبرى الطّبيب قائلا: "لا لن أسمح بإعدام هذا الشّابّ البراء ضدّ نواميس السّماء، ولا بأن يتلاعب هذا الشّقيّ بعدالتنا مفلتا من عقاب جريمته النّكراء؛ لذا سأقدّم برهانا دامغا على الحقيقة البيّنة في القضيّة الرّاهنة. لمّا طلب منّي هذا الشّقيّ تحضير السّمّ الفتّاك، رأيت أنّ غاية مهنتي لا تتمثّل في إحضار أسباب الموت لأيّ أحد، فقد تعلّمت أنّ الطّبّ يُحتاج إليه لإنقاذ حياة البشر^، وخفت إن امتنعت عن إعطائه ما طلب أن أوفّر برفضي غير المناسب فرصة للجريمة؛ فقد يشتري ذلك الشّراب من غيري زاعما أنّه لغرض قتل رحيم، أو قد ينفّذ في النّهاية ما يبيّت من نوايا الغدر بخنجر أو بأيّ سلاح آخر؛ فأعطيته العقّار، لكنّه كان منوّما، وهو عشبة اللّفّاح المعروفة بقوّتها المخدّرة الثّابتة، والّتي تُحدث إغماء شبيها جدّا بالموت. لا غرابة في أن يتحمّل هذا الوغد بيسر في يأسه وعلمه بالعقاب الّذي ينتظره وفق سنن الأجداد، ألوان التّعذيب الّتي ترون فهي أهون منه. من جهة أخرى، إن تناول الولد الشّراب الّذي خلطت بيديّ فهو بالتّأكيد حيّ وغارق في النّوم، ولن يلبث أن يخرج من سباته ويعود إلى نور النّهار؛ أمّا إن منعه الموت من ذلك، فلْتبحثوا عن أسباب أخرى لوفاته."

10-12 نهاية غير متوقّعة

   استصوب الحضور رأي الشّيخ، وفي الحال وبأقصى سرعة قصدوا الضّريح حيث وُضع جسم الغلام؛ فلم يبق أحد من المجلس ولا من الأشراف ولا حتّى من الشّعب إلاّ وانصبّ هناك متطلّعا باهتمام. وها هو الأب أزاح غطاء التّابوت بيديه؛ فوجد ابنه الّذي كان يخرج في تلك السّاعة بالذّات من إغمائه وينهض عائدا إلى الحياة؛ فضمّه بحرارة بين أحضانه، ودفعه أمام الشّعب والكلمات من الفرح متوقّفة على لسانه. ثمّ أخذه إلى المحكمة ليُعرَض وهو ما زال ملفوفا في أكفانه. إذّاك انكشفت جرائم العبد اللّئيم والزّوجة الغادرة جليّة وتبدّت الحقيقة عارية؛ فحُكم على الزّوجة بالنّفي المؤبّد وتمّ صلب العبد، وتركت مثاقيل الذّهب برضا الجميع للطّبيب الطيّب ثمنا لرقاده المناسب. هكذا أخذت قصّة ذلك الشّيخ العجيبة الّتي تناقلتها كلّ الألسنة نهاية ترضاها عناية الآلهة، ففي مدّة وجيزة بل في مدى الهنيهة عاد بعد تجربة الثّكل المرّ أبا لشابّين في زهرة العمر.

10-13 في صحبة الأخوين

   أمّا أنا فراحت صروف الدّهر تلفّ بي وتقلّبني كلّ منقلب. فقد حمل ذاك العسكريّ الّذي ابتاعني ولا أحد باعني، وامتلكني بدون دفع الثّمن، بأمر رئيسه الملزم، رسالة إلى رومية موجّهَة إلى الأميرالأعظم؛ فباعني بأحد عشر دينارا لأخوين من الجيرة عبدي رجل واسع الثّروة. كان أحدهما حلوانيّا يحضّر أقراص خبز وكعكا بالعسل، والآخر طبّاخا يطهو لحوما منقوعة في أمراق شهيّة ومتبّلة بأفاويه شذيّة. كانا يعيشان معا في بيت واحد؛ وقد اشترياني لأحمل أواني الطّبخ العديدة اللاّزمة لسيّدهما المتنقّل بين شتّى المناطق ذات العادات الغذائيّة المختلفة. هكذا ضمّني الأخوان شريكا ثالثا في التّعاونيّة، ولم أحظ في أيّ وقت بحظّ كالّذي عرفت في تلك الأيّام الهنيّة. فقد اعتاد صاحباي كلّ مساء، بعد إعداد عشاء فاخر واستخدام طاقم أوانيهما الباذخ، أن يحملا إلى غرفتهما مؤنا كثيرة: هذا بقايا وفيرة من لحم خنزير ودجاج وسمك ولحوم شتّى، وهذا قطائف وكعكا مقرمشا وكنافة وكبيبات ومشبّكات ولوزينجا وحلويّات أخرى. فإذا ما أغلقا الغرفة وتوجّها إلى الحمّام بنيّة الاستجمام وقعتُ على الوليمة المرسَلة إليّ من السّماء فأصيب منها نصيبا؛ فما كنت غبيّا ولا حمارا حقيقيّا لأدع أكلا شهيّا كذاك وأتناول حشيشا جشيبا.

10-14 محاسبة صريحة

   تواصلت بنجاح غزواتي ردحا من الزّمن؛ إذ ظللت أختلس بتعقّل واحتشام كمّيّات بسيطة من تلك الأطعمة الوفيرة، كيلا تتطرّق إليهما ريبة في أيّ غشّ من جانب حمارهما. لكن بتنامي ثقتي في خفاء العمليّة، صرت ألتهم منها الشّيء الكثير والحظّ الوفير، وأتخيّر ألذّها وأبهاها، وآتي على أشهاها؛ فدبّت إلى ذهنيهما ظلال ريبة لا يستهان بها؛ ومع أنّهما لم يشكّا فيّ في تلك القضيّة، أخذا يجتهدان لاكتشاف المتسبّب في السّحوب اليوميّة. ووصل بهما الأمر إلى ارتياب كليهما بأخيه بشأن تلك الاختلاسات الدّنيئة، فصارا يوليان الأمر عناية فائقة وحراسة يقظة، ويُبديان في عدّ قطعهما دقّة متناهية؛ أخيرا نحّى أحدهما الحياء وأهاب بالآخر: × "ليس من العدل ولا المروءة أن تختلس يوميّا خيرة أطعمتي، لتزيد أرباحك ببيعها سرّا بالتّجزئة، ثمّ تطالب بحصّتك من الأصول المتبقّية. إن لم تكن راضيا عن شراكتنا، فبإمكاننا حلّ تعاونيّتنا، مع إبقاء كلّ علاقاتنا الأخرى كأخوين، وإلاّ فستنشئ بيننا الخصومة بشأن المفقودات أشدّ الشّقاق والبين." فردّ الآخر: "بل أنا الّذي أهنّئك وحقّ هرقل على هذه السّفاهة، إذ تختلس يوميّا من مؤني وتستبق شكايتي الّتي طالما كظمتها وكتمت آهتي، كيلا أخاصم أخي حول اختلاسات بهذه التّفاهة. لكن حسنٌ أن أثيرت المسألة بيننا بصريح العبارة، وبدأ البحث عن وسيلة لإنهاء الخسارة، وإلاّ فجّرت بيننا الشّحناء، لو بقيت سرّيّة، صراعات إتيوكليسيّة*^."

10-15 اكتشاف السّارق

   بعد كثير من التّعاذل وسوء الظّنّ المتبادل، أقسم كلاهما أنّه لم يقترف أيّ غشّ أو سرقة في حقّ الآخر، واتّفقا على البحث عن اللّصّ مسبّب الضّرر المشترك بكلّ الوسائل. فما ظنّا بإمكان الحمار مساكنهما الوحيد أن يعير بالا لتلك المآكل؛ مع ذلك ظلّت أفضل الأطباق تختفي كلّ الأيّام، ولا يدخل الغرفة قطعا ذباب بحجم الحربياوات* اللاّتي كنّ ينهبن مائدة فينيوس* في قديم الزّمان. في الأثناء ظللت أحشو بطني بشراهة من الأغذية البشريّة، منقادا لإغراء تلك المآكل الوافرة الشّهيّة، حتّى ودِك وانتفخ بدني، وطلُق جِلدي ونعُم من السّمن، وزها لون وبري من مأكلي الحسن. لكن حصل لي من غُنمي البدنيّ أفدح الغرم المعنويّ؛ فقد عجب صاحباي من انتفاخ جسمي غير العاديّ، ولاحظا بقاء علفي على حاله يوميّا، فوجّها إليّ انتباههما مليّا. في السّاعة المعتادة، أقفلا الباب كأنّهما ذاهبان إلى الحمّام كالعادة، وأخذا يراقبان من كوّة صغيرة، فرأياني أقبل على الأطعمة المتناثرة بحماسة كبيرة؛ وقفا أمام وليمة حمارهما الطّريفة مشدوهين، وبخسارتهما غير آبهين، وما لبثا أن انفجرا ضاحكين؛ ثمّ دعوا بواحد، فآخر، فالعديد من رفاقهما إلى مشاهدة الذّوق الفريد لدابّة شُهرت بالحسّ البليد. فاستولت على الجميع إذّاك ضحكة صاخبة بلغت سمع سيّدهم المارّ من هناك.

10-16 إنجاز عظيم

   بعد الاستفسار عن الحدث السّارّ الّذي يُضحك خدم الدّار، وأُخبر بأمره، أخذ يتفرّج بدوره من نفس الفرجة، وهو في أوج البهجة؛ وانفجر بدوره في ضحكة مدوّية انخضّت لها أمعاؤه من الألم؛ ثمّ أمر بفتح الباب ووقف عن كثب يشاهدني. فمضيت، وأنا أرى وجه الحظّ يفترّ لي أخيرا عن بسمة رضوى، آكل بلا وجل وبطمأنينة صفوى، مستمدّا من حبور الحضور ثقة قصوى. حتّى أمر سيّدهم لفرط غبطته، بطرافة المشهد وجدّته، باقتيادي بل قادني بيديه إلى حجرة السّفرة، وأمر بتوظيب المائدة وصفّ أصناف الأطعمة، وجبات كاملة وأطباقا تامّة. ومع أنّي كنت قد عبّأت بطني، أقبلت على الأطعمة المعروضة أمامي بشراهة الجوعان، رغبة في استمالته ونيل مودّته. ولاختبار مدى استئناسي أخذوا يتفنّون في إعطائي ما تعاف الحمير إلى أقصى حدّ، من لحوم متبّلة وفراريج مفلفلة وأسماك مسقيّة بأمراق أجنبيّة. تعالت قهقهات الحضور في الأثناء، ثمّ هتف أحد الظّرفاء: "أعطوا للأخ العزيز شيئا من صرف النّبيذ." فعقّب سيّدهم: "ما من لغو الحديث مزحتك يا خبيث؛ فجائز أنّ بصاحبنا رغبة في احتساء قدح من بتع النّبيذ." ثمّ التفت قائلا: "هيّا يا غلام! اغسل جيّدا ذاك الكوب الذّهبيّ، واملأه بتعا وأعط ضيفي الطّفيليّ؛ وأهب به أنّي أشرب على نخبه."^ في الحال استولت على الحضور حالة من التّرقّب والفضول؛ أمّا أنا، فبدون مخافة وبكلّ وداعة لويت على شكل اللّسان أطراف شفتي، وبشفطة واحدة أفرغت القدح العظيم في حنجرتي؛ فعلا هتاف المتفرّجين يحيّون كلّهم مأثرتي.

10-17 الحمار الأعجوبة

   غمرت سيّدهم بهجة عارمةفي الآن، ودعي العبدان اللّذان كانا قد اشترياني، فأمر لهما بأربعة أضعاف ثمني ليتخلّيا له عنّي؛ وسلّمني لمعتوق له من مقرّبيه ميسور الحالة، وأوصاه بإيلائي أكبر العناية. فكان يعاملني بكلّ رفق ويتفانى في تسلية مولاه بعرض مهاراتي عليه، ليزداد حظوة لديه. علّمني أوّلا أن أثبّت على المائدة عند الأكل كوعيّ الأماميّين، وكذلك المصارعة والقفز مع رفع قائمتيّ الأوليين. وإمعانا في الإبهار علّمني التّعبير بالحركات، كأنْ أُبدي الرّفض بردّ رأسي إلى الخلف والقبول بحنيها إلى الأمام، والرّغبةَ في الشّرب، إذا عطشت، بالنّظر ناحية السّاقي وترميش أهداب عينيّ بالتّناوب. كنت أستجيب لكلّ ذلك بمنتهى اليسر؛ ولا غرو، فقد كنت أستطيع فعله بدون أن يعلّمني أحد، لكنّي كنت أخشى، إن أظهرت صدفة قدرتي على الأكل وكثير من الأعمال الأخرى وفق عادات البشر، أن يروا في الأمر نذير شؤم فينحروني كظاهرة غير سويّة ويقدّموني للنّسور وليمة سخيّة. سرعان ما ذاع صيت مواهبي وجلبت لصاحبي بفضل قدراتي الخارقة شهرة ومجدا، فكان يقال عنه: هذا الّذي يملك حمارا يصادقه ويجالسه على المائدة، ويصارع ويرقص كالبشر ويفهم كلامهم ويعبّر عمّا يشاء بالإشارات.

10-18 إكرام الحمار

   لكن لا بدّ أن أقول لكم أوّلا، وكان أحرى بي أن أفعل منذ البداية، مَن ومِن أين هو صاحبي؛ ثياسوس^، بهذا الاسم فعلا يدعى مالكي، من أبناء كورنتوس* عاصمة إقليم أخاية*، تقلّب في المناصب متسلّقا سلّم التّشريفات درجة بعد أخرى، كما خوّلته أرومته وجدارته، حتّى عُيّن في منصب حكّام الخمسيّة^؛ ولتقديم حفل يليق بأبّهة نيله الشّارات السّلطانيّة، وعد بتقديم عرض مصارعين لثلاثة أيّام وسخّر له كلّ ثروته ليكون آية في البذخ. ولحرصه على الصّيت والأبّهة وصل إلى تسّالية* لاقتناء أكرم الحيوانات وأشهر المصارعين؛ وبعد التّرتيب للعرض وشراء كلّ المستلزمات حسب رغبته، أخذ يُعدّ لعودته. فإذا به يعرض عن مركباته الفخمة، ويستخفّ بمقصورات عرباته المطهّمة، المجرورة في آخر الاستعراض بلا جدوى، منها المغطّى ومنها المعرّى، وحتّى خيل تسّالية* ودوابّ بلاد الغال* الّتي يعطيها أصلها الكريم شرفا وقيمة كبرى. وبشغف يمتطيني بعد تزييني بصفائح ذهبيّة ومنضحة أرجوانيّة وشكيمة فضّيّة وإكاف مزخرف وحقاء مزركش وجلاجل عذبة الرّنين، وبين الحين والحين يوجّه لي كلمات حفيّة، ويعلن أنّه من جملة دواعي سروره يعلّق بالأخصّ أهمّيّة على وجدانه فيّ جليسا ومطيّة.

10-19 وللنّاس في ما يعشقون مذاهب

   أنهينا رحلتنا، برّا وبحرا، وبلغنا كورنتوس* فهبّ للقائنا جمع غفير من المواطنين، لا حرصا على تكريم ثياسوس حسبما بدا لي بقدر الرّغبة في رؤيتي؛ فقد انتشرت هناك أيضا شهرتي، حتّى بتّ لمتعهّدي مصدر ربح لا يستهان به. ذلك أنّه لمّا رأى الكثيرين يتزاحمون ولعا بي راغبين في رؤية ألعابي، عمد إلى إغلاق الباب، وصار يُدخلهم فرادى، أُحاد أُحاد، وبما يتلقّى من البقشيش، دأب على تحويش مبالغ يوميّة ليست غير ذات أهمّيّة. كانت بين ضمن ثلّة الزّوّار، سيّدة عظيمة القدر واليسار، تدفع كالآخرين ثمن الفرجة، وتجد عظيم المتعة في عروضي المتنوّعة؛ وشيئا فشيئا بتواصل الإعجاب وقعت تجاهي في شغف عجاب؛ ودون أن تتناول لعلاج شهوتها الجنونيّة عقّارا، غدتْ كباسيفاية* عُلّقت حمارا، تنتظر ضمّات عناقي، بأحرّ الاشتياق. أخيرا عرضت على مُقيتي أجرة باهظة للمبيت معي ليلة واحدة؛ ودون أن يهمّه إن كان الأمر يحلو لي، وفرحا بربحه فقط سارع بالقبول.

10-20 مفاجأة لطيفة

   بعد العشاء والخروج من مقصف السّيّد، وجدنا الهانم تترقّب في غرفتي منذ أمد؛ وأيّ إعداد رائع البهاء، لليلتنا يا آلهة السّماء! ^ سارع أربعة خصيان بإعداد فراش لنا على الأرض من عدّة وسائد منتفشة، محشوّة بريش ناعم، وألقوا على الحشايا بفنّ طنفسة موشّاة بالذّهب وبحُمْر صور^*؛ ثمّ نثروا فوق ذلك نمارق صغيرة لكن كثيرة من تلك الّتي تسند عليها النّساء المرهفات عادة خدودهنّ وجيودهنّ. وكيلا يؤخّروا بطول حضرتهم متعة سيّدتهم، أغلقوا باب الغرفة وانصرفوا؛ في الدّاخل كانت الشّموع المتلألئة بساطع السّنا تضيء ظلمات الدّجى لنا.

10-21 الاستعداد لليلة غرام

   تجرّدت إذّاك تماما من كلّ ثيابها، حتّى الشّريط الّذي يشدّ نهديها الفاتنين، ووقفت قريبا من النّور فادّهنت جيّدا ببلسم يحويه قمقم من القصدير؛ وعركتني مرارا على كلّ جسمي، مولية عناية خاصّة بتدليك خطمي. ثمّ غمرتني بجحيم من القُبل المشبوبة، لا كتلك الّتي تلقي بها في دار الرّيبة بنات الهوى طمعا في النّقود أو زبائنهنّ متمنّعين عن إعطاء المزيد، بل هي قبل صافية صادقة، تتخلّلها هينمات رائقة. "أحبّك"، "أعشقك"، "أنت وحدك من أهوى"، "لم أعد أستطيع بدونك أن أحيا"، وغير ذلك ممّا تتودّد به النّساء إلى أخدانهنّ، ويعربن عن عواطفهنّ؛ ثمّ أمسكتني من زمامي برقّة، وأضجعتني بالنّحو الّذي تعلّمتُ بلا مشقّة. إذ لم يبد لي من جديد أو صعب في العمليّة، سيما وأنا قادم بعد كلّ تلك الفترة، على عناق امرأة بمثل حسنها وفي أوج الشّهوة، إذ كنت قد انتشيت بكؤوس من الخمر الزّكيّة وأجّجت جذوة شبقي بتلك العطور الذّكيّة.

10-22 هذه ليلتي

   لكنّ هاجسا ناغزا كان يشغل بالي، إذ كنت أتساءل كيف لي بقوائم بهذه الغلاظة أن أتغشّى امرأة بمثل تلك الغضاضة؛ وكيف لي بضمّ هذه الأطراف النّاعمة البضّة، مشيج الحليب والعسل، بحوافري الفظّة؛ وكيف لي بتقبيل تينك الشّفتين الرّقيقتين النّديّتين برحيق الآلهة بهذا الفم الغليظ العريض الّذي تزيده قبحا هذه الأسنان البارزة كالجنادل النّاتئة؛ أخيرا كيف لامرأة ولو تحرّقت شبقا حتّى الأظفار، بإيواء عضو من مثل هذا العيار؟ × يا ويلتي، أنا الّذي بعد قصم هذه المرأة النّبيلة، سأُلقى إلى السّباع، وأُدرج في ما يُعدّ سيّدي من عروض الصّراع؛ في الأثناء ما انفكّت تزيد من نأماتها الحانية وقبلاتها المتتالية وهمساتها العذاب المخلّلة بغمزاتها الطّراب، وهتفت بي وهي في أوج الهيجان: × "ها أنت بين يديّ يا قمريّي ويا كرواني!"^ وأبانت لي بقولها بطلان تصوّراتي وسخف تخوّفاتي؛ فقد عانقتني مع أوثق الاتّصال وتلقّتني كلّي بالكمال. فكانت كلّما انزحتُ رفقًا بردفيها اقتربتْ منّي بشديد التّهيّج، وضغطت على ظهري ملتصقة بي بمزيد التّشنّج؛ حتّى رأيت لعمري أنّ شيئا يعوزني لأشبع شهوتها وفكّرت أنّ أمّ مينوتور* ما طلبت اعتباطا عند عشيق ذي خوار لذّتها. وبعدما انقضت ليلتنا المجهدة المسهّدة، انصرفت المرأة متجنّبة وضح النّهار بعد الاتّفاق على أجرة مساوية لليلة آتية.

10-23 قصّة المحكوم عليها بالإعدام: أخ وأخته

   ولم يكن مدرّبي يتحرّج من الجود عليها بلذّتها حسب مشيئتها، من جهة لزيادة عائده، ومن جهة لإعداد عرض جديد لسيّده؛ لذا لم يتردّد في إطلاعه على مشهد جماعنا برمّته؛ فكافأ معتوقه بأجر موفور، وعزم على عرض مواهبي للجمهور. ولاستحالة قبول قرينتي الرّائعة نظرا لمكانتها مشاركتي، ووجود أيّة امرأة أخرى بدلها رغم ضخامة المكافأة، وجدوا بعد البحث امرأة من الرّعاع، صدر من الوالي حكم بإلقائها إلى السّباع، لتملأ معي المدرّجات في عرض أمام الأهالي، وقد علمت بخبر عقابها التّالي. تزوّجت فتى كان أبوه وهو ينطلق في سفر قد أوصى زوجته أمّ ذلك الفتى، إذ تركها مثقلا بحملها، أن تقتل فورا ما تلد إن تضع أنثى. وقد ولدت بنتا في غياب بعلها، لكنّ عاطفة الأمومة الفطريّة غلبت فرض طاعة زوجها؛ فسلّمتها لجيران لها لتربيتها، وأخبرت الزّوج عند عودته بأنّها أنجبت بنتا وقتلتها. فلمّا تفتّحت زهرة أنوثتها وآن أوان تزويجها، وجدت الأمّ نفسها عاجزة عن رصد مهر لابنتها يليق بمنبتها، في جهل أبيها بوجودها، ولم تستطع سوى البوح بسرّها الدّفين لولدها، سيما أنّها تخاف كثيرا أن يمسّ أخته، مدفوعا بتوثّب دماء الشّباب إن جمعت صدفة بينهما، في جهلهما معا بأخوّتهما. أدّى الفتى، مثال البرّ والإحسان، واجب طاعة أمّه وصلة أخته بغاية التّفاني؛ وأودع بعناية أسرار أسرته طيّ الكتمان، مؤدّيا على أحسن وجه واجب صلة الرّحم، متظاهرا بفعل ذلك ببساطة من باب الكرم، إلى حدّ إيواء جارته الفتاة البائسة المحرومة من عون أبويها تحت سقف داره، ثمّ تزويجها بصديق حميم تربطه مودّة كبرى به، مع مهرها بسخاء من حرّ ماله.

10-24 الجريمة

   لكن ما كانت تلك الإجراءات الموفّقة حسنة النّيّة لتخفى على مشيئة القدر الوحشيّة، فاتّجهت إلى بيت الفتى بتدبيرها الغيرة السّوءى. بدأت زوجته في الحال، وهي نفس المرأة المحكوم بإلقائها إلى الوحوش الضّواري جزاء ما يأتي من الفعال، ترتاب أوّلا في كون الفتاة منافستها الّتي خطفت منها زوجها، ثمّ تكرهها ومن ثمّة تنصب لها بوحشيّة شراك الرّدى: هذه هي الجريمة الّتي دبّرت لها. اختلست خاتم زوجها، وذهبت إلى الرّيف فأرسلت عبدا تثق بوفائه، لكنّه شرّ النّاس في عين الوفاء ذاته، ليخبر الفتاة أنّ الشّابّ الّذي ذهب إلى ضيعته يدعوها إلى موافاته، مضيفا بأن تأتي على جناح السّرعة بمفردها، ولا أحد بصحبتها. وكيلا ينشأ أيّ تردّد حول المجيء في بالها، سلّمته الخاتم المسروق من بعلها، لتأييد صدق أقواله عند إظهاره؛ امتثلت الفتاة لطلب شقيقها غير المعروف بتلك الصّفة لأحد غيرها، بعدما رأت الأمارة المعروضة عليها، وسارعت بالذّهاب بدون رفقة أحد حسب التّعليمات المبلّغة إليها. هكذا انخدعت بالحيلة المَريدة، ووقعت في شراك تلك المكيدة؛ إذّاك عرّت الزّوجة الفضلى شقيقة بعلها، وقد أعمتها الغيرة وأخرجتها عن طورها، وانهالت عليها بجلد جاوز كلّ حدّ؛ ومع أنّ الشّقيقة بلّغتها الحقيقة، مكرّرة أن لا أساس لظنّتها عن الزّنا سبب نقمتها، ومؤكّدة مرارا صفته كشقيقها، عدّت كلّ ذلك كذبا من تلفيقها، وأولجت قبسا متّقدا بين فخذيها، وبوحشيّة قضت عليها.

10-25 تتبعها الرّادفة

   فلمّا أتى النّعي أخاها وزوجها هرعا، فبكيا الفتاة وتوجّعا وتفجّعا، ثمّ نقلاها لتودع مثواها؛ لم يستطع الفتى تحمّل موت أخته البائس المدبّر وغير المبرّر بصبر وقلب شجاع، وهزّ الألم كيانه إلى النّخاع، وسيطرت عليه مرارة الصّفراء الضّارّة باغية على كلّ الأمشاج، وألمّت به نوبات الحمّى المتلظّية حتّى بدا هو ذاته يحتاج إلى العلاج. لكنّ زوجته الّتي فقدت منذ أمد تلك الصّفة بفقدانها الثّقة، ذهبت إلى طبيب مشهور بخلوّه من أيّ ضمير، يعرف له النّاس انتصارات مجيدة، وتعدّ قائمة مآثر يده ضحايا عديدة؛ فوعدته بخمسين ألف دانق، مقابل بيع سمّ صاعق، وهي بهذا النّحو من جهتها تشتري موت شريك حياتها. بعدما اتّفقا، تظاهرا بتحضير الشّراب المشهور بالمبارك حسب تسمية العلماء، والصّالح لعلاج الأسقام الباطنة والتّخلّص من بلغم الصّفراء؛ لكنّهما عوّضا وصفة الأطبّاء بأخرى بديلة، هي المعدّة لخلاص بروسربينة*^؛ وبمحضر الخدم والأهل والأصحاب راح الطّبيب يمدّ بيده للمريض كوب الشّراب.

10-26 عصفوران بحجر

   فما كان من تلك المرأة الجريئة، للتّخلّص من شريكها في الجريمة، والاحتفاظ في نفس الوقت بالمال الّذي وعدته، إلاّ أن أوقفت الكأس أمام الجميع وخاطبته: "لا يا حضرة الطّبيب، لن تعطي من هذا المشروب لزوجي الحبيب، قبل أن تشرب منه أنت نفسك أوفر نصيب. إذ كيف لي بمعرفة ما إن كان يحوي بعض السّموم المزعفة؟ ولا يسؤْك أنت الرّجل الحكيم العالم أن أبدي كامرأة متفانية منشغلة بسلامة زوجي هذا الحرص اللاّزم." بُهت الطّبيب بالمكيدة المدبّرة له من تلك الشّيطانة المَريدة، وطاش صوابه وحار في الأمر، ولم يجد لضيق الوقت فسحة لإعمال الفكر؛ وقبل أن يشي أيّ اضطراب أو تردّد بالسّوء الذي يخفيه، نهل من الشّراب نُغبا تباعا ملء فيه. فأخذ الشّابّ الكوب مطمئنّا مثله وشرب ما كان مقدّما له؛ ولمّا انتهى الحكيم بهذا النّحو من خدمته، أخذ يستعجل الرّجوع إلى بيته، لإبطال مفعول السّمّ الزّعاف الّذي تناوله السّاعة بالتّرياق الشّافي. لكن لم يرقْ للمرأة الماكرة، في إصرارها الإجراميّ على إتمام خطّتها الغادرة، أن تسمح له بالابتعاد قدر الأنملة، وقالت: "انتظر سريان الشّراب في الأعضاء وظهور أثر الدّواء"؛ لكن بعدما أتعبها بطول التّوسّل والمناشدة، أذنت له أخيرا على مضض بالمغادرة. في الأثناء كانت أحشاؤه قد تشبّعت حتّى النّخاع من المستحضر الفاتك النّقاع؛ أخيرا وصل بيته بجهد، وقد استولى عليه خدر ثقيل وضنى مُردٍ. وما كاد يروي لزوجته كلّ قصّته، ويوصيها بمطالبة زبونته على الأقلّ بالأجر الموعود لميتة مزدوجة، حتّى لفظ طبيبنا النّطاسيّ أنفاسه في انتفاضة عنيفة وحشرجة.

10-27 حيلة جديدة

   لم يبق الزّوج هو الآخر طويلا على قيد الحياة، وبين دموع زوجته المزيّفة المتكلّفة عرف نفس الوفاة؛ بعد دفنه ومرور الأيّام المعدودات الّتي تقام أثناءها الطّقوس للأموات، حضرت زوجة الطّبيب طالبة مكافأة الميتة المثنّاة. أجابت تلك المرأة الثّابتة هي هي حتّى النّهاية، مخفية وجه الصّدق ومبدية مظهره، وبمنتهى الحفاوة، مغدقة عليها الوعود بسخاء، ومتعهّدة بتسليمها الثّمن المتّفق عليه دون إبطاء، لو أمدّتها فقط بقليل من ذاك الشّراب من فضلها لإتمام الصّفقة الّتي بدأت مع بعلها. ما الدّاعي للإطالة؟ وقعت زوجة الطّبيب في الحبالة، مغترّة بسيّء المكر فقبلت بمنتهى اليسر ولاستمالة السّيّدة الغنيّة أسرعت تجلب من بيتها كلّ علبة السّمّ المعنيّة. وبحصول تلك على مادّة وفيرة لجرائم كثيرة، أطلقت يديها الدّمويّتين تعيثان في الأرض بالطّول والعرض.

10-28 عصفورتان بحجر

   كانت أمّا لبنت صغيرة، من زوجها الّذي اغتالته قبل مدّة قصيرة؛ فضاقت بالبنيّة لأنّ القوانين تعطيها كلّ الحقّ في تركة أبيها؛ ولطمعها في كلّ ميراث بنتها، أخذت تُعدّ أيضا لموتها. لوثوقها إذن من مآل إرث الأبناء الأموات، إلى أمّهاتهم المجرمات، أبدت أمّا ما أبدت قبلُ في دور الزّوجة؛ واحتالت لغداء لتهيئة الفرصة، فوجّهت لزوجة الطّبيب وابنتها بنفس السّمّ نفس الضّربة. لكن بينما أتلف الدّاء الفتّاك سريعا روح الصّغيرة الهشّة الدّقيقة وأحشاءها الغضّة الرّقيقة^، شهدت زوجة الطّبيب تغلغل إعصار الشّراب المقيت في رئتيها وانتشار دماره على طول مساره، فتشكّكت وما لبثت أن تحقّقت وهي ترى نفَسها يضيق من آثاره، فقصدت بيت الوالي مستصرخة مستجيرة بذماره؛ وأثارت هتاف الجماهير الغفيرة وألحّت لتمكينها من كشف تلك الجرائم الكبيرة، فانفتحت لها في الحال دار وأذنا الوالي. وما إن عرضت منذ البداية كلّ فظائع تلك المجرمة الوحشيّة بفائق العناية، حتّى اعترى ذهنَها تهويم، وتشوّش وتغييم، وزمّت شفتيها بعدما ظلّتا منفرجتين قليلا واستحالت قفقفة أسنانها صريرا طويلا، وتهافتت أمام قدمي الوالي بالذّات بلا رمق من الحياة. لم يسمح ذلك الرّجل المحنّك بأن ينفسخ بالإرجاء وقع جرائم تلك الحيّة الرّقطاء؛ فأمر بإحضار وصيفاتها على الفور، وانتزع منهنّ تحت التّعذيب حقيقة الأمر. وحكم بإلقائها إلى السّباع، وهو عقاب دون ما تستحقّ بلا نزاع، لكن ببساطة لم يكن في المستطاع، أن يستنبط عقوبة أخرى توازي جرائمها الكبرى.

10-29 رقصة جماعيّة

   مع تلك المرأة كنت سأعقد زواجي أمام كلّ الأنظار، فلبثت أنتظر يوم العرض بشديد الجزع والاحتيار، وأكثر من مرّة رغبت في الانتحار قبل أن ينجّسني مساس تلك المرأة المجرمة أو تصمني خسّة ذلك العرض العموميّ بالعار؛ لكن ما كان بدون اليد البشريّة والأصابع بمقدوري أن أجرّد سيفا بحافري المهرّئ المستدير. مع ذلك ظلّ بصيص من الأمل يعزّيني عن محني الشّداد: فهذا الرّبيع في ساعة الميلاد، وقد وشّى الأرض ببراعم النّوّار المتفتّحة، وكسا الحقول بحمرة المتلألئة؛ وها هي الورود في الموعد تخترق غلافها الشّوكيّ ناشرة في الهواء عرفها الزّكيّ، وستعيدني إلى لوقيوس شكلي الأصليّ. أخيرا حلّ اليوم المحدّد للعرض العموميّ، فقادني مدرّبي إلى مدخل المسرح يتبعني جمهور غفير في جوّ احتفاليّ بهيج؛ وبينما كانت تقدَّم في افتتاحيّة العرض مشاهد استعراضيّة مسلّية من التّمثيل الجماعيّ، لبثت أرصد بنهم من موقفي المؤقّت قرب الباب بساطا نضرا من الأعشاب نبت على المدخل، منعّما بفضولٍ بصري بمشاهدة عرض رائق من خلال الباب المفتوح. راح فتية وفتيات في زهرة العمر، رائعو الجمال أنيقو اللّباس رشيقو الحركات يؤدّون بفنّ واتّساق لوحات رقصة بيرّوس* اليونانيّة، منثنين تارة في حركة دائريّة، وملتفّين تارة في رتل متماسك، فمتجمّعين في شكل تربيعة، فمنفضّين أسرابا. ثمّ أنهى زمير البوق الختاميّ هذه السّلسلة من اللّوحات الرّاقصة المتنوّعة المتناوبة، فأزيح السّتار وطويت السّجف وأُعدّ الرّكح للمشهد التّالي.

10-3. عرض راقص لمشهد ميثولوجيّ

   كان وسطه جبل خشبيّ يشبه جبل إيدا* الشّهير الّذي تغنّى به الشّاعر هوميروس* ينتصب عالي البناء، غُرست فيه أشجار حيّة مخضرّة، ومن أعلى قمّته حيث فجّرت يدا الصّانع عينا تجري مياه مسبطرّة. وعلى سفحه بعض المعاز ترعى الكلأ، وفي زيّ فارس* الرّاعي الفريجيّ*، كان شابّ التحف قميصا أنيقا وتدلّت على كتفيه أطراف حلّة أجنبيّة، ولفّ رأسه بقلنسوة ذهبيّة، يمثّل دور راعي القطيع. ظهر فجأة ولد صبوح عارٍ إلاّ من دثار ممّا يرتدي الغلمان لم يستر سوى الكتف اليسار، × يسرّ النّاظرين بحسن جسمه كلّه حتّى شعره الأشقر الّذي برز من بين خصله جناحان صغيران ذهبيّان جُمعا برباط يشبههما، وتبيّن عصيّته مركوريوس* ومرزاقه. تقدّم راقصا، حاملا بيمينه تفّاحة مذهّبة الأوراق، مدّها للفتى الّذي يمثّل فارس*، معبّرا له بالإيماء عمّا أوعز به يوبتر*؛ ثمّ تراجع برشاقة واختفى عن الأنظار. ثمّ أتت فتاة ينمّ محيّاها عن الوقار تشبه منظر الإلهة يونون*، يكلّل رأسها تاج ناصع البياض وبيدها صولجان. ثمّ دلفت أخرى، تحسبها مينرفة* من أوّل نظرة، تغطّي رأسها خوذة متلألئة، عُقد عليها إكليل من أغصان الزّيتون، تحمل مجنّا وتشهر رمحا كما تظهر في المعارك.

10-31 رقصة يونون ومينرفة

   بعدهما دخلت أخرى تسرّ الأنظار بحسنها الفائق، تعرف في نضرة لونها الرّيّى برحيق الآلهة فينوس* كما كانت في ريعان الشّباب، عارضة جمالها المطلق، في عري جسمها المجرّد من كلّ ملبس سوى غلالة شفيفة رفيفة من الدّيباج تظلّل الأربية، × كان النّسيم في فضول وصبابة يزيحها تارة عن زهرة شبابها وينفخ عليها بمجون تارة فتلتصق بجسمها راسمة خطوط أعضائها الفتّانة؛ أمّا لون الإلهة فيزدهي  في تضادّه العبقريّ بين بياض جسمها المعلم بمعدنها السّماويّ، ووشاحها الفيروزيّ المنبئ بمآبها البحريّ. ثمّ حفّ بكلّ واحدة من الفتيات القائمات بدور الإلهات موكب تابعيها والتّابعات؛ فتبع يونونَ كستور* وبولوكس*، تغطّي رأسيهما خوذتان كبيرتان مقبّبتان تناثرت بأعلاهما النّجوم، لكنّ الكستورين^ هما أيضا مجرّد ممثّلين. تتقدّم الفتاة بخطوها الوئيد الموقَّع كالنّشيد، مثيرة إيقاعات شتّى؛ وبحركات خلت من التّكلّف والابتذال، تعد الرّاعي، إن أسند لها لقب ملكة الجمال، بمنحه مُلك آسية بالتّمام والكمال. أمّا تلك الّتي حاكت بها مينرفةَ* شكّةُ أسلحتها، فسار فتيان بجانبها، هما حاملا سلاح الإلهة المحاربة، الخوف والجزع ( ترّور وميتوس) متوثّبين، بسيفيهما المجرّدين؛ وخلفها بقليل سار زمّار يعزف لحنا حربيّا، مازجا بالأجراس الكتيمة الرّنّات الجهيرة على نحو بوق النّفير، ملهبا حماس تلك الرّقصة السّريعة. أمّا هي فكانت تسير بنشاط هازّة رأسها وعيناها تومضان وعيدا، وتومئ لفارس* بحركات سريعة ملتوية، واعدة إن سلّمها شارة النّصر في مسابقة الجمال أن تجعله سيّد الأبطال، وتكللّه في معارك عديدة بانتصارات مجيدة.

10-32 رقصة فينوس

   هذه الآن فينوس* تأتي فتقف في منتصف الرّكح، وسط هتاف المتفرّجين، محفوفة بكوكبة من الولدان يتألّقون بهجة، وعلى ثغرها بسمة عذبة، تخال أولئك الغلمان من بهاء أجسامهم الرّيّى الطّريرة جمهرة من آلهة الحبّ طاروا لتوّهم من السّماء أو البحر؛ فبأجنجتهم اللّطيفة وسهامهم الصّغيرة وكامل هيئتهم، كانوا فعلا يحاكون صورتهم أروع المحاكاة، ويضيئون بموارج مشاعلهم السّاطعة لسيّدتهم كأنّها تسير إلى مأدبة زفاف. ثمّ تدخل كوكبة عبقريّة الجمال من العذارى: هنا ربّات الرّواء* فائقات الرّواء، وهناك ربّات الفصول* رائعات البهاء، ينثرن الزّهور مفرّقة ومنظومة مهنّئات ربّتهنّ، ويتجمّعن حولها في جوقة على نسق بديع، ملاطفات ربّة اللّذّات برياحين الرّبيع؛ ثمّ ها هي المزامير متعدّدة الثّقوب قد بدأت تعزف مقطوعات ليديّة* بأنغام عذاب. فتنتشي من حلاوتها قلوب المشاهدين، وتفوقها حلاوة فينوس* إذ بدأت تختال بتؤدة، وبخطى متأنّية متردّدة، مؤوّدة برفق أعطافها، وهازّة بلين رأسها، وتجيب نغمة المزمار الرّخيمة بحركات حلوة التّوقيع، وترسل إشارات من حدقتيها المقصورتين في ارتخاء حينا والمتوقّدتين وعيدا حينا، وبالعينين فقط ترقص أحيانا. حالما وصلت أمام الحكم أخذت تعده، كما بدا من حركة ذراعيها، إن فضّلها على الإلهتين الأخريين أن تعطي فارس* عروسا باهرة الجمال مثلها؛ فأسرع الفتى الفريجيّ* بكلّ سرور يسلّم الفتاة التّفّاحة الذّهبيّة الّتي بيده، شعار الانتصار.

10-33 أفكار الحمار حول العدالة

   أفتعجبون إذن يا أراذل النّاس، بل يا بهائم المحاكم، بل ويا عقبان الفلا المكسوّة ثوب القضاء، أن يتّجر القضاة اليوم في أحكامهم ويُملوا ثمنها، إن كانت المحاباة قد أفسدت في بدء العالم حكما متنازعا بين الآلهة والبشر، وإن كان قرويّ ومجرّد راع اختير بإيعاز يوبتر* العظيم، باع حكمه منذ القديم، مقابل شهوته، ولتهلكته وتهلكة شعبه برمّته؟ × والأمر مماثل لعمري في الحكم الآخر اللاّحق الّذي نوّه به كلّ قادة الآخيّين* الأنجاب وقضى بناء على تهم باطلة بإدانة بلاميدس* الّذي فاق الجميع معرفة وحكمة بالخيانة، أو تفضيل أوديسيوس* في فنّ الحرب على أياس* الأشدّ لها مراسا؛ وماذا أقول في ذاك الحكم المعروف الّذي أصدره الأثينيّون، أولئك المشرّعون الجهابذة والمتفوّقون في كلّ العلوم الأساتذة؟ ألم يقض على ذلك الشّيخ صاحب الحكمة الإلهيّة*، الّذي قدّمه ربّ دلفي* في الحكمة على كلّ البشريّة، بعدما تألّبت عليه عُصبة باغية حاسدة مفترية، باعتباره مفسد الشّباب الّذين كان بالعكس يكبح جماحهم، بالموت بسمّ الشّوكران المردي، تاركا لمواطنيه وصمة عار إلى الأبد، بينما يستحسن كبار الفلاسفة إلى هذا اليوم مذهبه ويفضّلونه على ما عداه، وفي بحثهم الدّؤوب عن السّعادة لا يثقون بأحد سواه؟ × لكن لئلاّ يعترض معترض على فورة استنكاري قائلا في نفسه: "ها نحن الآن ملزمون بالإصغاء إلى حمار يتفلسف علينا!"، لأعدْ إلى روايتي حيث تركتها.

10-34 نهاية مشهد البالّيه

   بعدما حكم فارس*، غادرت يونون* ومينرفة* الرّكح آسفتين مغضبتين، مبديتين بالحركات سخطهما من ردّ الفتى لهما، بينما عبّرت فينوس* عن فرحتها بالرّقص مع فرقتها. إذّاك انبجس من قمّة الجبل الشّمّاء عبر أنبوب خفيّ صنبور زعفران مذاب في الخمر، فارتفع عاليا، ثمّ اسّاقط رشاشا على المعاز الرّاعية في الجوار، ممطرا عليها ودقا شذيّا، حتّى اكتسى وبرها الأشيب لونا بهيّا، متحوّلا من بياضه العاديّ إلى صفرة الجاديّ؛ ثمّ لمّا نشر في المسرح كلّه عرفه الشّذيّ، ابتلعت أحشاء الأرض فجأة ذلك الجبل الخشبيّ. ثمّ إذا بجنديّ يجري عبر السّاحة ليُحضر من السّجن العموميّ، بطلب من الشّعب تلك المرأة الّتي ذكرتُ أنّها ستُلقى إلى السّباع جزاء جرائمها العديدة، والمعدَّة لحفلة عرسي المشهودة. ها قد هيّؤوا بعناية ما سيكون لنا بالتّحقيق تخت الزّواج، فراشا متلألئا باليشب الهنديّ محشوّا بالرّيش النّاعم ومزدانا بملاءة من الدّيباج. أمّا أنا ففضلا عن خجلي من أداء عرض الجماع أمام الجميع، وعن نفوري من ملامسة مجرمة نجسة، كنت أتعذّب أيضا جزعا من الموت، متسائلا بيني وبين نفسي كيف للسّبع الّذي ينوون إطلاقه لافتراس المرأة، ونحن متلاصقان في ضمّة الغرام، وما هو مهما كان بالفطن فطرةً ولا بالمدرّب اصطناعا ولا بالقادر على مجاهدة النّفس على الطّعام، أن يمزّق المرأة المضطجعة بجانبي ويدعني بصفتي بريئا لم أُدنْ بأيّ نوع من الإجرام.

10-35 فرار الحمار

   فلم أعد قلقا على عفافي وإنّما على سلامتي أصلا، وبينما مدرّبي منهمك في ترتيب السّرير، والخدم كلّهم منشغلون بإعدادات مشهد الصّيد أو مشدوهون بالعرض المثير، × أتيح لخاطري مجال للتّفكير، وما كان أحد ليفكّر في ضرورة مراقبة حمار بمثل سلاستي، تقدّمت الهوينى خلسة حتّى بلغت الباب الّذي كان قريبا، واندفعت بأقصى سرعتي. بعدما قطعت بسرعة مذهلة ستّة أميال بأكملها، بلغت كنخرية*، وهي مدينة محصّنة تقيم بها، على ما يقال، جالية كورنتيّة* عريقة، تقع على ضفاف بحر إيجة والبحر السّارونيكيّ، وبها كذلك ميناء يُعَدّ مرسى مأمونا للسّفن ويتردّد عليه كثير من النّاس. تجنّبت الجموع وانتبذت على الشّاطئ قريبا من خطّ ارتداد الموج مكانا بعيدا؛ فتمدّدت على بساط الرّمل النّاعم لأريح جسمي المكدود. إذ كان مسار الشّمس قد انحنى على حدّ النّهار الأقصى، فأسلمت نفسي لهدأة المساء، وما لبث نوم عذب أن ألمّ بي.