أبوليوس

 

الحمار الذّهبيّ

 

الكتاب التّاسع

 

حواش 

11

10

9

8

7

6

5

4

3

2

1

مقدّمة

 

 

9- الكتاب التّاسع

      

9-21 لا يخفى فعل عبد على عين مولاه

   لكن عند خروج بربروس من الغرفة مع انبلاج النّور، لمح نعلين غريبين تحت السّرير، هما اللّذان تسلّل فلستروس داخل البيت منتعلهما، فداخلته ريبة في ما حدث عند مرآهما، ^ فأسرّها لنفسه ولم يفاتح زوجته ولا أيّا من أرقّائه، والتقطهما فدسّهما خلسة في ثنية ردائه؛ وأوعز فقط إلى عبيده، بشدّ مرمكس وتقييده، وجرّه إلى وسط الميدان، حيث توجّه مسرعا يكاد ينفجر من الفوران، واثقا من الوصول بسهولة من مقاس الخفّين إلى قدم الزّاني. لكن بينما بربروس يمشي في السّاحة مقطّب الحاجبين محتقن الوجه منتفخ الوريد، وقربه مرمكس يرسف في القيود، لم يمسَك لا جرم متلبّسا بالجرم المشهود، لكنّ نفسه تنفطر من ندمه الشّديد، ويثير بهتون الدّمع ومرّ الشّكوى شفقة بلا جدوى، × إذا بفيلستروس يأتي حياله، كان يقصد شأنا آخر فساءه المشهد المفاجئ وما هاله. استعاد ذهنه حالا خطأ سرعته، وحدس بفطنة كلّ تبعته؛ وبثبات جأشه المعهود، عمد إلى إزاحة العبيد، وانهال على مرمكس بجمعي يديه، برفق خلاف المظاهر يقرّع خدّيه، صارخا: × "ويلك أيّها الشّقيّ حانث الأيمان يا شرّ اللّئام، ألا حلّت بك لعنة سيّدك الّذي أرى وكلّ آلهة السّماء العظام، الّذين انتهكت حرمتهم بيمينك الكاذبة بعدما سرقت أمس نعليّ من الحمّام؛ إنّك لأهل بالبقاء في قيودك حتّى الاهتراء، ومعاناة ظلمات السّجن فوقها وحقّ السّماء." انخدع بربروس بمكر الفتى الموافق للموقف، ومن فرط ثباته ووثوقه، انجرّ بسذاجة إلى تصديقه، وحالما عاد إلى بيته دعا مرمكس إليه، فقدّم له النّعلين عافيا عنه بطيب خاطر وأشار عليه بأن يردّ إلى صاحبهما الخفّين اللّذين عمد إلى سلبهما."

9-22 غاب القطّ فالعب يا فأر

   لمّا وصلت العجوز إلى هذا الحدّ من هذرها، هتفت الزّوجة: "يا بخت من تحظى بصاحب مثل ذاك! ويا لتعسي أنا الّتي وقعت على محبّ يخاف حتّى جعجعة الطّاحونة ووجه ذاك الحمار الأدبر هناك." ردّت العجوز :" لا عليك، سأقنع ذاك العاشق الثّبت الجنان، وأحضره لموعدك دون توان!" ثمّ ذهبت واعدة بالعودة مساءً؛ × أمّا الزّوجة مثال العفافِ فأعدّت في الحال عشاءً حفل بمآكل من كلّ الأصنافِ وروّقت أجود الخمور ونقعت اللّحوم في طازج الأمراق، ووضعت الخوان مصفّفة عديد الأطباق؛ باختصار، كمقدم إله كانت تنتظر سيّد العشّاق، إذ صادف أن كان زوجها خارج الدّار، عند جار له قصّار. لذا لمّا فُككتُ من الهُدية مع اقتراب آخر النّهار، وأُعدت بدعة إلى المعلف للاستراحة، لم أفرح لعمري بالحرّيّة من عناء الشّغل قدر فرحتي بإزالة الغمامة، إذ أتيح لي أن أرى بكامل الحرّيّة كلّ فعال تلك المجرمة. توارت الشّمس خلف أقيانوس* لتضيء رُحْب العالم السّفلى، فوصل في الإبّان مصطحبا تلك العجوز السّوءى زير النّساء المقدام. وإن هو إلاّ غلام، ما زال غضّ الإهاب في مقتبل الشّباب، يزدهي برواء الخدود والوجه الأملود، لم يزل هو بالذّات، فتنة للزّناة؛ فاستقبلته زوجة الطّحّان بجحيم من القبل وبالأحضان ثمّ دعته إلى العشاء الّذي حضّرته^.

9-23 يرى القذى في عين غيره ولا يرى الخشبة في عينه

   فما كاد الشّابّ يمزّ ذواقا من شراب الافتتاح، ويلامس المقبّلات بأطراف الشّفاه، حتّى وصل الزّوج راجعا أبكر بكثير ممّا كان متوقّعا. فراحت الزّوجة الفضلى تستنزل أسوأ اللّعنات عليه وتدعو بكسر كلتا رجليه؛ وأخفت عشيقها وهو يرجف هلعا، شاحبا ممتقعا، تحت قصعة من خشب، ينقّون فيها البرغل عادة وبالصّدفة ملقاة على كثب. بعدما طمست بمكرها الفطريّ معالم جريمتها البشعة، وموّهت وجهها بقناع من الثّقة المصطنعة، سألت زوجها لماذا غادر مائدة أعزّ خلاّنه وحضر قبل أوانه؛ فأجاب بقلب يتوجّع وتنهّد لا ينقطع: × "لم أطق جرم امرأة في طريق الخسار، فلذت بالفرار، فبحقّ الآلهة الأخيار، ماذا دهى سيّدة فاضلة عاقلة مثلها لتمرّغ في أبشع الأرجاس نفسها؟ أستشهد كيريس* هذه وجلالها القدسيّ، أنّي لا أصدّق ما رأيت من تلك المرأة بعينيّ." أثار كلامه فضول الزّوجة الوقاح، فلم تكفّ عن سؤاله بمزعج الإلحاح، أن يروي لها كلّ الحكاية، بالضّبط منذ البداية، حتّى نزل عند رغبتها في النّهاية، وأخذ يعرض بلاوي بيت جاره غافلا عن مصائب داره.

9-24 حيلة زوجة اللّبابيديّ

   "أجل! إنّ زوجة صديقي القصّار، الّتي أحصنت عرضها كما كان يبدو باستمرار، وحظيت دوما بأطيب سمعة، كزوجة تدير بيت زوجها بعفّة، ارتمت في أحضان عشيق بدافع شهوة خفيّة بخفّة، وكرّرت لقاءاتها به سرّا بلا انقطاع، حتّى أنّها اليوم كانت ساعة عدنا من الحمّام للعشاء معه في جماع. بلبلتها عودتنا المفاجئة، فقرّرت بعجلة مضطربة، أن تخفيه تحت قفص من أعواد خيزران محدّبة، ومجمّعة في شكل إسطوانة مقبّبة، ينشرون عليه قطع النّسيج، وتشمَّم دخان الكبريت للتّبييض؛ ولمّا رأته بمأمن من العيان، أتت تشاركنا العشاء بمنتهى الاطمئنان. في الأثناء كاد الفتى المُخفى والمغشّى يتلف مختنقا بنشوق الكبريت الثّخين النّفّاذ، حتّى أثار لديه سعوط ذلك المعدن الحمّاز، نوبة متواصلة من العطاس.

9-25 اكتشاف سيّد العشّاق

   لمّا سمع الزّوج العطاس آتيا من ناحية زوجته من الخلف، ظنّها مصدره فشمّتها بالعبارة المعتادة حسب العرف، وأعاد مرّة أخرى بل مرارا، حتّى استغرب عطاسها المفرط تواترا وتكرارا، وفي نهاية الأمر، ارتاب في ما يجري. فدفع المائدة ونحّى القفص على الفور، وأخرج الرّجل وهو يلهث متقطّع الأنفاس بمنتهى العسر؛ فاستشاط غضبا من الإهانة وأمسك بالخنجر يريد الإجهاز على المحتضر، × لو لم أبصُر بالخطر المشترك، فأمنعه بمشقّة من اندفاعه الأخرق العرك، مؤكّدا له أنّ غريمه مائت في القريب الموشك، على غير أيدينا تلقاء نفسه بفعل الكبريت المهلك. فامتثل لا لنصحي بل لمتطلّبات الموقف بالذّات، وأخرجه إلى زقاق قريب وهو بين الموت والحياة. فأسررت إلى زوجته ونصحتها، وفي النّهاية أقنعتها، بترك الدّكّان قليلا واللّجوء إلى إحدى صديقاتها، ريثما تنفثئ فورة شريك حياتها. فقد كان في شدّة حنقه وفورته، يفكّر بلا شكّ في إلحاق أذى بنفسه وبزوجته؛ فزهدت في عشاء صاحبي ولذت بالفرار، وعدت مقرفا إلى الدّار.

9-26 نفاق الزّوجة الخائنة

   طوال رواية الطّحّان، طفقت زوجته الصّفيقة الّتي تخونه منذ أمد من الزّمان، تكيل لزوجة اللّبّاد أقذع الشّتائم، وتنعتها بالغادرة الفاجرة شين بنات جنسها في العالم، هي الّتي خلعت الحياء وداست على الميثاق الزّوجيّ، ونجّست بيت بعلها بخزي المبغى العموميّ، وقايضت مختارة شرف الزّوجة باسم البغيّ، مشيرة أيضا إلى كون النّساء الشّبيهات جديرات بأن يحرقن حيّات. لكنّها في نفس الوقت كانت تشعر بوخز جرحها الكتيم ووعيها برجس فعلها الأثيم؛ ولتعجّل بتخليص خدنها من عذاب مخبئه أشارت مرارا على زوجها بالذّهاب باكرا إلى مضجعه. لكنّ زوجها الّذي قطع العشاء وفرّ على الطّوى، ظلّ يطلب بلطف أن تقدّم له عشاءه بالأحرى، فبادرت وإن على كره تعطيه إيّاه، إذ كانت قد أعدّته لسواه. أمّا أنا فكنت أنفطر كمدا كسير الخاطر، وأنا أفكّر في جرم تلك الماكرة السّابق وثبات جنانها الحاضر، باحثا عن طريقة لإسداء العون لسيّدي بفضح خُدعها أمام عينه، وكشف الفتى القابع تحت القصعة كالسّلحفاة للجميع بإزاحة مكمنه.

9-27 انتقام الحمار

   تطلّعت العناية الإلهيّة أخيرا إليّ وأنا من هوان سيّدي في أشدّ العذاب: أتى الشّيخ الأعرج المكلّف بتعهّد الدّوابّ، والّذي يوردنا إلى حوض قريب في مثل هذا الوقت كلّ الأيّام، فقدّم لي عرَضا هذا الحدث الفرصة المرجّاة للانتقام. لحظت عند مروري بجانب القصعة أطراف أصابع العشيق المختفي، بارزة من تحت مخبئه الضّيّق الأجوف، فملت عليها بخفّي ودعستها بأشدّ العنف؛ فزعق من الألم ودحرج القصعة عنه إلى بعيد، وبدا لمرأى من يجهل أمره من جديد، كاشفا عن حيلة تلك المرأة الدّنيئة. لكنّ الطّحّان لم يتأثّر لأذى شرفه أكثر ممّا يجدر به، وللغلام الّذي تسمّر ممتقع الوجه واجفا، أنشأ يقول ببشاشة طلق المحيّا ملاطفا: × "لا تخف يا ابني أيّ أذى منّي؛ ما أنا بالهمجيّ أوالجلف جافي الطّباع الجبّار، ولا أنا بمرديك بدخان الكبريت القاتل على غرار فظاظة القصّار^، ولا بمقاضيك وطالب إقامة حدّ الزّنا على غلام بمثل هذه الحلاوة والنّعومة، بل سأعاملك على أساس الّشراكة مع قرينتي. سأطلب عيش الأسرة وفق صيغة المشاع، دون تقاسم الأطراف للمتاع، بحيث يجمع ثلاثتنا فراش واحد بلا حجاج ولا نزاع؛ لقد عشت مع زوجتي دوما في أتمّ الوفاق والسّواء، بحيث تعجب كلينا نفس الأشياء من مذهب الحكماء، والحال أنّ روح المساواة والعدل تفرض ألاّ يكون للزّوجة أكثر من حظّ البعل."

9-28 العين بالعين

   بمثل هذا الجوّ من المزاح والتّودّد مضى قاصدا مضجعه بالغلام الّذي اضطرّ مكرها أن يتبعه؛ وبعدما أفرد في غرفة أخرى زوجته الّتي لا تضاهيها عفّة أنثى، اضطجع لوحده مع الغلام، مستمتعا بالثّأر لانتهاك عشّه الزّوجيّ أعذب الانتقام. ثمّ لمّا طلع قرص الشّمس السّاطع معلنا ميلاد اليوم الجديد دعا اثنين من أقوى العبيد، ليمسكا عاليا بالفتى، وأخذ يلطعه على ردفيه بالعصا، وقال: × "ويلك، ما زلت طفلا رخوا غضّ الإهاب، تحرم العشّاق فيك زهرة الشّباب، وتتشهّى النّساء بل والحرائر سويّا، وتحلّ ما عقد الزّواج قانونيّا، وتدّعي قبل الأوان صفة الزّاني زير النّسوان!" بعدما أشبعه بهذا النّحو سبّا، وأوسعه فوق ذلك ضربا، رمى به خارج الدّار؛ ففرّ سيّد الزّناة والأزيار موفور السّلامة على غير ما يأمل ويألم مع ذلك لما نال كفليه البضّين في اللّيل والنّهار؛ ولم يمنع ذلك الطّحّان من بعث قسيمة الطّلاق لزوجته وطردها فورا من دويرته.

9-29 الزّوجة تحاول الانتقام 

   أمّا هي فناهيك عن الشّرّ المركّب في جبلّتها غضبت إلى أقصى حدّ من إهانتها، وإن تكن عين العدل، وفي أجيج نقمتها، لجأت إلى المألوف من أساليب النّساء: × جدّت في طلب عجوز عظيمة الدّهاء يقال إنّها بعزائمها وأُخذاتها تصنع ما تشاء من الأشياء، فترجّتها بعديد التّوسّلات وأغدقت عليها الهبات، × طالبة منها أحد أمرين: إمّا أن تهدّئ زوجها وتصلح بينهما، وإمّا أن تسلّط عليه روحا شرّيرا أو إحدى خوارق القوى للفتك به إن هو أبى. فما كان من تلك السّاحرة الماهرة والعزّامة القادرة إلاّ أن بدأت في المناورة بأولى فنّيّات صنعتها الماكرة، محاولة تليين الزّوج الحانق من إهانته ودفع نفسه إلى حبّ زوجته؛ ولمّا أتت نتيجة المحاولة بغير ما توقّعت، سيئت من جنّها إلى أبعد الحدود، ودفعها تجاهلهم فضلا عن مبلغ المكافأة المرصود، إلى استنزال شرّ الويلات بالزّوج المسكين ذاته، فحرّضت روح امرأة قُتلت بعنف ضدّ حياته.

9-3. انتقام فظيع

   لعلّك أيّها القارئ المدقّق ستؤاخذ روايتي وتعترض وتحقّق: "من أين لك، يا حمارنا الفطن، بمعرفة ما كانت المرأتان تحيكان في الخفاء حسب روايتك، وأنت حبيس جدران طاحونتك؟" هاك إذن كيف علمتُ أنا الإنسان الطُّلَعة المتشكّل في صورة الحيوان كلّ ما دُبّر ضدّ صاحبي الطّحّان. حوالي منتصف النّهار، ظهرت بغتة داخل الطّاحونة امرأة امتُقعت سحنتها من أثر الحبس وحزن نفسها المأفونة، لا تكاد تسترها خرقة رثّة مثيرة للرّثاء، حافية القدمين بدون أيّ نوع من الوقاء، زادها بشاعة ذبول كلون البقس ونحول، تتدلّى أمام وجهها، مخفيةً معظمه، خصل متفرّقة مغبّشة ممّا حُثي عليها من الرّماد. فألقت وهي في تلك الحال يدها برفق على الطّحّان، كأنّها تريد مسارّته ببعض الكلام، واقتادته إلى غرفته، فأوصدت الباب ومكثت لأيا بصحبته. لكن لمّا كانت الحنطة الّتي سُلّمت للعَملة قد نفدت، ولزم طلب المزيد، وقف أمام الغرفة نفر من العبيد، وأخذوا ينادون سيّدهم لطلب التّكملة، لمواصلة شغل العَملة. بعدما نادوا مرارا وبأعلى أصواتهم، ولا ردّ لسيّدهم على نداءاتهم، أخذوا يقرعون الباب بقوّة، وحيث كان موصدا بعناية فائقة، ولخوفهم أن يكون حصل مكروه، بكرّة قويّة دفعوه، فزحزحوا محوره أو خلعوه، وهكذا فتحوا لهم أخيرا منفذا. فلم يعثروا في أيّ مكان على تلك المرأة، ورأوا سيّدهم يتدلّى مشنوقا بلا حياة من العارضة#؛ ففكّوا رقبته من العقدة، ونقلوه منتحبين بأشدّ الأسى واللّوعة، ثمّ غسّلوه، وبعد أداء مراسيم المأتم حملوه، في موكب حاشد من المشيّعين ليدفنوه.

9-31 نتيجة الكارثة بالنّسبة للحمار

   من الغد هرعت بنته من قرية مجاورة تزوّجت فيها قبل ذلك بفترة، حزينة سافعة شعرها المحلول ولاطمة صدرها على نوبات متواترة. علمت بنكبة أسرتها دون أن يخبرها أيّ ناع بها إذ ظهرت لها في المنام صورة أبيها في حالة يرثى لها، وعنقه لا تزال مشدودة في خرتتها، فكشف لها جريمة زوجته بكلّيّتها: زناها ورقاها، وكيف راح بعدما سلبه الحياة أحد الأرواح إلى عالم الظّلال والأشباح. ولمّا تمادت في تعذيب نفسها بالنّواح، اجتمع إليها بعض أقرانها فخفّفوا من أشجانها، فكفّت عن النّحيب في آخر الأمر، وبعدما أنهت في اليوم التّاسع الطّقوس عند القبر، وضعت التّركة في المزاد بما في ذلك العبيد والأثاث المنزليّ وكلّ الدّوابّ. هكذا فُرّق بفعل صروف الدّهر بيت واحد، وفق مصادفات البيع الّتي لا يستطيع التّنبّؤ بها أحد؛ فيما يخصّني، ابتاعني جنّان فقير بخمسين درهما وبالغلاء^ حسب قوله لكنّه كان يبغي الحصول بعملنا المشترك على كفاف يومه.

9-32 عند الجنائنيّ

   يبدو لي أنّ المقام يقتضي منّي عرضا للائحة خدمتي هنا أيضا؛ كان سيّدي يحمّلني كلّ صباح كثيرا من الخضرة، لأنقلها إلى المدينة المجاورة؛ هناك بعد تسليمها للباعة واستلام السّعر، يقفل راجعا إلى جنّته راكبا ظهري. وبينما يكبّ محنيّا على العزق والرّيّ وبقيّة الأعمال، أظلّ طوال الوقت بلا شغل مخلدا إلى الرّاحة ناعم البال؛ لكن بانصرام دورات الأفلاك بانتظام، ومرور الأيّام والشّهور، هوذا الحول تولّى ومال من بعد مستلذّات الخريف طيّبة العصير، إلى صقيع برج الجدي والشّتاء ذي القرّ والزّمهرير. وتحت الأمطار المستمرّة، وجليد اللّيالي القرّة، كنت مربوطا في الهواء الطّلق، في مربض بلا سقف يوقّي^، أتعذّب بلسع البرد المستمرّ، إذ لم يكن بمقدور مالكي لشدّة الفقر، أن يجهّز لنفسه ناهيك عنّي، سقفا من الخوص أو أصغر كنّ، بل كان يقنع بقضاء العمر تحت ظلّة من أوراق الشّجر. زد على ذلك ما أعاني كلّ صباح من العذاب المردي، وأنا أخوض بحوافري العارية وحلا قارس البرد، ومدرا مدبّبا من الجليد ولا أستطيع حتّى ملء بطني بغذائي المعتاد؛ ذلك أنّ طعاما يتوفّر لي ولسيّدي سواء ومتشابها تماما؛ لكنّه أُكُل خمط غثّ: خسّ عتيق رثّ، سليخ مليخ، استغلظ لتقادم العهد بشطئه كالمكنسة، وتسنّه طعم نسغه المرّ المذِر في أوراقه المتيبّسة.

9-33 في ضيافة المزارع

   اتّفق في إحدى اللّيالي أنّ مزارعا من قرية مجاورة، أربكه ظلام ليلة غير مقمرة، وبلّلته شآبيب أمطار هامرة، فضلّ السّبيل السُّوى، عاج على جنينتنا وقد كلّ حصانه وونى. فاستُقبل بما يملي الظّرف من الحفاوة، ووجد لدينا كنّا وفّر له، على خلوّه من الرّفاهة، راحة كان إليها بأمسّ الحاجة؛ ورغبة في ردّ جميل مضيّفه البَرّ، وعد بإمداده بأمداد من الزّيتون والبُرّ، من غلّة أراضيه ودنّين من الخمر. وبلا توان، امتطى صاحبي ظهري بلا حلس ومعه غرارة وزقّان فارغان وانطلق لمسيرة ستّين شوطا^؛ بعد قطع تلك المسافة، وصلنا إلى المزرعة المذكورة، فاحتفى ربّ البيت بسيّدي فورا، وقدّم له غداء وفرا. وبينا هما يترافثان وبينهما الأكواب، حدث هذا الأمر العجاب: أخذت واحدة من جمهرة الدّجاج تجري وسط فناء الدّواجن وتقوق قواقها المألوف كأنّها تريد أن تبيض. فنظر إليها ربّ البيت وقال: "مرحى يا حلوتي الطّيّبة البيوض! لطالما غذّيتنا بمنتجاتك اليوميّة؛ والآن أيضا تفكّرين كما أرى في إمدادنا بلمجتك الشّهيّة!" ثمّ التفت هاتفا: "هيّا يا غلام، ضع السّلّة المعدّة لإنتاج الدّجاج في ركنها المعتاد." فأحضر الغلام ما أُمر؛ لكنّ الدّجاجة صدفت عن أدحيّتها المألوفة، وتمخّضت أمام قدمي صاحبها بنتاج خديج، يرهص بحرج مريج، إذ لم يكن البيضة الّتي نعلم، بل صوصا مكتمل التّكوين، بريش وبراثن وعينين وحتّى الصّوت شرع يرافق أمّه في الحين.

9-34 نُذر سماويّة

   لكن ظهرت عجيبة أكبر وأدهى، حريّة بأن يقشعرّ الجميع منها؛ فقد انشقّت الأرض تحت المائدة المحمّلة ببقايا الغداء، وانبجس من جوفها فوّار دم ثجّاج ترشرشت قطراته الثّقال مرتدّة فضرّجت المائدة. في نفس اللّحظة، وبينما الحضور متسمّرون في عجب ورهبة من هذه النّذر السّماويّة، هرع خادم من مخزن الخمور معلنا أنّ النّبيذ المخزّن فيه منذ زمان فار في الدّنان من الاختمار والغليان، كأنّ تحته أتونا من النّيران. في الآن نفسه رئي ابن عرس يجرّ من الخارج ثعبانا ميّتا بين أسنانه وضفدعة خضراء تنطّ من بين شدقي كلبِ راع، وكبشا واقفا جانب ذاك الكلب يثب عليه فيرديه خنقا بعضّة واحدة. أثارت تلك العجائب وأخرى مثلها في نفوس ربّ البيت والخدم ذعرا شديدا وحيرة حول ما يجب تقديمه من قرابين كماً وكيفاً لتهدئة آلهة السّماء الغضاب، بم يضحّون قبل، وبماذا بعد، ممّ يكثرون وممّ يقلّون.

9-35 هذي الحياة صراع فيها الضّعيف يداس

   بينما الكلّ وجوم يترقّبون كارثة فظيعة وهم راهبون، هرع عبد ليخبر سيّده بحلول أسوإ وأكبر الكوارث بما تملك يده. فقد كان للرّجل ثلاثة بنين كبار، ذوي أدب وخُلُق وهم له مصدر فخار؛ وكانت تجمعهم صداقة تليدة برجل فقير له عزبة بسيطة. بيد أنّ الأملاك الشّاسعة الخصبةَ الّتي تتاخم العزبةَ بحوزة جار قويّ، شابّ وثريّ، من أسرة أصيلة، لكنّه يسيء استغلال مجد آبائه، ويستمدّ عنجهيّة من شيعته، ويفعل  بسهولة كلّ ما يشاء^ في مدينته. فكان يتعدّى، شأن العدوّ المتعنّت، على أملاك جاره المتواضعة، مقتّلا أغنامه، ومغتصبا ثيرانه، ومتلفا قبل النّضج محصوله؛ وبعدما سلبه كلّ غلّته، بات يرغب في إخراجه من حويزته، ويطالب بالأرض كاملةً مثيرا مسألة حدود باطلةً. فما كان إذّاك من الفلاّح الرّزين في كلّ أحواله، وقد جرّده جشع الغنيّ من جلّ أمواله، وللحفاظ لقبره على الأقلّ على أرض الجدود، إلاّّ أن دعا في قلقه الشّديد، جمعا من صحبه لإثبات الحدود. فأتى الإخوة الثّلاثة في جملتهم حاملين لصديقهم في شدّته العون قدر طاقتهم.

9-36 المساعي الحميدة

   لكن ما أخاف حضور كلّ أولئك المواطنين ولا أزعج حتّى قليلا خصمه الأهوج، وأبى أن يخفّف غلواء أطماعه أو على الأقلّ إغلاظه في القول؛ بل بينما هم يناشدونه مترفّقين، ويحاولون تليين مزاجه الأرعن متودّدين ومتلطّفين، أكّد فجأة مقسما أغلظ الأيمان بحياته وحياة كلّ عزيز عليه أنّه لا يعير بالا لحضور كلّ الوسطاء وأنّه سيجرّ جاره من أذنيه على أيدي عبيده، ويقذف به بعيدا خارج كوخه. فاستنكر السّامعون هذه الأقوال بشدّة، وبدون تردّد ردّ أحد الإخوة الثّلاثة بحدّة، أنّه عبثا يعتدّ بثرواته ليُرهب النّاس كما يفعل المستبدّ، فطالما أُتيح أيضا للفقراء، بعون القوانين الثّأر من غطرسة الأغنياء. فكالزّيت للنّار أو الكبريت للحريق والسّوط لجنّيّة النّقمة* كان خطابه لهوجِ الرّجل أمثل الغذاء. جُنّ جنونه وبلغ الغضب به مداه، فأرعد متوعّدا بالإيعاز بشنقهم جميعا مع قوانينهم، وأمر بكلاب رعاة معدّة لحراسة ضياعه، ضخام ضوار اعتادت تخاطف الجيف الملقاة في الحقول، ورُبّيت كذلك على عضّ من يمرّ على أرضه من أبناء السّبيل، أن تُسرّح وتُطلق عليهم مع تحريشها لتُعمل الفتك فيهم. فما إن حمّشتها إشارة الرّعاة المعهودة وحمّستها، حتّى تألّبت في هيجان مسعور، مروّعة في فوضى من الهرير، وانقضّت بشراسة على الحضور، فأثخنتهم بهجماتها جراحا ومزّقتهم، وحتّى الفارّون ما أعفتهم، بل بوحشيّة مضاعفة تعقّبتهم.

9-37 تعنّت إجراميّ

   في غمار المجزرة الشّعواء في الجمع المتدافع، عثر أصغر الإخوة الثّلاثة بحجر فخرّ على الأرض مرتضّ الأصابع، مقدّما وليمة فظيعة للكلاب الوحشيّة الضّارية الّتي حالما وجدت الفتى التّعيس فريسة ملقاة مزّقته إربا. لمّا سمع أخواه صراخه وهو في غمرات الموت هرعا لإغاثته مفجوعين، فلفّا برداءيهما يديهما اليسريين، وأخذا يقذفان وابلا من الحجر لذبّ تلك الكلاب العقر عن أخيهما وإبعادها. لكنّهما ما استطاعا قمع ولا دفع وحشيّتها، وما لبث المسكين أن حشرج وهو في النّزع الأخير، طالبا أن ينتقما لمقتل أخيهما الصّغير من الغنيّ الملوّث بدماء الكثيرين، ثمّ مات ممزّقا في الحين. إذّاك اندفع الأخوان الباقيان نحو الغنيّ، وفي حماسهما وإقدامهما الجنونيّ، لا ليأسهما من النّجاة بل لفرط اللامبالاة، أخذا يرشقانه بمطر من الحجر. لكنّ ذلك السّفّاح المتمرّس من قبل بجرائم مماثلة عدّة، قذف على أحدهما بحربة فشجبه وسط صدره بشدّة. فلم يهو الفتى وإن أردته الطّعنة على الفور، إذ اخترقته القناة ليخرج جزؤها الأكبر من الظّهر، ومن قوّة ارتطامها استقرّت في الأرض حاملة لصلابتها الجثّة المشكوكة بها. ثمّ إنّ عبدا فارعا قويّا هبّ حاملا لذلك القاتل العون، فرمى من بعيد حجرا على ذراع ثالث الفتية اليمنى، فمرّ بعد فقدان قوّة دفعه محفحفا على أطراف أصابعه، وسقط خلافا لظنّ الجميع بدون إيذاء يده.

9-38 نهاية حزينة

   قدّمت هذه النّتيجة الطّيّبة للفتى الكيّس بارقة أمل في الأخذ بثأره، فتظاهر بتعطّب يده وأهاب بخصمه: "تلذّذ بإفناء كلّ أسرتنا، واسق وحشيّتك المتعطّشة الّتي لا ترتوي من دم ثلاثتنا، وانتصر بمجدٍ  بقتل مواطنيك. لكن لتعلمْ أنّك مهما وسّعت تخوم أراضيك بسلب أموال الفقير ظلما، سيكون لك جار ما دوما. أسفي على يميني الّتي كانت ستقطع رأسك حقيقة، سقطت ضحيّة القدر الظّالم مسحوقة." فزاد لقوله المجرم عنتا وشهر خنجره وهو في سورة الجنون، وهجم بعنف على الفتى المسكين؛ لكن هيهات هيهات، ما رهواً رخاءً أتى. فخلاف ما انتظر وتظنّى تصدّى له الفتى، وبقبضة شديدة أمسك يده وأدار سلاحه بضغطة قويّة تجاهه؛ وبعديد الطّعنات المتواترة عجّل إلى الموت بروح الغنيّ القذرة. وليخلّص نفسه من أيدي عبيده المسارعين إليه ردّ إلى نحره الخنجر الملطّخ بدم خصمه. ذاك ما أنذرت تلك الخوارق به من الخطوب، وذاك ما نُقل إلى مسمع الأب المنكوب؛ فما استطاع الشّيخ، وقد ألمّت به كلّ هذه الكوارث قول كلمة ولا حتّى سكب عبرة صامتة. بل أمسك بالسّكّين الّذي قسم به الجبن وأطعمة الغداء الأخرى بين ضيوفه قبل حين. فوجّه إلى نحره عدّة طعنات مثل ابنه المسكين، وانهار على رأسه فوق السّفرة، غاسلا لطخات النّجيع نذير الشّؤم بسيل من الدّم الجديد.

9-39 بين الجنديّ والجنائنيّ

   لبث الجنّان حينا يندب حظّ هذه الأسرة الّتي أبيدت بهذا النّحو في لحظة عجلى، راثيا نكبته بشديد الأسى، دافعا لقاء الغداء أدمعا حرّى، ثمّ امتطى ظهري وانطلق بنا رأسا على الطّريق الّتي أتينا عليها، ضاربا يديه الفارغتين كفّا بأخرى. لكن حتّى عودتنا لم تمرّ بسلام؛ فقد اعترضنا رجل فارع القوام، هو على ما يبدو من الهيئة والزّيّ، جنديّ من الجيش الامبراطوريّ، فسأله بلهجة متعجرفة وخيلة إلى أين يقود الحمار الفارغ من أيّة حمولة. لكنّ صاحبي الّذي ما زال تحت وطأة الآلام، والجاهل باللاّتينيّة أصلا مرّ مرّ الكرام؛ فلم يستطع الجنديّ كبح قحته المألوفة، واستشاط غضبا من صمته كإهانة موصوفة؛ فنحّاه من على ظهري بجلده بزرجونة كانت بيده. إذّاك أجاب الجنّان في ضراعة أنّه لجهله بلسانه لا يستطيع فهم كلامه؛ فكان ردّ العسكريّ باللّسان اليونانيّ: "إلى أين تسير بهذا الحمار؟" أجاب الجنّان أنّه يقصد المدينة الّتي بالجوار. قال الأوّل: "لكنّي بحاجة إلى خدمته: يجب بالأحرى أن ينقل من القرية القريبة أكياسا لقائدنا مع دوابّ أخرى." وفي الحال مدّ يده وأمسكني من الزّمام وأخذ يجرّني. مسح الجنّان الدّم النّازف من الشّجّة الّتي أحدثها برأسه السّاعة ضرب العصا وأخذ يتوسّل إلى العسكريّ ابن بلده بالتّصرّف برحمة ويناشده بأغلى مناه. وأضاف: "ثمّ إنّه حنطور كَلّ لا يصلح لشيء من الأشياء، متداعٍ من أخبث الأدواء، بالكاد يحمل لاهثا من شدّة الإجهاد بضعة بُزم من الخضرة من الجنينة المجاورة، ولا يبدو قطّ أمثل لينقل أحمالا أثقل."

9-40 حيلة الجنّان

   لمّا لاحظ أنّ الجنديّ لم يلن لأيّة ضراعة، وازداد بالعكس عنتا على عنت، بل قلب السّرجونة ليشجّ رأسه بأغلظ كعبرة، لجأ إلى آخر وسيلة. نزل وانحنى كأنّه يريد استدرار رحمته متمسّحا بركبتيه، فقبض على كلتا رجليه، ورفعه من على أديم الأرض ليبطحه بكلّ ثقله عليه، ويوسعه من فوره لكما وعضّا وصكّا بمرفقيه، وكذلك ضربا بحجر أخذه من الطّريق على كامل وجهه ويديه وجنبيه. فما استطاع الآخر وقد بُطح على قفاه أن يقاومه أو يتوقّاه؛ لكنّه راح يتوعّده ويعيد غير مداج أنّه إن نهض سيفرمه بسيفه جذذا؛ فعمد الجنّان وقد نبّهه الإنذار إلى انتزاع السّيف، ورميه بعيدا ثمّ عاد إلى ضربه بمزيد من العنف. لذا فإنّ العسكريّ الطّريح العاجز من جراحه عن الإفلات، والّذي لم يجد وسيلة للنّجاة، استخدم الوسيلة الوحيدة الباقية: تماوت؛ ما كان إذّاك من الجنّان إلاّ أن حمل سيفه وامتطاني، وانطلق بي رأسا بسرعة إلى المدينة دون الاكتراث بالذّهاب إلى الجنينة، فنزل عند أحد رفقته وروى له كلّ قصّته، مع رجاء مساعدته في شدّته، وإخفائه عنده يومين أو ثلاثة مع حماره، حتّى يفلت من القضيّة الجنائيّة باختبائه. فلم ينس صداقتهما التّليدة وهبّ لإجارته؛ فرُفعتُ مثنيّ القوائم إلى المقصورة العليا على السّلالم، ونزل الجنّان إلى الدّكّان السّفليّ حيث كمن في سلّة سدّت فتحتها.

9-41 البحث عن الجاني

   أمّا العسكريّ فكما علمت لاحقا قام في نهاية الأمر، كالمستفيق من تعتعة السّكر، لكن في ترنّح، ووهن من ألم ما أصابه من ضرب مبرّح، ووصل وهو لا يكاد يثبت على عصاه إلى المدينة؛ ولحرجه لم يبح لأحد بشيء ممّا جرى له جرّاء خوَره، بل ظلّ يجترّ بصمت هوان غَلَبِه واكتفى برواية مصابه لبعض من لقي من أصحابه. فرأوا أن يختفي لبعض الوقت في الثّكنة، خوفا، إلى جانب الفضيحة الشّخصيّة، من قانون الخدمة العسكريّة، بسبب إضاعة سيفه، ويعتنوا هم بعد أخذ أوصافنا بالبحث عنّا والأخذ بثأره منّا. فحدث أنّ جارا غادرا وشى بنا، وأنبأ فورا بمخبئنا؛ فاستحضر الجنود القضاة مدّعين أنّهم أضاعوا في الطّريق إناء نفيسا من الفضّة لقائد الحامية، وأنّ جنّانا لقيه فأبى أن يعطيه ولجأ إلى صديقه ليخفيه. حالما علم القضاة بالضّرر وباسم القائد، حضروا أمام باب ملجئنا، منذرين مجيرنا بتسليمنا، نحن المختبئيْن يقينا عنده، وإلاّ عرّض لحكم الإعدامرأسه. فلم يُجْد التّرهيب معه، ولحرصه على سلامة صديق أمّنه، لم يبح عنّا بشيء، مدّعيا أنّه لم ير ذلك الجنّان منذ عدّة أيّام. في المقابل ظلّ الجند يؤكّدون مقسمين بحياة قائدهم أنّه يختفي هنالك؛ في النّهاية رأى القضاة إجراء تفتيش لفضح المتّهم المتمسّك بالإنكار. لذا أدخلوا عددا من أعوان الشّرطة والموظّفين وأمروهم بفحص كلّ زوايا البيت بدقّة؛ فأخبروهم أنّ لا أحد بالبيت إنسانا كان أو حمارا.

9-42 الحمار وظلّه

   حمي وطيس المشادّة بين الطّرفين، الجنود يؤكّدون وجودنا كأمر محقّق مقسمين باسم قيصر ومعيدين، وهو لا يزيد إلاّ إنكارا وإصرارا، ويستشهد عزّة الآلهة مرارا. لمّا سمعتُ المشادّة والضّجّة المتعالية، عنّ لي أنا الحمار الطّلعة ذي النّفس القلقة، أن أطلّ برقبتي من كوّة بالجدارلاستجلاء سرّ تلك الجلبة، فاتّفق أنّ جنديّا كان بالصّدفة ينظر ناحيتي لمح ظلّي واستشهد الجميع بالمعاينة. فعلت في الحال ضجّة كبرى، وارتقى البعض السّلالم فورا؛ وامتدّت لي يد أمسكتني وكالأسير أنزلتني. عند ذلك أزيل كلّ ظنّ وأخذوا يبحثون بمزيد من التّحرّي في كلّ ركن؛ ولمّا كشفوا غطاء السّلّة وجدوا الجنّان المسكين فأخرجوه وللقضاة سلّموه، فزُجّ به في السّجن بانتظار شنقه علنا حسب أغلب الظّنّ؛ ولم يكفّوا عن السّخريّة لمرآي ضاحكين ملء أشداقهم؛ من ثمّة كذلك نشأ المثل السّائر عن مرأى الحمار وظلّه^.