أبوليوس

 

الحمار الذّهبيّ

 

الكتاب التّاسع

 

حواش 

11

10

9

8

7

6

5

4

3

2

1

مقدّمة

 

 

9- الكتاب التّاسع

9-1 أين المفرّ؟

      هكذا راح ذلك السّفّاح الزّنيم يدجّج لنحري يديه الأثيمتين؛ أمام الخطر الدّاهم المريع، والدّاعي إلى قرار سريع، عزمتُ، دون طول التّفكير والانتظار، على تفادي المذبحة الوشيكة بالفرار. في الحال قطعت القيد الّذي كان يشدّني واندفعت مطلقا للرّيح قوائمي، حاميا سلامتي بزخّات من الرّمحات؛ في لمح البصر قطعت الرّواق ركضا إلى غرفة الطّعام حيث كان ربّ البيت يتناول مع الكهنة لحم ذبيحة مقدّمة للإلهة؛ فاقتحمتها بلا تردّد، قالبا في اندفاعي المواعين بل وكذلك المائدة والمشاعل. فامتعض ربّ البيت من بعثرة الأثاث والتّشويش الحاصل وسلّمني برفق لأحد الخدم آمرا بحبسي لنزقي في مكان موثوق، كيلا أكدّر عليهم من جديد بفورة مماثلة صفو وليمتهم. بهذه الحيلة المرتجلة حميت بكياسة سلامتي، وأفلتّ من بين يدي الجزّار، فاستولى عليّ الفرح إذ بتّ في حمى سجن يضمن أمني. لكنّ لا شيء بالتّأكيد يمكن أن يحدث للإنسان وفق خططه إن عاكسه الحظّ، وما من تدبّر ولا تعقّل ولا عقّار لردّ أو تعديل قضاء عناية الآلهة المبرم. فالحيلة الّتي منحتني، كما بدا لي، ملاذا مؤقّتا دهتني بخطر لافع، بل بهلاك واقع، ما له من دافع.

 9-2 الحمار الكلِب

   فبينما ربّ البيت وضيوفه يتحادثون في المقصف رافعين الكلفة بينهم، دخل فجأة غلام، والاضطراب بادٍ على وجهه، ليخبر سيّده بأنّ كلبا كلِبا أتى السّاعة من زقاق قريب، ودخل من الباب الخلفيّ باندفاع غريب. وفي سورة هياجه، هجم فورا على كلاب الصّيد، ثمّ اتّجه نحو الإسطبل القريب فوثب بشراسة مماثلة على عدّة دوابّ، ولم ينج منه حتّى سكّان البيت. إذ راح يوزّع عضّاته يمينا وشمالا فخدش مرتيلوس* الهجّان، وهيفايستوس* الطّبّاخ، وهبنوفيلوس* الفرّاش، وأبولونّيوس* الطّبيب، وعدّة خدم حاولوا إخراجه؛ ولا شكّ أنّ العدوى انتقلت إلى بعض الدّوابّ. فهال الأمر كلّ الحاضرين، وخطر ببالهم أنّ ما أبديت من هياج قبل حين يعود إلى إصابتي بنفس العلّة؛ فتسلّحوا، كلّ بما تيسّر، وتنادوا متحاضّين على الخطر المشترك، وهرعوا وبهم مسّ ممّا نسبوا لي. كانوا سيقضقضونني دون أدنى شكّ، برماحهم وحرابهم والفؤوس ذات الشّفرتين الّتي وزّعها عليهم الخدم بسهولة، لو لم أر الإعصار يقترب فجأة منذرا بالويل، فأقتحم في الحال غرفة مالكيّ.  إذّاك أوصدوا عليّ الباب وحاصروا المكان منتظرين، بدون أيّ خطر عليهم من الالتقاء بي، أن أفنى رويدا رويدا من الدّاء الفتّاك المستحكم من جسدي. بذلك وجدتُ الحرّيّة أخيرا، فتلقّيت بالأحضان نعمة الوحدة وتهالكت على فراش وُضعت عليه الأغطية، مخلدا إلى راحة نوم بشريّ لم أذق له طعما منذ لأي.

9-3 الحمار في الاختبار  

   كان النّهار قد طلع ونعومة الفراش قد أزالت عنّي كلّ كلل لمّا أفقت خفّا نشيطا؛ فأصغيت إلى الجمع الّذين باتوا ضاربين حراسة مشدّدة على بابي، يتناقشون حول مصيري: "ترى أما زال ذلك الحمار التّعيس في هيجانه؟" " بل الأرجح أنّ الدّاء انفثأ من تلقاء نفسه بعد أن بلغ أوجه." للفصل بين شتّى الآراء، رأوا أن يحتكموا إلى العيان؛ ونظروا من شقّ بالباب فرأوني واقفا في دعة سليما معافى؛ ثمّ جازفوا بفتح الباب أكثر ليتحقّقوا أنّي صرت سلسا. لكنّ أحدهم، ما إخاله إلاّ مرسلا من السّماء لإنقاذي، أشار على الباقين بهذا المعيار للتّأكّد من سلامة طباعي: أن يقدّموا لي سطلا ملئ ماء قراحا، فإن أقدمت وشربت منه كعادتي بانت لهم سلامتي. وبالعكس إن صددت وصدفت مذعورا عن مرأى الماء ولمسه علموا أنّ الدّاء الخبيث ما زال يلازمني: ذلك معيار شائع وارد أيضا في كُتب الأقدمين^.

9-4 عودة إلى التّرحال  

   استحسنوا هذا الرّأي، وقدّموا لي فورا، في تردّد وبقيا من توجّس، وعاء كبيرا من ماء عذب فرات جُلب من نبع قريب: فتقدّمت فورا، واثق الخطوة تائقا إلى الماء، مولجا رأسي بشوق واشتهاء، وأكببت أعبّ من ذلك الماء الشّافي حقّا. ثمّ لبثت أتحمّل بمنتهى الوداعة تربيت أيديهم على يافوخي، وليّ أذنيّ برفق، وجذب زمامي، وغير ذلك من الاختبارات، حتّى أفنّد ظنّتهم، وأبيّن للجميع سلاستي بما لا يدع مجالا للشّكّ. هكذا نجوت من خطر مزدوج، ومن الغد ساقوني على الطّريق محمَّلا بالكشاكيل الإلهيّة لجولة جديدة من التّسوّل المتنقّل على إيقاع الشّنشانات والصّنوج. بعدما مررنا ببيوت وقرى عديدة، نزلنا ببلدة شيدت على أنقاض مدينة كانت غنيّة في الماضي حسبما ذكر السّكّان لم تندثر تماما؛ فنزلنا في أقرب خان، وهناك سمعنا قصّة طريفة حقًّا عن زوج فقير مخدوع أودّ أن تعرفوها بدوركم^.

9-5 عودة الزّوج المخدوع

   كان الرّجل يشتغل في معمل حدادة ويعيش حياة كفاف بأجره الزّهيد لقاء عمله، لكنّ له زوجة اشتهرت، رغم أصلها الفقير مثله، بخلاعة لا تضاهى. ذات يوم، ما كاد الزّوج يغدو في الصّباح الباكر إلى عمله حتّى دخل بيتَه خلسة عشيقها الجسور؛ وبينما العاشقان منهمكان بطمأنينة في التحامات الغرام، على حين غرّة عاد إلى البيت الزّوج المغفّل الّذي لم يكن يدري بشيء من ذلك ولا حتّى يرتاب بمثله. سُرّ الرّجل إذ رأى الباب مغلَقا من الدّاخل بعفّة زوجته، فطرق على الباب وصفّر ليخبرها بعودته. إذّاك خلّصت المرأة الذّكيّة الضّليعة في هذا النّوع من أفانين الفجور عشيقها من ضمّتها الحارّة وأخفته داخل خابية ملقاة في ركن من الغرفة نصف مخفاة، لكنّها فارغة وما بهم إليها من حاجة؛ ثمّ فتحت لزوجها وابتدرته وهو يدخل بفجاجة: "هكذا إذن ستبقى تتسكّع ببطالة، وعن شغلك اليوميّ في عطالة، خلو اليدين دون تدبّر معاشنا ولا إحضار شيء لطعامنا؟ بينما أنا المنكودة أكدّ ليلي ونهاري، وأقطّع في عمل الصّوف أوتاري، لأستصبح على الأقلّ القنديل في الدّار. كم تعيش أسعد منّي منعّمة جارتي دفنية* الّتي تتمرّغ منذ الصّباح بشمة مع عشّاقها بالأكل والشّرب متخمة."

 9-6 إنّ مكرهنّ عظيم

   ردّ الزّوج المزجور بذاك النّحو: "وماذا تقولين في هذا: فإنّ عَرفنا، لانشغاله بقضيّة له، صرفنا، ومع ذلك تدبّرت رزق يومنا. انظري لطفاً إلى تلك الخابية الفارغة دوماً، وتحتلّ بلا جدوى تلك المساحة الكبرى، ولا تصلح في الواقع لغير عوق حركتنا في بيتنا المتواضع. لقد بعتها لأحد بستّة دنانير السّاعة، وها قد حضر ليدفع الثّمن ويأخذ متاعه؛ فهلاّ تحزّمت وساعدتني قليلا على إخراجه من الدّار، لأسلّمه فورا للشّاري؟ قالت الخبيثة بديهةً وهي تطلق ضحكة جريئةً: "يا للزّوج الفذّ والتّاجر الأحذّ الّذي جاد عليّ به حظّي! فما بعتُ السّاعة أنا المرأة قعيدة الدّار، بسبعة دنانير أرخصَ هو عليّ فيه بدينار." هتف الزّوج طافحا بالبشْر بزيادة السّعر: " ومن الشّاري لها بذلك المقدار؟" ردّت: "نزل فيها يا سيّد الشّطّار للتّثبّت من متانتها منذ أوّل النّهار."  9-7 زيْن البعولة وتمام الرّجولة

   فالتقف الآخر مرادها ودون خذلان، قام يقول دون توان: "أتريدين يا سيّدتي معرفة الحقيقة؟ خابيتك هذه جدّ عتيقة، مخدّدة كلّها بشقوق عميقة"؛ والتفت إلى زوجها يقول له كأنّه يجهله: × "وأنت أيّا من تكون يا صاح، هلاّ تفضّلت بإمدادي بمصباح، لأستطيع بعد كشط الأوساخ من داخله كما يرام، معرفة ما إذا كان صالحا حقّا للاستخدام، أم تحسبني ترى أدفع من مال حرام؟ × وبدون أدنى ريبة أو توان، أشعل سيّد العرسان ذبالة المصباح وقال في الآن: "تنحّ أنت أيّها الأخ وابق في دعة هنا حتّى أعطيكها أنا مكحوتة كحتا حسنا." نضا ثوبه وهو يقول ذلك وحمل المصباح، وراح يجلو من على جداره النّخر القُلاح. بينما انكبّ زيرنا الغندور فوق امرأة الحدّاد الحانية على الخابية يشتغل فيها دعكا وسحجا بطمأنينة راضية. أمّا هي فمضت تطلّ برأسها من فوق الخابية مستنوكة زوجها بمكر المومس الدّاهية، مشيرة إلى بقعة قلحاء هنا وأخرى هناك بإصبعها ثمّ تلك مجدّدا ليقشطها، حتّى انتهيا من شغلهما سويّا، فاستلم الحدّاد دنانيره السّبعة رضيّا مرضيّا، واضطرّ التّعيس لأن يحمل الجرّة على رقبته ويوصله إلى بيت عشيق زوجته.

9-8 قراءة الحظّ

   مكث كهنتنا الأطهار هناك عددا من الأيّام، يَودكون من السّخاء العامّ، ويتموّلون مقدّمين عرافات عديدة، وقد ابتكروا وسيلة ارتزاق جديدة. ابتدعوا جوابا واحدا لعديد الأحوال، يخدعون به المتوافدين عليهم للسّؤال، حول شتّى المشاريع والأعمال، وقد صيغ الرّدّ على هذا المنوال: "الثّيران مقرونة لحراثة الأرض، ليزدهي غدا زرع يسرّ ويرضي." فإن جاء يسأل من بنيّته الزّواج، قالوا إنّ لديهم بالضّبط ما يحتاج: المقرن للقران، والزّرع للولدان؛ وإن سأل من عزم شراء أرض كان في الثّيران والمقرن والبذار بشرى بعميم الخير والازدهار. وإذا تلقّى وحي الإلهة قاصد السّفار قيل له إنّ ألين الرّواحل بالانتظار، وأنّ نبت الأرض يعد بالرّبح المحض. وإذا كان يعتزم خوض معركة ضروس أو تعقّب عصابة لصوص وسأل عن جدوى مضيّه في ما نوى، كانت نبوّتهم بشرى النّصر المقدّر: فستنحني رقاب الأعداء للنّير، وسيظفر منهم بالمغنم الطّيّب الوفير. لمّوا على هذه الشّاكلة، بحيلة كهانتهم الباطلة، تحويشة من الأموال الطّائلة.

9-9 أيّتها العير إنّكم لسارقون

   لكنّ تكرار الجواب على الاستشارات المستمرّة استنفدهم في النّهاية واستأنفوا الطّريق، فكانت أسوأ من كلّ الطّريق الّتي سلكنا ليلا: مليئة بالمناقع والحُفر، غرِقة هنا تحت غدران من الماء القذر، وزلجة هناك من طبقة من الطّين المذر. وتضعضعت قوائمي من العثرات المتتالية والكبوات المتوالية، ثمّ تخلّصت منها أخيرا إلى ثنيّة في أرض سهليّة. وإذا بكوكبة من الخيّالة المسلّحين تدركنا من الخلف على حين غرّة، ويوقف الفرسان اندفاع مطيّهم بمشقّة مُرّة، ويثبون على فيليبوس وصحبه بشِرّة. ويمسكون تلابيبهم ناعتين إيّاهم بالكفرة الفجرة وينهالون عليهم لكما ويغلّون أيديهم وينذرونهم مشدّدين × أنْ أوْلى لهم أن يُخرجوا الكوب الذّهبيّ مغنم جريمتهم السّوءى، الّذي اختلسوه من على وثار أمّ الآلهة أثناء تظاهرهم بأداء طقوسهم الّتي يمارسونها في الخفاء، ظانّين بوسعهم الإفلات من العقاب بالسّرى سرّا، لاجتياز الأسوار سحَرا.

9-10 هديّة أم خُلسة؟

   ألقى أحدهم على ظهري يده، ودسّها في حضن الإلهة ليفتّشه، فوجد الكوب وأمام الجميع أخرجه. لكنّ الأوباش ما انخذلوا ولا وجلوا، حتّى بعد افتضاح الجريمة النّكراء، بل قالوا مماحكين بضحكة مليئة بالرّياء: "يا للعيب ويا للشّقاء! ما أكثر المحن المتربّصة بالأبرياء! × لمجرّد كوب صغير قدّمته أمّ الآلهة بلطافة لأختها الرّبّة الّسورية* هديّة ضيافة، يعامَل أولياء صالحون كأنّهم مجرمون وبأخطر الجرائم يُتّهمون." ومضوا في هذه الخزعبلات لكن بلا جدوى، إذ ردّهم القرويّون القهقرى، وحبسوهم مكبّلين بالأغلال في سرداب السّجن^ وأعيد الكوب وحتّى التّمثال المحمّل على ظهري إلى منضدة العطايا وكُرّسا للمعبد، أمّا أنا فمن الغد عُرضتُ للبيع مرّة أخرى. فاشتراني طحّان من قرية مجاورة بسبعة دراهم فوق الثّمن الّذي دفعه فيّ فيلبوس من قبل، وحمّلني فور استلامي كمّيّة كبيرة من الحنطة اشتراها في نفس الوقت، ثمّ ساقني على طريق وعرة مليئة بالأحجار وجذاء شتّى الأشجار إلى الطّاحونة^ مقرّ عمله.

9-11  الآلة الجهنّميّة

   هناك كانت عدّة دوابّ قُرنت للّفّ تدير أرحاء في شتّى الاتّجاهات لا كامل النّهار فقط بل وآناء اللّيل أيضا في حركة لا تنتهي، فتحضّر الطّحين اللّيليّ بدوران الآلات الّتي لا تقرّ ولا تني. أمّا أنا فأكرم مالكي الجديد وفادتي، بالتّأكيد كيلا تنفّرني بدايتي في الخدمة: فقد أعطاني اليوم الأوّل إجازة وملأ مذودي بالأطعمة. لكنّ نعيم الرّاحة والجرش لم يدم أكثر، فمن الغد شدّني منذ الصّباح الباكر، إلى رحى تبدو أكبر من كلّ الأُخَر، وغمّ وجهي، ودفعني فورا إلى مجرى قناة دائريّة، لأدور دون زيغ باستمرار، قافيا خطاي في حركة دائريّة متكرّرة محدّدة المدار. لكنّي لم أُبْد استعدادا لتلقّي فنّيّات المهنة، ناسيا رصانتي وحكمتي؛ بل رغم رؤيتي أكثر من مرّة، لمّا كنت أعيش بين بني الإنسان، آلات تدور على نفس المثال، × تسمّرت في البدء متغابيا في مكاني، أمثّل دور الغفْل الجاهل بالشّغل، معتقدا أنّه سيحيلني لقلّة معرفتي وعدم صلاحيّتي للوظيفة وما شابهها إلى شغل آخر لا شكّ أسهل، بل قد يدعني أعلف دون أن أعمل. لكن سُدى أعملتُ فكري الذّكيّ بل عاد وبالا عليّ، إذ طوّقني في الحال عدّة عمّال يحملون العصيّ. وفيما أنا في غاية الأمان، وعيناي معصوبتان حتّى ذلك الأوان، أعطيت إشارة فجأة ولغطوا معا، وانهالوا كلّهم عليّ ضربا موجعا، حتّى عمهت من الضّجيج واللّطعات، فلم أملك سوى إلغاء مشروعاتي، وضغطتُ فورا بكلّ جسمي على اللّبّة بفائق الإتقان، مندفعا بخفّة في الدّوران، فأثرت بتغيّر سلوكي المفاجئ ضحك أولئك الفتيان.

9-12 سُخرة العبيد

   بعد ما انقضى معظم اليوم، وبلغ التّعب مبلغه منّي، فكّوا اللّبّة عنّي، ومن ربقة الآلة المشؤومة حرّروني، وإلى المعلف ربطوني. ومع أنّي كنت مرهقا إلى الآخر، وبأمسّ الحاجة لإنعاش جسمي الخائر، وتلفتُ من السّغب، لبثت من فضولي المعتاد في غاية الاندهاش والعجب، وأرجأتُ تناول طعامي، الّذي أُحضر غدقاً أمامي، وانصرفت إلى التّفكير، باهتمام وشيء من المتعة، في نظام هذا المعمل المقيت المعنت. يا آلهة السّماء! أيّ أناس عُجْف اختطّت جلودهم آثار العفقات الكامدة، ورقّشت ظهورهم الضّربات الكادمة، أسمالهم تظلّل أكثر ممّا تخفي أجسامهم. وضع بعضهم شملة قصيرة حول الأربية فقط، والكلّ مرتدون أطمارا يظهر من خلالها عُريهم، وقد وُسمت بحروف جباههم وحُلقت شعورهم فلم يبق منها سوى سبد، وحُجّلت أقدامهم وزادهم بشاعة هزالهم، وهرّأ القتام الكاوي أجفانهم حتّى عشيت أبصارهم ودرنت بأغبرة الطّحين البيضاء المتراكمة أجسامهم، كما يعفّر المصارعون بالأتربة، قبل النّزول إلى الحلبة^.

9-13 دوابّ الطّاحونة

   أمّا رفاقي الدّوابّ، فماذا أقول عنهم وكيف أصف حالتهم؟ كانوا جمعا من البغال العُجُز والجياد العجزة الوُهّن، × مستديرين بالمعلف مغطّسين فيه رؤوسهم يجرشون أكداس التّبن؛ وقد تأكّلت الجراح المتقرّحة أعناقهم الدّبرى، ووارب النّخير والضّبح خياشيمهم التّعبى، وتقرّحت من الاحتكاك المستمرّ باللّبّة فهداتهم، وتعرّت إلى الضّلوع من الضّرب المتواصل أجنابهم، وتفطّست من طول اللّفّ حوافرهم^، واخشوشنت من الدّبَر والهزال وطول الحبس جلودهم. فخفت على نفسي وأنا أرى بؤس رفاقي الأرقّاء نفس المآل، وتذكّرت عزّ لوقيوس الأيّام الخوالي، وتغشّى اليأس من الخلاص نفسي فأطرقت أرثي لحالي؛ لم يبق لي عزاء في حياتي المعذّبة يسلّيني قليلا سوى جبلّة فضولي، سيما والجميع يتصرّفون ويتكلّمون أمامي بحرّيّة مستخفّين بحضوري. وما أخطأ لعمري شاعر اليونان الخالد قديما، لمّا أراد أن يقدّم لنا رجلا أريبا حكيما، فجعله يكتسب خُلُقا وفضلا عظيما من زيارة مدن متعدّدة، ومعرفة شعوب متنوّعة. أنا شخصيّا أتذكّر بكثير من الامتنان فترة حياتي الحماريّة، فقد جعلتني تحت ستار هيئتي البهيميّة، ومن خلال التّمرّس بشتّى الأحوال الحياتيّة، إن لم أقل أحصف حكما، فعلى الأقلّ أوسع علما.

9-14 زوجة الطّحّان

   قرّرت بالمناسبة أن أنقل إلى مسامعكم هذه القصّة اللّطيفة الظّريفة قبل سواها، وهأنذا أبدأ من بداياها. كان ذلك الطّحّان الّذي امتلكني بماله، وهو، والحقّ يقال، رجل صالح ومفضال، قد بُلي بزوجة هي شرّة النّساء السّيّئات، فكان يقاسي منها في شرفه وبيته أمرّ الويلات؛ حتّى أنّي كنت كامل الوقت، أتألّم رثاء له بصمت. لم تكن اللّئيمة تخلو من أيّة مذمّة بل تجمّعت في نفسها كلّ الرّذائل كما تنصبّ كلّ سيول الحشوش في المقمّة. شرسة شكسة، شرّيرة سكّيرة، عنود حقود، جشعة في نهب ما للغير باطلا، سخيّة في المخزيات تنفق فيها مالا طائلا، تناهض الوفاء وتناوئ الحياء. وقد ازدرت وسفّهت الآلهة قاطبة، وأبدلت بالدّين الثّابت دعوى باطلة، عن إله زعمته واحدا^، خادعة بطقوس جوفاء مختلقة كلّ النّاس، وخائنة زوجها المسكين بالانغماس في الخمر من الإبكار، وفي الفجور كامل النّهار.

9-15 لوقيوس وزوجة سيّده

   كانت تلك المرأة تلاحقني بأذاها بحقد غريب ولا تتناهى، آمرة قبل طلوع النّهار، وهي ما تزال في الفراش بشدّ الحمار الّذي أتى مؤخّرا  للخدمة إلى الرّحى. وتطلب حالما تخرج من غرفتها، ملحّة أن يوسَع جلدا بحضرتها؛ ولمّا تُسرَّح بقيّة الدّوابّ للأكل في موعدها تبقيني ولا تأمر بربطي إلى المعلف إلاّ أمدا من بعدها. وقد زاد فيّ باضطهادها حبّ اطّلاعي الفطريّ على سيرتها؛ فأدركت أنّ شابّا يتردّد على غرفتها؛ وكنت أرغب في رؤية وجهه رغبة قصوى، لو سمحت لطرفي الغِمامة حتّى بلمحة عجلى، وما كنت لولاها لأعدم حيلة لفضح فجور تلك اللّئيمة بطريقة أو بأخرى. علمت أيضا أنّ عجوزا قوّادة، وكيلتها للمُخزيات ووسيطتها مع الزّناة، تحضر كلّ يوم ترافقها، وتظلّ معها لا تفارقها. حالما تصل، تجالسها على الفطور وتباريها على احتساء الخمور، ثمّ تدبّر للزّوج البائس، أسوأ المكائد والدّسائس. ورغم نقمتي على غلطة فوتيس الّتي حوّلتني حمارا بدل الطّير الموعود، كنت أتأسّى عن مسخي المنكود بهذا العزاء الوحيد: هو أنّي، بأذنيّ الطّويلتين ودون أيّ مجهود، أسمع تآمرهما حتّى من بعيد.

9-16 العجوز الشّيطانيّة

   في أحد الأيّام، التقطت أذناي لتلك القهرمانة الحاذورة مثل هذا الكلام: "تبدين لي يا مولاتي أهلا بالملام، باختيارك دون استشارتي لذلك الخرع، الّذي يرتجف إن غضّن زوجك السّمج حاجبيه من الهلع، ويطفئ ببلادة حبّه البارد شهوة دمك الواقد. كم يفضُله فيلسِتروس* ذاك الفتى القسيم الكريم ذو الهمّة المتوقّدة، والمتصدّي بعزم لاحتياطات الأزواج فيجعلها عديمة الفائدة. هو وحده أهل، وحقّ السّماء، لينعم بوصال كلّ النّساء، هو وحده أهل لأن يحمل على رأسه تاجا من الذّهب، على الأقلّ لذاك المقلب، الّذي ابتكره بمنتهى النّباهة في الآونة الأخيرة، لزوج هصور شديد الغيرة؛ هاك اسمعي وقارني، بين ذكاء العاشقين المتباينِ.

9-17 قصّة بربروس وأريتة

   تعرفين بربروس*: هو في مدينتنا عضو بالمجلس، ويكنيه الشّعب بالعقرب لطبعه الأشرس؛ تزوّج امرأة ذات حسب رفيع وحسن بديع، فأحاطها بحراسة عجيبة واعتقلها في البيت بحذر وريبة." لدى هذه الكلمات الأخيرة، هتفت زوجة الطّحّان مؤيّدة: "وكيف لا؟ أعرفها معرفة جيّدة؛ عن أريتة*، زميلتي في المدرسة، تتكلّمين"؛ قالت العجوز: "إذن فأنت تعرفين قصّتها مع فيلستروس برمّتها؟" أجابت: "أبدا، لكنّي أتحرّق لمعرفتها؛ أرجوك يا أميمة احكي لي، أوّلا بأوّل كلّ التّفاصيل." فما تلكّأت عجوزنا الثّرثارة وأنشأت: "أراد بربروس هذا، وهو يستعدّ لسفر لا بدّ منه، أن يتّخذ كلّ احتياط لصيانة عفاف زوجته والذّبّ عنه، فنبّه بالأمر في الخفاء، عبده مرمكس* المعروف عنده بأوثق الولاء، وأوعز إليه بمراقبة سيّدته بنحو شامل ووجه كامل. وهدّده بالسّجن والقيود مدى الحياة، وبالذّيّ البطيء جوعا حتّى الممات، إن لامسها مارّا ولو بأنملته أيّ إنسان، وأقسم على ذلك بكلّ الآلهة أغلظ الأيمان.  هكذا ترك مرمكس نهْبا للخوف تبيعا دائب اليقظة لزوجته، وانطلق مطمئنّا إلى وجهته^؛ فاستحال إذّاك مرمكس من انشغاله بهاجسه النّاغز إلى حارس مهووس ولجوج، إلى حدّ منع سيّدته من أيّ خروج؛ وإذا جلست تتلهّى بغزل الصّوف جلس عندها لا يفارقها؛ وحتّى عندما تروح مساء إلى الحمّام ضرورة يلازمها، ويلاصقها ممسكا بيده أطراف ردائها. كان باختصار، يرعى الأمانة الموكولة إليه بأرب يستحقّ كلّ إكبار.

9-18 المال مفتاح الأقفال

   لكن ما كان يمكن لفتنة تلك المرأة الكريمة^ لتخفى عن يقظة فلستروس الضّريمة؛ بل إنّ ذات هذه العفّة المشهورة الممجّدة، والحراسة المشطّة المشدّدة، أثارتاه وألهبتاه، فبات على أتمّ الاستعداد لفعل كلّ الصّعاب واحتمال كلّ الشّداد، وشدّ حيازيمه بقواه المجتمعة، لفتح قلعة نظام بيتها الممتنعة. ولعلمه اليقينيّ بهشاشة الوفاء الإنسانيّ، وقدرة المال على تذليل كلّ الصّعاب، وعادة الذّهب فتح أصلب الأبواب، اغتنم فرصة لقاء مرمكس على انفراد ففاتحه بحبّه ورجاه شفاء نفسه من العذاب. فقد قرّر وأزمع الموت بعجل، إن لم يظفر بالمحبوب في أقرب أجل؛ ولا داعي لأن يخاف العبد من شيء في هذا الأمر السّهل، إذ يمكنه التّسلّل وحده في اللّيل، مستخفيا بجنح الظّلام إلى داخل البيت، ثمّ الانصراف بعد برهة من الوقت. إلى هذا ومثله من أساليب الإقناع والتّودّد، أضاف إسفينا قادرا على نسف عناد العبد المتشدّد: مدّ يده وأراه مثاقيل ذهبيّة، صلبة حقيقيّة، برّاقة من فرط جدّتها، أعدّ من جملتها عشرين لزوجة مولاه، وعشرة يهبها بطيب خاطر إيّاه.

9-19 حبّ المال وخوف سوء المآل

   اقشعرّ مرمكس من ذلك الإمر، الّذي لم يُسمَع بمثله في النّكر، وفي الفور فرّ سادّا أذنيه، لكنّ بريق الذّهب المتّقد لم يبارح عينيه؛ حتّى بعدما نأى وعاد إلى البيت مسرع الخطى، ما انفكّ يرى أمامه سنا تلك النّقود، ويمسك في خياله بالمكسب الطّائل الموعود؛ وظلّت تتقاذف المسكين لجج متلاطمة من الأفكار المتناقضة والنّزعات المتعارضة: هناك الأمانة وهنا المال، هناك العذاب وهنا العذوبة. لكنّ الذّهب في النّهاية غلب خيفة الموت، فحتّى بمرّ الوقت، ما وهن حبّ المال الوبيءُ عنده، بل أقضّ مضجعه وأرّق ليله؛ كان وعيد سيّده في البيت يستبقيه، لكنّ الذّهب بقوّة إلى الخارج يناديه. أخيرا داس على ذمّته وتخلّص من تردّده مبلغا ما طلب منه أذني سيّدته؛ فما حادت المرأة عن زيغ طبعها وللمعدن المقيت قبلت فورا تأجير عرضها. فأسرع مرمكس يخون أمانته، وهو لا يسع غبطته، متحرّقا لا فقط إلى أن يأخذ المال الّذي رأى وهو يجهل أنّ فيه خسارته، بل حتّى ملامسته، وأخبر فلستروس ببهجة أنّه نفّذ رغبته، باذلا في المهمّة أقصى الجهود، ومطالبا بالحلوان الموعود؛ وأمسكت يد مرمكس المثاقيل الذّهبيّة، هي الّتي ما عرفت قبل حتّى المسكوكات النّحاسيّة^.

9-20 حتّى أتى هادم اللّذّات

   ولمّا جنّ اللّيل قاد إلى البيت بيده، عاشقَنا الجسورَ الّذي أتى متلثّما بمفرده، فأدخله إلى غرفة زوجة سيّده. وبينما العاشقان في أولى العناقات يؤدّيان للحبّ الطّارف الطّقوس، ويشتبكان، مصارعيْن عارييْن، في أولى نزالات فينوس*، إذا بالزّوج يحضر بغتة أمام باب البيت، منتهزا فرصة اللّيل. فيطرق ويصيح ويدقّ بحجر على الباب، وبالتّأخير نفسه يزيد في الارتياب، فيتوعّد مرمكس بأقسى العذاب؛ أمّا هذا فأوقعه الخطب المفاجئ في الاضطراب، وغدا المسكين في حيرته سليب الرّأي والعقل، ولم يستطع سوى التّعلّل بظلام اللّيل، إذ لم يكن جرّاه يجد المفتاح الّذي أخفاه بكلّ عناية حسب دعواه. أمّا فلستروس فحالما سمع الضّجّة التحف بالجلباب، وخرج من الغرفة مسرعا حافي القدمين من فرط الاضطراب؛ إذّاك أولج مرمكس المفتاح أخيرا في القفل وسارع بفتح الباب، مستقبلا سيّده الّذي لم يزل يرعد ويستشهد كلّ الأرباب؛ وبينما اتّجه بسرعة إلى غرفته، هرّب هو خفية عشيق سيّدته؛ وحالما خلص به أمام العتبة، أغلق البيت وعاد إلى النّوم بمنتهى الدّعة.

<<..