أبوليوس

 

الحمار الذّهبيّ

 

الكتاب السّادس

 

حواش 

11

10

9

8

7

6

5

4

3

2

1

مقدّمة

 

 

6- الكتاب السّادس

6-1 في المعبد

   في الأثناء ظلّت بسيشية تهيم قلقة بين الدّروب، أيّاما وليالي في بحثها الدّؤوب، راغبة بكلّ قلبها في استرضاء بعلها بتضرّعات الأمة المستعطفة إن لم يخفّف غضبه تودّد الزّوجة المتلطّفة. حتّى رأت معبدا على قمّة جبل وعر فقالت: "ما يدريني لعلّ مولاي يقيم هناك"؛ وقصدته فورا بخطو حثيث غدت تحدوه بعد ضنى الجهود الطّويلة آمالها وأمانيها. فارتقت بعزم إلى قمّته الشّاهقة، واقتربت من الهيكل؛ رأت سنابل من القمح مكدّسة وأخرى غضّة ضُفرت إكليلا ورأت سنابل من الشّعير. كانت هناك أيضا مناجل، وأدوات حصاد شتّى مبعثرة، وكما ترميها عادة أيدي الحصّادين عند قيظ الهجير. فخلّصتها بسيشية بعناية ورتّبتها على أحسن نسق، مفكّرة أنّ عليها بالتّأكيد ألاّ تهمل معبد ولا طقوس أيّ من الآلهة بل أن تستجدي رحمتهم وودّهم كلّهم.

6-2 دعاء

   فاجأتها وهي جادّة في التّرتيب بتفان كيريس* المغذّية، وهتفت فورا: "واها! بسيشية المسكينة. فينوس* تجوب الأرض غضبى لتقصّي أثرك، لا يهنأ لها بال وترغب في إنزال أشدّ العقاب بك، مسخّرة طاقات قوّتها الإلهيّة للانتقام وأنت منشغلة بترتيب أثاث معبدي وتفكّرين في شيء غير نجاتك." خرّت بسيشية ساجدة أمام رجليها مبلّلة بدمعها قدميها وكاسحة الأرض بشعرها وبأدعية عديدة أخذت تستعطفها: × "أتوسّل إليك بيمينك السّخيّة، وبأعياد الحصاد البهيجة، بالأسرار المكتومة في سلّة طُرفك القدسيّة، وبمركبتك المجنّحة الّتي يجرّها تنّيناك الذّلولان؛ ^ بالأتلام في ثرى صقلّيّة، بالمركبة الّتي خطفت بروسربينة* والأرض الّتي أخفتها ونزولها إلى عالم الظّلمات لزفّها لخاطفها، وعودتها بعد اكتشافها إلى عالم الضّياء، وببقيّة الأسرار الّتي يلفّها صمت معبدك في إليوسية* الأتّيكيّة *، ساعدي بسيشية الّتي تتضرّع إليك نفسها البائسة. اسمحي لي بالاختفاء هنا بين ركام السّنابل ولو لبضعة أيّام، ريثما تهدأ سورة غضب تلك الإلهة الجبّارة، أو لأستعيد على الأقلّ بقسط من الرّاحة قواي المنهكة من عنائي الطّويل."

6-3 مساعدة إلهيّة حاسمة

   ردّت كيريس: "لقد تأثّرت لتضرّعاتك ودموعك، وبودّي مساعدتك؛ لكنّي لا أستطيع تعريض نفسي لموجدة قريبة تربطني بها منذ القدم صداقة أجلّها وأصونها، فضلا عن طيبتها. فاذهبي فورا من هذا المعبد واشكري لي ألّم أمسكك عندي." لم يسع بسيشية بعد صدّها وتخييب رجائها سوى الرّجوع أدراجها وغمّتان في قلبها؛ فلمحت في غبش الوادي الممتدّ تحتها معبدا على طراز بارع من البناء، وفي حرصها على ألاّ تهمل أدنى بصيص من الأمل ولو ضعيف الاحتمال وأن تلتمس عون أيّ إله، دنت من مدخل الحرم. فرأت عطايا نفيسة وأقمشة خُطّت عليها كتابات بالذّهب معلَّقةً على أفنان الأشجار وكتف الباب، تشهد باسم الإلهة الّتي أُهديتْ لها لشكر فضلها؛ فجثت على ركبتيها وطوّقت المذبح الدّافئ بذراعيها؛ وبعدما كفكفت دموعها شرعت تدعوها:

6-4 عون يونون

   "يا أخت وزوجة يوبتر* العظيم، سواء كنت تقطنين ذلك البيت العتيق بساموس* الّتي تفاخر بأنّك فيها وُلدت وكركرتِ وترعرعتِ، أو ترتادين منتجعات قرطاج الشّامخة الّتي تعظّمك في صورة غادة تجوب أقطار السّماء ممتطية أسدا. أو تحفظين أسوار أرغوس* قرب ضفاف الإناخوس* الّذي يشيد بك كزوجة ربّ الرّعد^ وملكة الآلهة. أنت الّتي يعظّمك الشّرق كلّه تحت اسم زوغية* ويدعوك الغرب كلّه لوقينة*! كوني إلى جانبي في محنتي العظمى يونون* المسعفة^، ها أنا أمامك مكدودة من جهودي المنهكة، فخلّصيني من خوف الخطر الوشيك، فعادتك، فيما أعلم، المبادرة من تلقاء نفسك إلى غوث الحوامل المعرّضات للخطر." إزاء تضرّعاتها، تجلّت لها يونون* فورا في كلّ أبّهة ألوهتها، وقالت: "لكم أودّ بعزّتي إجابة دعائك. لكنّ تقديري لكنّتي فينوس* الّتي أحببتها دوما بمثابة ابنة لا يسمح لي بالوقوف في وجهها؛ كذلك تمنعني من استقبالك في معبدي القوانين الّتي تحظر إيواء العبيد الأغراب الآبقين بدون رضا عن أسيادهم."

6-5 قرار الاستسلام

   من جزعها بعد كبوة حظّها مرّة أخرى، وعجزها عن إدراك زوجها المحلّق في السّماء، وفقدانها كلّ أمل في الخلاص، قالت بسيشية لنفسها: × "أيّة مساعدات أخرى يمكن أن تُطلب أو تُلتمس لمن لم يُجد تأييد إلهتين رغم رغبتهما في تقديم العون؟ × أين أرسل خطوي مرّة أخرى وقد تلجلجتُ في كلّ هذه الشّراك؟ وفي أيّ مخبئ بل في أيّة ظلمات أختفي هربا من أنظار فينوس* الجبّارة الّتي لا ملاذ منها ولا فكاك؟ هلاّ استجمعتِ شجاعتك إذن وتخلّيت عن بصيص الأمل الخلّب واستسلمت طوعا لمولاتك مهدّئة سورة غضبها بإذعانك وإن تأخّر. بل من يدري، لعلّك تجدين من تنشدين منذ أمد طويل هناك، في بيت أمّه!"؛ هكذا مضت تهيّئ نفسها لمغفرة غير مؤكّدة، بل إلى هلكة محقّقة، وهي تفكّر في استهلال لدعاء التّوبة المعتزمة.

6-6 فينوس ترقى إلى السّماء

   أمّا فينوس* فتخلّت عن وسائل البحث على الأرض واتّجهت إلى السّماء؛ فأمرت بإعداد مركبتها الّتي أحكمت صنعها يدا فلكانوس* الصّائغ بفنّ فريد وقدّمها لها قبل البدء في حفل الزّفاف هديّة زواج هذّبها المبرد وبراها فزادها شأنا وقيمة بما أفقدها من خالص النّضار. فبرزت من بين الحمام المقيم حول بيت الإلهة أربع حمائم بيض وتقدّمن بخطى جذلى، حانيات أطواقهنّ المرقّشة، فأولجنها في النّير المرصّع بالجواهر، وبعدما استقبلن مولاتهنّ، طرن فرحات. حفّت بمركبة الإلهة، في جلبة مرحة، شحارير وطيور أخَر طراب يشدين مؤذنات بألحانهنّ العذاب عن مقدم الإلهة. فانحسرت الغيوم وانشقّت السّماء لاستقبال ابنتها، وتلقّى الأثير في عليائه الإلهة بغبطة؛ ومضى الموكب الصّادح مرافقا فينوس* العظيمة لا يخشى اعتراض النّسور والكواسر.

6-7 وتطلب خدمة مركوريوس

   على الفور اتّجهت نحو عرش يوبتر* وطلبت بشموخ أن يضع في خدمتها مركوريوس* الإله ذا الصّوت الجهوريّ لحاجة تقتضيه. فما أشار بالرّفض حاجبا كبير الآلهة اللّيلكيّان؛ ونزلت فينوس* لتوّها من السّماء برفقة مركوريوس* منتصرة وألقت إليه هذه الكلمات مترجّية: × "تعلم جيّدا يا أخا الأركاد* أنّ أختك فينوس* لم تفعل أبدا شيئا بدون عونك؛ ولا يخفى عليك أنّي لم أستطع منذ مدّة اكتشاف أمة لي مختفية، ولم يبق سوى أن تعلن في العموم عن مكافأة لمن يجدها. فافعل بسرعة ما أمرتك، وبيّن السّمات الّتي يمكن بها التّعرّف بوضوح على شخصها، وأنذر الجميع أنّ من يتستّر عليها موقعا بذلك في المحظور بنفسه لن يستطيع التّذرّع بجهله." ومدّت له وهي تقول ذلك بطاقة كُتب عليها اسم بسيشية وبيانات أخرى ثمّ غادرته إلى بيتها فورا.

6-8 استقبال حارّ

   لم يتوان مركوريوس* عن الامتثال ومضى، من خلال أفواه كلّ الشّعوب، يجوب كلّ مكان منفّذا مهمّة النّداء الموكولة إليه: "من استطاع أن يعيد بنت الملك الهاربة، أمة فينوس المدعوّة بسيشية، أو أن يدلّ على مخبئها، فلْيلق الحاشر مركوريوس* خلف صوى مُرتية*. وسينال من فينوس* شخصيّا، جزاء تبليغه، سبع قُبل عذاب، وواحدة أخرى عسليّة مزغزغة من لسانها حلو الرّضاب." ما كاد مركوريوس* ينهي نداءه حتّى هبّ كلّ الورى متنافسين طمعا في المكافأة المعتبرة، فأزال ذلك تماما كلّ تردّد في نفس بسيشية القانطة. ها قد أشفتْ على باب قصر مولاتها وإذا بخادمة لفينوس* تدعى كنسويتودة ( العادة) تهرع هاتفة بأعلى صوتها: × "أخيرا يا أخسّ الإماء بدأتِ تدركين أنّ لك مولاة؟ أوتراك  تتجاهلين ما تكبّدنا، بسبب سفاهتك وسوء سلوكك، من مشاقّ في البحث عنك؟ لكن سعديْكِ، ها أنتِ وقعتِ في قبضتي أنا شخصيّا؛ فاعتبري أنّك بتِّ بين كلاليب أركوس*، ومنه ستنالين، كما سترين حالا، عقاب تمرّدك."

6-9 الحماة والكنّة

   واندفعت تجرّرها سفعاً بالنّاصية وهي لا تبدي أقلّ مقاومة؛ فما إن رأتها فينوس* تساق وتقدّم إليها حتّى انفجرت ضاحكة كما يفعل من أعماهم الغضب، وقالت مرجرجة رأسها فاركة أذنها: × "أخيرا تفضّلت بالسّلام على حماتك، أم أتيت بالأحرى لتعودي زوجك السّقيم من جرحك؟ اطمئنّي فسأعاملك كما يحقّ بكنّة صالحة مثلك." وأردفت ملتفتة :"أين خادمتاي ملّوكيتودة وترستية ( الهمّ والأسى)؟" × حضرتا، وسلّمتهماها لتعذّباها؛ وبعدما نفّذتا أمرها، جالدتين بسيشية المسكينة بالسّياط ومسلّطتين عليها شتّى الأنكال ردّتاها لمولاتهما لتراها. ضحكت فينوس* من جديد وقالت :"ها هي تستثير بإغراء بطنها المثقل رأفتنا؛ فمن ضنوه العظيم ستجعلني، على ما أرى، جدّة سعيدة. فيا بختي ويا سعدي! قريبا أدعى جدّة وأنا في شرخ الشّباب ويدعى ابن جارية حقيرة حفيد فينوس*. وإن كنت غبيّة حقّا إن أدعه ابنا بدون وجه حقّ؛ فهذا الزّواج غير المتكافئ والّذي تمّ في ضيعة بلا شهود وبدون موافقة الأب لا يمكن بحال أن يعدّ زواجا شرعيّا؛ ومن ثمّ سيولد لقيطا، هذا إن سمحتُ لها أصلا بإتمام حملها إلى غاية الوضع."

6-10 الاختبار الأوّل

   قالت ذلك وانقضّت عليها فمزّقت ثوبها وقطّعت شعرها ورجرجت رأسها وبطحتها بعنف؛ ثمّ طلبت إحضار مكاييل من القمح والشّعير والزّوّان والسّمسم والحمّص والعدس والفول، فخلطتها وكدّستها ثمّ جمعتها في حثرة وقالت لها: × "تبدين لي أمة دميمة حقّا، فما بغير الخدمة المتفانية تصيرين أهلا بعشّاقك؛ لذا سأختبر شطارتك بنفسي. آمرك بفرز هذا الخليط من الحبوب وجمع كلّ فئة على حدة قبل الغروب، ثمّ إحالة عملك عليّ لأنظر فيه." بعدما عهدت إليها بكومة تلك الحبوب الّتي لا تُعدّ ولا تحصى، ذهبت إلى حفلة زفاف؛ فلم تمدّ بسيشية يدها إلى ذلك الكدس الممتنع عن الفرز، وفي ذهولها من الطّلب المشطّ لاذت بالصّمت. أشفقت النّملة، ساكنة الحقل الدّقيقة العجفاء لعلمها بمدى صعوبة المهمّة الكأداء، على زوجة الإله العظيم من ذلك العمل الشّاقّ، وأثارتها شراسة حماتها، فأسرعت تدعو جحافل النّمل، سكّان تلك الرّبوع، جميعا: × "رحمةً يا بنات الأرض- أمّ الجميع- الخفاف النّشطات؛ رحمة بزوجة إله الهوى هذه الفتاة الرّقيقة وهلمّنا فورا لمساعدتها فهي في خطر عظيم." فتدفّقت أمواج تتلو أمواجا من معشر سداسيّات الأرجل، وبعناية تفوق الوصف فرّقن كلّ الكومة حبّة حبّة ووزّعنها كلّ صنف على حدة، ثمّ توارين عن الأنظار في لمح البصر.

6-11 الاختبار الثّاني

   أمّا فينوس* فعادت مع بداية اللّيل من حفل الزّواج ثملة تفوح بالعطور وتغطّي جسمها عقود من لألاء الورود؛ فلمّا رأت بأيّ إتقان أُنجز ذلك العمل العجاب، قالت: × "ما هذا عملَك ولا فعلَ يديك، يا لئيمة، إن هو إلاّ عمل من أغويتِ جارّة له ولك الشّقاء!" وألقت إليها بكسرة من الخبز الأحرش وأوت إلى فراشها. في الأثناء أُرغم كوبيدون* بصرامة على البقاء بالبيت حبيس الفراش بلا أنيس، شيئا مخافة أن ينغل الجرح من شغبه، وشيئا كيلا يجتمع بمحبوبته؛ هكذا قضى الحبيبان، مفصولين تحت سقف واحد، ليلة ليلاء. ثمّ أتت أورورة* على جيادها، فدعت فينوس* بسيشية وقالت لها: "أترين تلك الغابة أين يعدو ذلك النّهر دافقا فيرويها على طول ضفافه وتتحدّى جذول أشجارها لجّته القريبة؟ × هناك ترتع بلا رقيب غنم تزدهي بسنا صوفها الذّهبيّ. آمرك أن تلتمسي بأيّة طريقة وتجلبي لي من هناك فورا ندفة من جزّة صوفها النّفيس."

6-12 القصبة الملهمة

   هرعت بسيشية، لا لتنفيذ الأمر، بل لتستريح من متاعبها بالارتماء من شفا النّهر؛ فانبرت لها من النّهر قصبة مخضوضرة شادية الألحان أنطقها إلهام ربّانيّ مع هفيف النّسيم الرّقيق هذا الوحي: × "أي بسيشية المبتلاة بألوان الرّزايا، إيّاك أن تدنّسي بالموتة الشّنيعة الّتي تنوين مائي الطّهور، أو أن تقتربي في هذه السّاعة من تلك الأغنام البرّيّة الرّهيبة. فكلّ يوم يتملّكها، حين يشتدّ وهج الهجير، هياج أهوج، وبقرونها الحادّة وجباهها الصّلدة، وبعضّاتها الموبوءة أحيانا تثخن كلّ من اقترب منها بجراح مردية. لكن بعدما يلطّف الأصيل أوار الشّمس وتهدّئ نسمة النّهر العليلة تلك الأغنام، يمكنك الاختفاء تحت هذه الدّلبة السّحوق الّتي يسقي نفس الماء عروقها وعروقي. فلمّا تهدأ ثائرتها وتلين عريكتها، هزّي إليك بفروع الغابة تساقط عليك وبرا ذهبيّا، ممّا علق من مصالتها هنا وهناك على الأغصان الملتفّة بها.

6-13 الامتحان الثّالث

   هكذا هدت البوصة البسيطة الرّحيمة بسيشية البائسة إلى  سبيل النّجاة، فلم تُعرض عن النّصح المسدى إليها باستخفاف يورث الحسرات، بل امتثلت لتعليماتها، وما لبثت أن عادت جالبة لفينوس* فيلجة جمعتها خلسة من عهن منفوش كالذّهب شقرةً. فلم يلق لدى فينوس* حتّى هذا الإنجاز الثّاني قبولا حسنا^، بل قطّبت حاجبيها، وببسمة كالحة قالت: "لا يخفى عليّ أنّ غيرك أنجز عنك غشّا هذه المهمّة أيضا؛ لكنّي هذه المرّة سأختبر تحت مراقبة شديدة إن كنتِ حقًّا ذات فطنة فائقة وشجاعة فريدة. أترين الفوّار المنبجس من تلك الصّخرة الشّامخة على ذلك الطّود الأشمّ، تنحدر منه سيول سحماء من الماء العكر الأحمّ، فتتجمّع في جوف ذاك الوادي القريب، لتصبّ في إستكس * نهر عالم الموتى الرّهيب، وتغذّي لجج كوكيتوس* المجعجعة في اعتسافها الصّخوب؟ × هات لي من هناك فورا، في هذه الزّجاجة، غرفة من ذاك الماء المتدفّق تغترفينها من أعماق نبعه الثّجّاج؛" قالت ذلك ومدّت لها من عل، بوجه بادي الوعيد والاهتياج، قارورة صقيلة من الزّجاج.

6-14 مهمّة مستحيلة

   فانطلقت بحماس، حاثّة خطاها إلى قمّة الجبل الشّامخة، رغبة في وضع حدّ لحياتها البائسة هناك بأقصى سرعة؛ فلمّا دنت من تخومها أدركت هول مهمّتها الكأداء. كانت صخرة ملساء، يتعذّر تسلّق جرفها المدبّب، تقذف من جوف الحجر سيولا رهيبة. فتبتلعها لتوّها أخاديد جرُف شديد الانحدار، فتزِب منه على منحدر ثمّ تندلق في قناة ضيّقة حفرتها، تنساب عبرها لتصبّ في قيعة قريبة. وعلى اليمين والشّمال حُفرت الصّخور وأطلّ تنّينان مخيفان، مادّين عنقيهما الطّويلين، استرسلت عيونهما في حراسة يقظة لا تكلّ، وجحظت حدقاتهما تتلقّيان النّور الأبديّ. أخذت تلك المياه القادرة على النّطق تهيب بها، لتقي نفسها شرّ ما أضمرت: "ابتعدي! ماذا تفعلين؟ انتبهي، بم تهمّين؟ احذري، فرّي، وإلاّ ستهلكين." أمّا بسيشية فاستحالتْ من استحالة مهمّتها حجرا، ولبثت غائبة اللّبّ وإن كان جسمها حاضرا، منسحقة تحت وطأة خطر لا مخرج منه ولا مجير، لا تجد حتّى عزاء الدّموع، ملاذها الأخير.

6-15 جلالة نسر النّسور

   لم يخفَ عن عين العناية الإلهيّة الحفيّة بؤس تلك النّفس الزّكيّة: فجأة أتاها باسطا جناحيه رسول يوبتر* الكبير، ملكُ الطّيور، جلالة نسر النّسور. تذكّر خدمة قديمة، يوم اختطف بإرشاد كوبيدون* ساقيَ مولاه الفريجيّ*، ولرغبته في ردّ جميل الإله بتفريج كربة زوجته، نزل من علياء مخدومه الشّمّاء مرفرفا أمام وجه الفتاة، وقال لها هذه الكلمات: ^ "أحقًّا ترجين أيّتها الصّبيّة الغرّة الغشيمة اختلاس حتّى قطرة واحدة من هذا الماء الطّهور النّاضخ تحت قدميك، بل حتّى لمسه بكفّيك؟ × أما علمتِ أنّ الآلهة، حتّى يوبتر* نفسه، يرهبون مياه إستكس*، ويقسمون عادة بجلال هذا النّهر كما تقسمون بعزّة الآلهة أنتم معشر البشر؟ × لكن هات لي تلك القارورة؛" وفي الحال أمسكها وكمشها وحلّق ناشرا جناحيه، مرفرفا ذات اليمين وذات الشّمال، بين صفّي أنياب التّنّينين الفتّاكة، والألسن الثّلاثة المتلظّية من فم كليهما. فامتاح من المياه، وهي تتمنّع وتنذر وتأمره بالانصراف دون أن يمسّها بسوء، متذرّعا بأنّه أتى يلتمس غرفة منها بأمر من فينوس* وليس إلاّ عبدا مأمورا، ممّا يسّر الإذن له بالاقتراب شيئا يسيرا.

6-16 الامتحان الرّابع

   تلقّت بسيشية القنّينة الملأى فرحة وعادت تسلّمها لفينوس* مسرعة؛ لكنّها لم تزد الإلهة الشّرسة إلاّ عنتا. خاطبتها متوعّدة، وقد ارتسمت على شفتيها بسمة تطفح شرّا وموجدة: "تبدين لي الآن حقًّا ساحرة شرّيرة ضليعة إذ أجبت مطالبي إجابة سريعة. لكنّي أطلب منك المزيد يا نور عيني! خذي هذه العلبة منّي،" ومدّتها لها- "وامضي حالا إلى العالم السّفليّ*، رأسا إلى بيت أركوس* السّوداويّ. فقدّميها لبروسربينة* وقولي لها: "تودّ فينوس* أن ترسلي لها قليلا من حسنك ولو قدر يوم واحد. فقد استهلكتْ ما بحوزتها مذ عكفتْ على علاج ابنها المريض وأفنتْ كلّ ذخيرتها"؛ لكن إيّاك والعودة قبل إنجاز المهمّة، إذ لا بدّ أن أدّهن منه للظّهور في حفل للآلهة."

6-17 برج أوتي العرافة

   أحسّت بسيشية أنّ تلك هي القاضية، وأدركت تماما أنّ المراد، بجلاء ودون قناع، دفعها فورا إلى موت محقّق؛ كيف لا ومولاتها تُرغمها على السّعي بظلفها إلى حتفها، إلى نهر التّرتار* ولقاء أشباح الموتى؟ × ودون تلكّؤ توجّهت نحو برج عال لتلقي بنفسها من فوقه، إذ خطر ببالها أنّ تلك هي الطّريقة المثلى للنّزول إلى عالم الموتى. لكنّ البرج انفجر ناطقا وناداها من تحتها: "لِم تريدين، يا شقيّة، أن تلقي حتفك بالارتماء من هنا؟ لم تستسلمين بلا مبرّر أمام هذا الخطر والعمل الأخير؟ × بمجرّد انفصال روحك عن بدنك، ستذهبين لا شكّ إلى نهر التّرتار* في غياهب العالم السّفليّ*، لكنّك لن تستطيعي إذّاك العودة منه أبدا؛ فأصغي إليّ جيّدا.

6-18 تعليمات البرج...

   تقع قريبا لخدمونة* مدينة أخاية* الشّهيرة؛ ابحثي على تخومها المخفيّة في أماكن منعزلة عن التّينار*. هناك يوجد منفس ديس*، ومن خلال المدخل المنفرج يبدو لك سرداب عسِر؛ فإذا اجتزت العتبة التقفتك قناة تفضي بك مباشرة إلى قصر أركوس* بالتّحديد. فلا تتوغّلي في تلك السّدف فارغة اليدين؛ بل خذي في كلتيهما لقمة من عصيدة الشّعير منقوعة في البِتْع، واحملي في فيك أيضا دانقين. بعدما تقطعين شوطا من سراط الموت، سيعترضك حمار أظلع يحمل حزمة حطب، مع حمّاره الأعرج مثله والّذي سيطلب منك أن تمدّي له عيدانا  وقعت من حمله على الأرض فمرّي ولا تنبسي بكلمة. ثمّ لن تلبثي أن تصلي إلى نهر الموتى حيث يطلب الرّبّان خارون* فورا أجر العبور ويأخذ المسافرين إلى الضّفّة الأخرى البعيدة على قاربه المجمّع من قسيّ الأسل. فحتّى بين الموتى يبقى الشّحّ حيّا؛ ولا يفعل خارون* ذاك الإله العظيم جابي ديس* شيئا مجّانا؛ ولا بدّ إذن للفقير إن حضرته الموت أن يتزوّد وإن اتّفق أن لم يكن بيده دانق فلا أحد يسمح له بالموت. أعطي ذلك العجوز المقرف أحد الدّانقين اللّذين تحملين بشرط أن  يأخذه بنفسه من فيك بيده. ومهما ترجّاك عند عبور اللّجّة الكسلى عجوز ميّت نخر يعوم على السّطح، مادّا إليك يده، أن تنتشليه إلى القارب، إيّاك أن تأخذك به رحمة، فهي محرّمة.

6-19 ...لزيارة العالم السّفليّ

   بعدما تجتازين النّهر وتتقدّمين قليلا، ستترجّاك حوائك عجائز ينسجن كساء أن تمدّي يدك قليلا لمساعدتهنّ، ذاك أيضا ممنوع عليك؛ كلّ هذه الأشياء وكثير غيرها شراك نصبتها لك فينوس* لتضيّعي من يدك واحدة على الأقلّ من اللّقمتين. لا تظنّي فقدان إحدى اللّقمتين أمرا يسيرا فلو أضعت واحدة لحُرمت إلى الأبد العودة إلى النّور. فإنّ كلبا وحشيّا مخيفا بثلاث هامات ضخمة ينبح ملء حنجرته على الموتى الّذين لا يستطيع إيذاءهم وإنّما يرهبهم سدى يحرس بيت ديس* الخالي، مترصّدا باستمرار على العتبة أمام بهو بروسربينة* تماما. قدّمي له إحدى اللّقمتين تتألّفيه وتمرّي بسلام، فتدخلي رأسا إلى بروسربينة* الّتي ستستقبلك ببشاشة وتدعوك بلطف إلى الجلوس على أريكة وثيرة وتناول غداء فاخر. فلا تفعلي يل اجلسي علي الأرض وكلي جلفة من خبز جشيب ثمّ اعرضي غاية زيارتك وخذي ما تعطيك. وفي طريق العودة، تفادي باللّقمة المتبقّية شراسة الكلب، وأعطي النّوتيّ الشّحّيح الدّانق المتبقّي، وبعد عبور النّهر اقتفي خطاك السّابقة وسترين من جديد كواكب السّماء في محفلها البديع. لكن، من بين كلّ التّعليمات، أطلب منك التّقيّد بهذا خاصّة: ألاّ تحاولي فتح العلبة الّتي تحملين أو إلقاء نظرة داخلها، ولو لمجرّد الاطّلاع على كنز الحسن الإلهيّ المخبوء بها."

6-20 إنجاز باهر...

   هكذا أبان ذلك البرج المنيف البصير موهبة العرافة المكنونة فيه؛ وفي الحال توجّهت بسيشية إلى التّينار* فأخذت وفق الطّقوس الدّانقين واللّقمتين، ثمّ أسرعت بالنّزول إلى نفق العالم السّفليّ*. فمرّت بصمت بالحمّار الأعرج وأعطت دانقا لربّان النّهر، وتغاضت عن ترجّي الميّت الطّافي، وتجاهلت توسّلات الحوائك المخادعة، وهدّأت هيجان الكلب العقور، ثمّ دخلت بيت بروسربينة*. فلم تعر الأريكة الوثيرة ولا الأطعمة الفاخرة الّتي قدّمتها لها مضيّفتها اهتماما، بل جلست على الأرض أمام قدميها وقنعت بكسرة خبز وأبلغتها رسالة فينوس*. ثمّ بلا تراخ أخذت العلبة الّتي ملئت وأُغلقت في الخفاء، واحتالت لتخرس باللّقمة التّالية نباح الكلب، وسلّمت النّوتيّ الدّانق المتبقّي ثمّ بارحت العالم السّفليّ * وقد زاد نشاطها^. وعادت إلى نور هذا العالم فخرّت له ساجدة؛ ورغم تعجّلها لإنهاء المهمّة، استولى على ذهنها فضول آثم جسور؛ قالت لنفسها: "ما أحمق أن أحمل الحسن الإلهيّ ولا آخذ منه شيئا لنفسي فقد أعجب إذّاك حبيبي البهيّ."

6-21 ...لولا الفضول

   فتحت العلبة وهي تقول ذلك، فما كان بها حسن ولا شيء سوى كرى العالم السّفليّ*، نوم إستكس* الأبديّ الّذي انفلت في الحين من الفتحة واستحوذ عليها، وتملّكتها غيمة متلبّدة من السّبات سرت في كلّ أعضائها، فقُبضت مكانها متداعية وسط الطّريق قبل إنهاء خطوتها. وثوت هناك جثّة هامدة بلا حراك؛ أمّا كوبيدون* ففي الأثناء التأم جرحه وتماثل للشّفاء؛ فلم يطق على غياب بسيشيته الطّويل صبرا، فأفلت عبر نافذة سامقة من حبس غرفته. وطار مسرعا وقد أعاد الاستجمام الطّويل لجناحيه قواهما، إلى بسيشية الحبيبة فنفض عنها الكرى برفق وأعاده إلى موضعه الأصليّ بالعلبة؛ ثمّ لامس بطرف سهمه بسيشية بلطف، قائلا: × "أي بسيشية المسكينة، ها أنت تهلكين ثانية، بسبب فضول كالأوّل^. أتمّي المهمّة الّتي كلّفتك بها أمّي، وسأتولّى ما تبقّى." طار العاشق خفيف الجناح وأسرعت بسيشية تحمل هبة بروسربينة* لفينوس*. 

6-22 شكوى كوبيدون

   أمّا كوبيدون* المدنف بتباريح وجده الجارف والخائف لمرأى وجه أمّه الباسر من فتور^ مفاجئ ففي الأثناء عاد إلى عاداته السّابقة^ ونفذ خفيف الجناح إلى مناط السّماء؛ فشكا ليوبتر* العظيم وقدّم ملفّ الادّعاء. إذّاك أمسك يوبتر* وجنة كوبيدون* وقرّبها بيده إلى فمه فلثمها وقال: × "مع أنّك يا بنيّ لم تراع أبدا حرمة الشّرف المسلّم لي به من الآلهة بل أثخنت برشقاتك المتلاحقة قلبي مقرّ قوانين العناصر وقوى العالم العلويّ وأخزيتني بمغامرات غراميّة متكرّرة مع إنسيّات؛ × وآذيت سمعتي ومقامي بفضائح زنا شائنة مخالفة للقوانين بما فيها قانون يوليوس* وللنّظام العامّ، ماسخا طلعتي المهيبة إلى كائنات رذلة، من ثعابين ولُهب وسباع وطيور وبهائم مبتذلة^؛ × سأذكر حِلمي وأنّك بين ذراعيّ هاتين نشأتَ، فأنجز كلّ ما طلبتَ، شرط أن تعرف كيف تتّقي شرّ خصومك، وإن تكن على الأرض غادة ذات جمال باهر أن تكافئني بها على جميلي الحاضر."

6-23 يحيا العدل!

   وأمر مركوريوس* باستدعاء كلّ الآلهة حالا إلى مؤتمر، منذرا من يتخلّف عن الاجتماع  بغرامة قدرها عشرة آلاف درهم؛ فامتلأ، للخوف من الغرامة، مسرح السّماء، وأعلن يوبتر* من فوق عرشه الرّفيع: ^ "أيّها الآلهة المسجّلون^ في لوح ربّات الفنون*، كلّكم بلا شكّ تعرفون هذا الغلام الّذي غذّيته بيديّ؛ لقد رأيت من اللاّزم كبح نزوات المراهقة المضطرمة في دمائه؛ كفى ما يتردّد عنه يوميّا من المخزيات، من زنا وشتّى المذمّات. لا بدّ من سدّ ذرائع الفحشاء وتكبيل فجوره النّزق بقيود الزّواج؛ لقد اختار فتاة وافترعها: فليستحللها ويحتفظ بها إلى الأبد وينعم بهواه في حضن بسيشية." والتفت إلى فينوس* قائلا: "أمّا أنت يا ابنتي، فلا تبتئسي ولا تخشي على مقامك وشرف أسلافك من هذا القران بإنسيّة فسأجعله زواجا متكافئا  وشرعيّا ويطابق القانون المدنيّ." وأمر فورا مركوريوس* بأخذ بسيشية وإحضارها إلى السّماء؛ فمدّ إليها بكوب من رحيق الآلهة وقال: "خذي يا بسيشية، والحقي بالخالدين، ولن يهجر كوبيدون* بعد اليوم مضجعك أو يفلت من رباطك، بل سيبقى زواجكما إلى الأبد."

6-24 حفل زفاف في السّماء

   في الحال التأم حفل الزّفاف وعجّ بالآلهة: فبدا العريس مستلقيا على تخت عال محتضنا بسيشية، وكذلك يوبتر* مع زوجته يونون* ثمّ كلّ الآلهة حسب التّرتيب. سكب ليوبتر* ساقيه الفتى الرّاعي كوبا من الرّحيق المختوم خمر الآلهة بينما راح باخوس* يدير على الآخرين كأس المدام وانكبّ فلكانوس* على طهي الطّعام. وراحت آلهات الفصول* يخضّبن كلّ شيء بدثار أرجوانيّ من الورد وشتّى الزّهور وآلهات الرّواء* يرششن الطّيب وآلهات الفنون* يغنّين بأعذب الألحان؛ وعزف أبولّون* على قيثارته، ورقصت على أنغام الموسيقى فينوس* في ارتخاء وتخويد، بخطو موقّع كالنّشيد؛ وقد رتّبت العرض بنفسها فكانت ربّات الفنون* يغنّين في فرقة، وعفريت الغابة* ينفخ في مزماره، وجنّيّ الرّعاة* ينفث في شبّابته أعذب الأنغام. هكذا صارت بسيشية وفق السّنن في عصمة^ كوبيدون*؛ وحملت ووضعت بنتا ندعوها فولبتاس*( اللّذّة)^.

6-25 أسلاب جديدة

   ذلك ما روت للأسيرة الحسناء تلك العجوز الخرفة الثّملة؛ أمّا أنا، فمكثت غير بعيد، متحسّرا ألاّ أجد لوحا وإزميلا فأكتب تلك القصّة الرّائعة. في تلك الآونة وصل اللّصوص محمّلين بالغنائم بعدما خاضوا على ما بدا لي معركة ضروسا، وبدا بعضهم يرغبون في الانطلاق فورا تاركين الجرحى في الكهف لتضميد جراحهم لجلب الرّزم الباقية المخفاة في مغارة حسب كلامهم. التهموا غداءهم بعجل وساقوني مع حصاني إلى الطّريق لحمل تلك الأمتعة موجفين بالعصيّ. قادونا عبر عدّة مرتفعات ومنعرجات ومع المساء وصلنا إلى كهف سرعان ما أعادونا منه محمّلين بأثقال لا تحصى دون إعطائنا أدنى مهلة لنستريح؛ كانوا في عجلة واضطراب شديد حتّى أنّهم من ضربهم المتواصل ودفعهم أوقعوني على حجارة تنتصب على قارعة الطّريق. فأرغموني بوابل من الضّربات الموجعة أن أنهض مثّاقلا وقد أصابني بالسّاق اليمنى والحافر الأيسر أذى شديد.

6-26 لوقيوس يفكّر في الفرار

   انبرى أحدهم: "حتّام نعلف سدى هذا البرذون الكليل الّذي صار يظلع فوق ذلك؟" وقال آخر: "إنّا وحقّ السّماء مذ وطئت قوائمه النّحسة بيتنا لم نكسب مغنما ذا بال ولم ننل غير الجراح وموت أبطالنا الأقحاح." فعلّق ثالث: "ثقوا أنّي، حالما يوصل مرغما هذه الأحمال، سألقي به من علٍ طعاما مريئا للعقبان." ومضى أسيادي الرّحماء يتناقشون حول مهلكي؛ وما هي إلاّ ساعة حتّى وصلنا إلى الكهف، فقد جعل الخوف حوافري أجنحة خفافا. وضعوا عنّا أوزارنا بعجل، ودون اهتمام بسلامتنا ولا حتّى بمهلكي، طلبوا رفاقهم الجرحى الّذين بقوا هناك السّاعة، ثمّ عادوا لحمل بقيّة الأسلاب بأنفسهم، متأفّفين على حدّ قولهم من بطئنا. لكنّ هاجسا غير يسير بات يعذّبني لتفكيري بالموت الّذي يهدّدني؛ فقلت لنفسي: "لِم تقف بلا حراك يا لوقيوس، أيّ جديد تنتظر؟ لقد أعدّ لك هؤلاء اللّصوص شرّ ميتة. ولا يتطلّب الأمر منك كبير مشقّة: أترى هذه الصّخور قريبا، وهذه النّتوءات المدبّبة الّتي ستشكّك فتذروك إربا قبل أن تقع على الأرض؟ لقد أعطاك سحرك الرّائع شكل الحمار ومتاعبه لكن مع بشرة برهافة غشاء العلقة؛ فلِم لا تشدّ عزمك وترتئي لك في نجاتك حيلة، ما دام الأمر ممكنا؟ لديك الآن فرصة رائعة للفرار، ما دام اللّصوص بمنأى؛ أتخشى حراسة تلك العجوز الفانية، وأنت تستطيع بلبطة واحدة من ساقك العرجاء الإجهاز عليها؟ لكن أين المفرّ، ومن سيقدّم لك المأوى؟ أيّ سخف هذا وتفكير حمير! إذ أيّ مسافر لا يأخذ معه مطيّة سائبة؟"

6-27 محاولة فرار

   في الحال وبجهد جبّار قطعت الزّمام الّذي كان يربطني وهممت بإطلاق الأربع للرّيح؛ لكنّي لم أستطع الإفلات من عيني تلك العجوز الدّاهية الأمضى من عيون البزاة؛ لمّا رأتني طليقا، استجمعت شجاعتها بعزم لا يوجد في جنسها وسنّها، فأمسكت اللّجام تحاول أن تُركسني إلى مربطي. لكنّي ذكرت الهلاك الّذي يعدّ لي اللّصوص، فلم تأخذني بها رأفة، وبوابل من الرّمحات من قائمتيّ الخلفيّتين طرحتها أرضا. غير أنّها رغم جثوّها على الأرض تشبّثت بالزّمام بعناد، فتبعتني في اندفاعي جرّا مسافة ما؛ وشرعت فورا تولول بأعلى صوتها طالبة عون يد أقوى. لكن عبثا مضت بعويلها تثير تلك الضّجّة، إذ لم يكن يوجد أحد قادر على مساعدتها سوى الفتاة الأسيرة، ^ الّتي أيقظها الصّياح فهرعت تستطلع جليّة الأمر، لترى مشهدا لعمري جديرا بالذّكر على مدى الدّهر: درخية* جحمرشا يجرجرها حمار بدل الثّور؛ وبعزم الرّجال صنعت في المقام خير الفعال: × انتزعت من يديها الزّمام، وبهينمات رقيقة ثنتني وامتطتني بسرعة واستحثّتني لأعود إلى الرّكض.

6-28 فرار الأسيرة

   أمّا أنا فبرغبة تلقائيّة في الفرار وتحرير الفتاة، وكذلك بتأثير زخّات بين فينة وأخرى من النّخسات، انطلقت أربع بالأربع خيرا من الخيل، محمحما محاولا أن أرّدّ على الفتاة بكلمات رقيقات. لكنّي كنت أحيانا أدير عنقي متظاهرا بالرّغبة في حكّ ظهري فألثم قدميها الصّمعاوين؛ ثمّ إنّها تنهّدت من الأعماق وولّت شطر السّماء وجها مهموما، ودعت: × "يا آلهة السّماء أعينوني على نكباتي، وأنت أيّها الحظّ كفاك وحشيّة، وحسبك ما أعاني من العذابات؛ ^ وأنت يا منقذ حرّيّتي وحياتي، إن توصلني سالمة إلى بيتي وتعدني إلى أبويّ وخطيبي وقرّة عيني، فكم سألهج بحمدك، وكم سأعزّك، وكم سأجزل لك المآكل^. سأبادر إلى مشط لبدتك بفنّ  وتزيينها بما لديّ من حليّ العذارى، وسأفرق ناصيتك الشّعثاء بذوق وتأنّق، وسأصقل بكلّ عناية هُلْب ذنَبك الجعد المتلبّد من قلّة الغسل. وسأزوّقك بخرز من الذّهب لتشعّ كما تشعّ نجوم السّماء وتختال وسط بهجة الجماهير وهتافهم، وسأحمل لك يوميّا يا منقذي في مخلاة من الحرير المفتّقةَ وأصناف المكسّرات هنيئا مريئا!

6-29 لكلّ شيء إذا ما تمّ نقصان

   لكنّك وسط المآكل اللّذيذة والرّاحة الهنيئة والنّعيم المقيم، لن تُحرم كذلك من التّقدير والتّكريم. فسأخلّد ذكرى سرّائي الحاضرة وعون عناية الآلهة، وأخصّص لفرارنا هذا صورة مرسومة على لوحة أنصبها في بهو بيتي. فتُرى وتُسمع من رواة الأخبار وتخلَّد بأزاميل الأدباء الكبار قصّة "الأميرة الفارّة من الأسر على ظهر الحمار." وستتبوّأ من جهتك مكانا بين عجائب وخوارق الأقدمين، وسنصدّق، قياسا على مأثرتك، رحلة فركسوس* على ظهر الكبش، وأريون* على متن الدّلفين وأوروبّة* النّائمة على صهوة الثّور. وإن اتّخذ يوبتر* حقّا شكل عجل ذي خوار، فلا يستبعد أن يختبئ وجه إنسان أو صورة إله في حماري." وبينما الفتاة مستغرقة في هذه الخواطر مخلّلة مناها بالزّفرات، وصلنا إلى مفترق طرق؛ فأمسكت بالخطام محاولة بإصرار توجيهي يمينا، ربّما لأنّ تلك هي الطّريق إلى بيت أبويها. وأنا لعلمي أنّ اللّصوص سلكوها من قبل لجلب ما تبقّى من غنائمهم، أمانع بعناد وأحتجّ في نفسي بصمت: "ماذا تفعلين أيّتها الفتاة الشّقيّة؟ وماذا تريدين؟ لِم تتعجّلين الشّخوص أمام أركوس*؟ ماذا تنوين أن تفعلي أيّتها الشّقيّة بأرجلي؟ إنّك لا تسعين فقط إلى حتفك، بل إلى هلاكي مثلك." هكذا لبثنا ننزع كلٌّ في اتّجاه، ونتنازع^ كما في قضيّة ترسيم حدود لملكيّة أرض، أو بالأحرى ممشى عند تقاسم تركة، وإذا بأصحابنا اللّصوص المحمّلين بغنائمهم يبغتوننا، ومن بعيد على ضوء القمر يتعرّفوننا، وبضحكة خبيثة يحيّوننا.

6-3. عدنا والعود أحمد

   ابتدرنا واحد من الفريق: "أين تقصدان بالسّرى بكلّ هذا العجل على هذه الطّريق؟ ألا تخافان الأشباح والأرواح الهائمة في وحشة هذا اللّيل العميق؟ وأنت أيّتها الآنسة الفضلى، لعلّك تتعجّلين لزيارة أبويك؟ لكن لا عليك، سنقدّم لك أنيسا لوحدتك، وسندلّك على المسلك المختصر إلى أسرتك." وأردف القول بالفعل ممسكا زمامي، فولّيت الدّبر، ولم يبخل عليّ بالضّربات المألوفة من عصا عجراء كان يحملها. عندها ذكرت وأنا أعود رغم أنفي إلى هلاك وشيك ألم حافري فأخذت أظلع مدلدلا رأسي. فانفجر صاحبي الّذي أنكصني على عقبي: "تبّا لك! ها قد عدتَ تترنّح وتتعثّر، وأرجلك النّخرة القادرة على الفرار لا تعرف المسير؛ قبل لحظات كنت لعمري تبزّ سرعةً بيغاسوس* المجنّح^." واستمرّ صاحبي اللّطيف يمازحني، ممسّدا بالعصا بدني، حتّى وصلنا إلى أطراف سياج بيتهم؛ فلاحت لنا تلك العجوز تتدلّى بحبل من على فرع سروة. أنزلوها فورا وألقوا بها على حرف الجُرُف مشنوقة بحبلها، ثمّ أسرعوا إلى الفتاة فشدّوا وثاقها، مفرّقين أطرافها، وانقضّوا كالوحوش على الطّعام المعدّ لهم من العجوز الشّقيّة بتفان تجاوز حدود المنيّة.

6-31 بغير وكس ولا اشتطاط

   شرعوا وهم يلتهمون الطّعام بشراهة يتشاورون حول عقابنا وثأرهم منّا؛ وكما يحدث في اجتماع مائج تنوّعت الأحكام، فمن قاض بإحراق الفتاة، إلى مشير برميها إلى وحوش الفلاة، وثالث دعا إلى صلبها، ورابع حكم بتقطيع أوصالها بدولاب التّعذيب. لكنّهم، على أيّة حال، أجمعوا كلّهم على إعدامها؛ إذّاك انبرى أحدهم، فهدّأ ضوضاءهم ثمّ أنشأ يقول بلهجة رزينة: × "لا يوافق نظامَنا الأساسيّ جماعيّا، ولا نزعةَ الرّحمة فينا فرديّا، ولا كذلك اعتدالي أنا شخصيّا أن تتعدّوا الحدّ المناسب للجريمة، فتقضوا على هذه الفتاة بالإعدام رميا للسّباع أو صلبا أو خرقا أو تمزيقا أو أيّة طريقة تعجّل بظلمة المنيّة. الرّأي عندي، إن شئتم اتّباع نصحي، أن توفّروا للفتاة حياتها، شرط أن تكون الحياة الّتي هي أهل لها؛ ولا يغيب قطعا عن ذاكرتكم ما قرّرتم قبل قليل بشأن ذاك الحمار الكسول دوما والأكول أكلا لمّاً، المتظاهر الآن بالزّور بالعجز والخؤور، وكان لفرار الفتاة قبل حين خير شريك وأفضل معين. لذا يحسن ذبحه غدا وتفريغ أحشائه، ودمق الفتاة الّتي آثرها علينا عارية باطنه والخياطة عليها. بحيث لايبرز منها سوى رأسها، ويُحشر في جوف الدّابّة باقي جسمها، ثمّ عرض الحمار محشوّا ومخيطا فوق صخرة مسنّنة وتركه للظى الشّمس المحرقة.

6-32 إنّ غداً لناظره قريب

   بهذا النّحو يلقيان معا كلّ العقوبات الّتي قضيتم بها: الحمارُ الموتَ الّذي يستحقّ منذ زمان؛ وهي نهش الوحوش حين تنخر الدّيدان أعضاءها، وحرق النّار حين توقد الشّمس بأوارها جوفها، وعذاب الصّلب حين تنوش الكلاب والعقبان أحشاءها. والآن عدّوا معي بقيّة الويلات والمثُلات: ستسكن حيّةً بطن جيفة، ويزكم منخريها فرثها النّتن، وتتحلّل من طول الطّوى، ولن تستطيع حتّى قتل نفسها بيديها الطّليقتين." لدى الاستماع إلى هذه الأقوال وافق اللّصوص بالإجماع، لا بأقدامهم^ بل بكلّ أجسامهم، على هذا الحكم الّذي التقطته بأذنيّ الكبيرتين، فأخذت أبكي- وهل كان لي سوى الدّمع؟- جثّتي الّتي إليها أؤول من الغد.