أبوليوس

 

الحمار الذّهبيّ

 

الكتاب الثّالث

 

حواش 

11

10

9

8

7

6

5

4

3

2

1

مقدّمة

 

3- الكتاب الثّالث

3-1 الصّباح الجديد

   ما لبثت أورورة* ذات الصّفائح الأرجوانيّة أن ارتفعت على جيادها في السّماء نافضة ذراعها المورّدة؛ فانتزعني اللّيل من راحتي الآمنة وسلّمني للنّهار. ألمّ بنفسي اضطراب وأنا أتذكّر جناية البارحة؛ فجلست على السّرير ثانيا رجليّ، شابكا أصابع يديّ ضاغطا بهما على ركبتيّ ورحت أذرف الدّموع، متمثّلا المحكمة والمقاضاة بل الحكم وحتّى الجلاّد. "أيقيَّض لي قاض رؤوف رحيم إلى حدّ الحكم ببراءتي وأنا مضرّج بنجيع ثلاث مجازر، ملطّخ بدم كلّ أولئك المواطنين؟ أهذه هي الرّحلة المجيدة الّتي بشّرني بها العرّاف ديوفانس بإصرار؟" × بينما أنا أندب حظّي متسائلا عن مصيري إذا بالباب الخارجيّ يُقرع بعنف وسط هرج ومرج.

3-2 إلى المحكمة

   في الحال فُتح البيت بعنف شديد، وامتلأتْ كلّ الأرجاء بقضاة وأعوانهم وخليط من الدّهماء؛ وعلى الفور ألقى القبض عليّ فائسان^ بأمر من القضاة وأخذا يجرّاني، وأنا بتعقّل ومطاوعة لا أبدي أيّة ممانعة. ما إن سرنا في الزّقاق حتّى انصبّ السّكّان في الطّريق العامّ، متجمهرين حولنا وتبعونا في ازدحام. ومع أنّي كنت أمشي حزينا مطرقا، أنظر إلى الأرض بل إلى العالم السّفليّ، لاحظت وأنا أرمق من طرف خفيّ أمرا في منتهى الغرابة. فبين تلك الآلاف من المواطنين المحيطين بي، لم يكن هناك أحد إلاّ وهو يتلوّى من الضّحك. وبعدما جابوا بي كلّ الميادين ولفّوا بي كلّ الزّوايا كما يطوّفون على السّاحات العامّة قرابين الفداء، تكفيرا عن الخطايا  ودرءا لما أنذرت به خوارق من شرّ البلايا، أحضروني أخيرا إلى ميدان القصبة أمام المحكمة. في الحال اعتلى القضاة المنصّة وجلسوا؛ وطلب المنادي من الجمهور الصّمت؛ فجأة طلب الجميع بصوت واحد أن تُجرى محاكمة بمثل تلك الأهمّيّة في المسرح، نظرا إلى كثافة الحشد المعرّض من فرط الاكتظاظ لخطر الحزق. فهرول الشّعب فورا إلى المدرّجات بفوضى واحتلّها بسرعة عجيبة كلّها. وغصّ بالزّحام حتّى المدخل وكلّ المنافذ، كثيرون متراصّون حول الأعمدة وآخرون متعلّقون بالتّماثيل وبعض تكدّسوا على الكوى والنّوافذ لا يُرى منهم سوى جزء، والكلّ مع ذلك لحرصهم على المشاهدة مستهينون بالأخطار على سلامتهم.

3-3 عريضة الادّعاء

   من مؤخّرة الرّكح هدر صوت المنادي يدعو المدّعي العامّ إلى الكلام؛ فنهض شيخ، وبينما مضت زجاجة تُفيض من الماء المسكوب فيها قطرة قطرة من خلال أنبوب مستدقّ تحمله مكان العنق لتحديد مدّة كلامه^، حيّى الشّعب وقال: "أيّها المواطنون الأفاضل، ليست قضيّة الحال بالأمر الهيّن، بل تتعلّق أساسا بأمن مدينتنا كلّها، وستصلح مستقبلا عبرة لمن يعتبر. لذا يتعيّن عليكم، فرديّا وجماعيّا وباعتبار الوظيفة السّامية المفوّضة إليكم أن تحرصوا على ألاّ يكون هذا السّفّاح الأثيم قد ارتكب مجزرته الوحشيّة دون أن يعاقَب. لا تحسبوني مدفوعا إلى الصّرامة بحوافز خاصّة إرضاء لغلّ شخصيّ؛ فأنا رئيس نوبة الحراسة اللّيليّة ولا إخال بوسع أيّ أن يطعن في يقظتي الحازمة إلى هذا اليوم. باختصار سأروي الواقع ذاته وما حصل البارحة بصدق وأمانة. في الهزيع الثّالث^ تقريبا، بينما كنت أقوم بدوريّتي متفحّصا من باب إلى باب كلّ شيء في المدينة بأكملها بمنتهى التّدقيق، × رأيت هذا الشّابّ المتوحّش ممتشقا سيفه ينشر الرّدى في غارة شعواء وثلاثة من ضحايا بطشه جُندلوا أمام قدميه محشرجين ومتشحّطين في دمائهم. اضطرب كما كان طبيعيّا، إذ أدرك فداحة جرمه تلقائيّا، وفرّ فورا منسلاّ تحت جنح الظّلام في بيت ظلّ مختفيا داخله اللّيل كلّه. لكنّي بفضل عناية الآلهة الّتي لا تسمح للمجرمين بالإفلات من العقاب، تدبّرت، بعدما انتظرت حتّى الصّباح على الباب، وقبل أن يهرب من بعض الطّرق المستترة، لأقتاده أمام قداسة محكمتكم الموقّرة. بين أيديكم إذن متّهم ملطّخ بجرائم قتل عديدة، متّهم ضُبط متلبّسا بالجرم المشهود، متّهم غريب؛ فأنزلوا على أجنبيّ بشدّة حكمكم على جريمة كنتم ستعاقبون عليها حتّى أحد مواطنيكم بصرامة."

3-4 الدّفاع

   قال متّهمي الفظيع ذلك ثمّ خرس صوته المريع؛ فطلب منّي المنادي في الحال أن أبدأ  إن كنت أودّ الرّدّ على تلكم الأقوال. لكنّي لم أكن أستطيع إذّاك سوى البكاء، لا نظرا وحقّ السّماء لعنف ذلك التّشهير بقدر ما هو بسبب تأنيب ضميري؛ أخيرا رددت بشجاعة ألهمنيها الآلهة: × "لا أجهل كم يصعب على متّهم بجرائم قتل، وقد عُرضت جثث ثلاثة مواطنين، وإن قال الحقّ واعترف بالوقائع تلقائيّا إقناع حشد كهذا ببراءته. لكن إن منحتْني رحمتُكم فرصة الإصغاء إليّ برهة، فسأثبت لكم بسهولة أنّي لا أواجه خطر الإعدام بوجه حقّ على إجرامي، بل بالخطإ نقمة عنيفة على فعل حصل صدفة، نتيجة غضب مبرّر من أمر منكر.

3-5 رواية المتّهم

   بينما كنت عائدا من العشاء في ساعة متأخّرة نوعا ما، وبي شيء من السّكر، وهو لا جرَم جُرم لن أنكره، رأيت أمام باب بيت مضيّفي- فأنا نازل عند مواطنكم الفاضل ميلون- بعض اللّصوص العتاة يحاولون الدّخول ويجدّون لخلع الباب بنسف مفصلتيه. وبعدما اقتلعوا المزلاج الّذي كان مثبَتا بإحكام، شرعوا يتداولون حول قتل سكّان البيت. انبرى أشدّهم بأسا وأضخمهم جثّة يحرّض الآخرين بهذه الأقوال: × "هيّا بنا يا شباب، نهجم بعزم الرّجال على النّيام وقوّة الأبطال؛ ليزُلْ من قلوبنا كلّ تردّد وكلّ تهيّب؛ لنسلّ سيوفنا ولْيجُب الموت أرجاء البيت. فأمّا النّائم فلننحرْ وأمّا من يحاول المقاومة فلنجزرْ؛ فإنّما ننسحب سالمين إن لم ندع بالبيت أحدا سالما." أعترف، أيّها المواطنون الأفاضل، أنّي، خوفا على مضيّفي وعلى نفسي، واعتبارا لواجب كلّ مواطن صالح، هجمت على أولئك اللّصوص الأرذلين بسيفي الّذي أصطحبه تحسّبا لأخطار كهذا لترهيبهم وتهريبهم. لكنّ أولئك الهمج المتوحّشين لم يفرّوا، ومع أنّهم رأوني شاهرا سيفي، قاوموا بجسارة.

3-6 مرافعة مقنعة

   اصطفّوا للمعركة؛ فهجم عليّ القائد عريف الآخرين بكلّ قواه؛ جذبني فورا بكلتا يديه من شعري، ولواني إلى الوراء مزمعا سحقي بحجر أوعز بإحضاره، لكنّي في الحين جندلته بيد واثقة؛ ثمّ سدّدت لآخر تعلّق بعنت برجليّ ضربة شقّت كتفيه؛ وأرديت الثّالث المندفع نحوي بدون تبصّر بطعنة في الصّدر. هكذا حفظت النّظام وحميت بيت مضيّفي والأمن العامّ؛ وكان ظنّي لا أن أنجو من العقاب فقط، بل أن أنال الثّناء الرّسميّ كذلك، أنا الّذي لم أُطلب للقضاء أبدا بأقلّ جنحة، بل كنت مقدّرا عند مواطنيّ دوما أوثر الاستقامة على كلّ المزايا. لا يمكنني حقّا أن أفهم لماذا أواجه الآن لانتقامي المشروع من أولئك اللّصوص الأشرار غضبا للحقّ. بينما لا يمكن لأيّ كان إثبات وجود أيّة عداوة خاصّة بيننا مسبقا، بل ولا حتّى معرفة لي بهم من قبل مطلقا، ولا أيّ غُنم قد يُظنّ أنّ رغبتي فيه دفعتني إلى مثل تلك الفعلة."

3-7 تأثير المرافعة غير المتوقّع

   قلت ذلك وعدت أذرف الدّموع، ومددت يدي مستدرّا رأفة الشّعب، مناشدا في ضراعة بائسة تارة هؤلاء وتارة هؤلاء باسم أغلى ما لديهم. ولمّا بدا لي أنّهم قد اهتزّوا شفقة، وتأثّروا رثاء لدموعي، أشهدت أعين الشّمس والعدالة*، وفوّضت أمري لعناية الآلهة. ورفعت بصري قليلا فرأيت الشّعب كلّه لا يتمالك نفسه من الضّحك، حتّى مضيّفي ووالدي الفاضل ميلون يتلوّى ليحبس ضحكة كبرى. إذّاك قلت لنفسي: "يا للوفاء ويا لنقاوة الضّمير! أنا أقتل من أجل سلامة مضيّفي وأُحضَر كمتّهم بجناية قد تكلّفني رقبتي، وهو لا يكفيه امتناعه عن منحي عزاء المساعدة، بل يضحك فوق ذلك ملء شدقيه من نكبتي."

3-8 النّطق بالحكم

   في تلك الأثناء هرعت إلى وسط المسرح امرأة باكية متّشحة بالسّواد، تحمل في حضنها صغيرا، وخلفها عجوز متخافقة الأطمار تبكي بحزن مثلها، وكلتاهما تلوّح بغصن زيتون. فوقفتا على جانبي الفراش حيث سُجّيت جثث القتلى، وقالتا باكيتين ملتدمتين: × "باسم التّراحم بين المواطنين وحقّ الإنسانيّة المشترك، ارحموا هؤلاء الفتية المغدورين ظلما، وقدّموا لثكلنا ووحدتنا العزاء بالثّأر لهم. أغيثوا على الأقلّ هذا الصّغير الّذي تُرك منذ نعومة أظفاره بدون مورد وقدّموا دم هذا السّفّاح كفّارة لقوانينكم والنّظام العامّ." ثمّ قام القاضي الأكبر سنّا وخاطب الشّعب بهذه الأقوال: "إنّ الجريمة المطلوب عقابها بحزم لا يستطيع الجاني نفسه إنكارها. لكن بقيت مسألة فرعيّة واحدة تشغلنا هي البحث عن مواطئيه في جرم بهذا الحجم. فمستبعد أن يكون شخص بمفرده قتل ثلاثة شبّان بمثل قوّتهم؛ لذا يجب كشف الحقيقة بالتّعذيب. فقد فرّ خفية غلامه الذي كان يرافقه ووصلت المسألة وضعا لا بدّ فيه من تعذيبه ليُقرّ على شركائه، ويُجتثّ من الأساس إرهاب هذه الفئة الباغية."

3-9 المقلب

   في الحال أحضروا وفق عادة اليونان النّار والدّولاب وشتّى أنواع السّياط والقضبان. وزاد حقًّا بل ضاعف حزَني ألاّ يُسمح لي على الأقلّ بالموت كامل البدن. لكنّ تلك العجوز الّتي أفسدت كلّ شيء بدموعها قالت: "أيّها المواطنون الأفاضل، قبل أن تسمّروا على الصّليب هذا المجرم قاتل بنيّ البائسين، ائذنوا بكشف جثث المغدورين، × ليذكي مرأى بهائهم وشبابهم جذوة الاستنكار المشروع أكثر وأكثر أمام وحشيّة جرمه الشّنيع." فهتف النّاس لهذه الأقوال، وأمرني القاضي في الحال بالكشف بيدي عن الجثث المطروحة على الفراش. وبأمر من القضاة لقسري أمام تمنّعي العنيد عن إعادة جرمي السّابق بكشفه من جديد، اجتذب فائسان عنوة يدي المقبوضة إلى جنبي حتّى كادوا يخلعونها ومدّوها فوق الجثث. فاستسلمت أخيرا مكرها لحكم الضّرورة، وعلى مضض أمطت اللّحاف لكشف الجثث. يا آلهة السّماء! ماذا أرى؟ أيّة أعجوبة هذه؟ أيّ منقلب مفاجئ من مقالب حظّي؟ كنت في عداد ممتلكات بروسربينة* ومماليك أركوس*، فإذا بي أتسمّر بغتة مشدوها حيال صورة مختلفة. لا يمكنني حقّا أن أفسّر سرّ المشهد الجديد بألفاظ مناسبة. إذ كانت جثث قتلاي ثلاث قِرب منفوخة مرقّشة بثقوب شتّى وفاغرة حسبما أذكر عن معركة البارحة في نفس المواضع حيث طعنت أولئك اللّصوص.

3-10 جبر الخواطر

   إذّاك انفجرت بحرّية تلك الضّحكة التي احتبسها البعض بمكر إلى حين وسرتْ في الشّعب كاللّهب: هؤلاء يقرقرون من فرط بهجتهم، والآخرون يشدّون بأيديهم على بطونهم لتخفيف ألمهم؛ ثمّ انصرف الجميع من المسرح في انشراح وملقين عليّ نظرة استملاح. أمّا أنا فحالما سحبت الغطاء تسمّرت كالحجر باردا كالجليد، لا أختلف في شيء عمّا في المسرح من التّماثيل والعواميد. ولم أطْفُ من العالم السّفليّ قبل أن يقترب منّي مضيّفي ميلون ويمدّ إليّ يده ويجرّني بقسر رفيق^، وأنا أتمنّع و يطفر دمعي مجدّدا ويرجّع شهيقي. وإذ لاحظ خلوّ الطّريق الّتي قادني عبر منعرجاتها إلى بيته، طفق يسلّيني بشتّى الأحاديث، وأنا مكروب بل وحتّى ذلك الوقت مخضوض. لكنّه لم يستطع بحال تخفيف غيظي الكظيم من تلك الإساءة في صميمي.

3-11 تكريم

   وإذا بالقضاة أنفسهم يدخلون البيت فجأة، وهم يحملون شاراتهم، فيهيبون بي محاولين تطييب خاطري: "لا نجهل أيّها السّيّد لوقيوس علوّ مقامك وكرم أرومتك؛ فقد طوى أرجاء مصرنا شرف أسرتك الشّهير^. وما لمضرّتك تعرّضتَ لما تشكو بشديد التّأثّر؛ فأجْل عن صدرك الهمّ وأزلْ عن نفسك الغمّ. فهذه الدّعابة الّتي نحييها عاما بعد عام بمشاركة كافّة المواطنين احتفالا بالإله ريسوس* الحميد تزدهر دوما بكلّ جديد مبتكر. ويرافق هذا الإله مبتدعَه وممثّلَه في كلّ مكان مسبغا عليه بركاته وألطافه؛ ولا يرضى أبدا أن تبخع نفسك أسفا وبسْرا، بل ليُطفحنّ محيّاك دوما بشاشة وبشْرا. هذا وقد قدّمت لك مدينتنا اعترافا بفضلك أمجادا ساطعة، فسجّلتك ضمن حُماتها وقرّرت إقامة تمثال لك من البرنز." فرددت على خطابهم: "سأكنّ لكِ يا زهرة مدائن تسّالية* ودرّتها اليتيمة عرفانا يوازي هذا الشّرف الرّفيع، وإن كنت أرى من الأفضل تخصيص التّماثيل والصّور لمن هم أجدر منّي وأعظم شأنا"^.

3-12 إلى الحمّام

   قلت ذلك بأدب، وبعد قليل ودّعت القضاة عند انصرافهم بلياقة طلق الأسارير ومحاولا قدر طاقتي أن أُظهر مزيدا من الابتهاج. في نفس اللّحظة دخل الخادم مهرولا وقال: "أمّك برّينة تطلبك وتنبّهك لاقتراب موعد المأدبة التي وعدتها البارحة في آخر السّهرة بحضورها." فرددتُ وقد دبّت فيّ قشعريرة من الخوف والنّفور من بيتها: "لكم أودّ يا خالة الامتثال لأوامرك لو أتيح لي أن أفعل دون إخلاف عهدي. فقد تدبّر مضيّفي ميلون لأشاركه عشاءه مقسما بعزّة ربّ هذا اليوم فلا هو يبرح بيته ولا هو يقبل أن أخرج؛ فلنؤجّل إلى مناسبة أخرى تعهّدي بحضور مأدبة اللّيلة." جذبني ميلون بيد حازمة قبل أن أنهي كلامي، وقادني إلى حمّام قريب بعدما أمر بإتباع لوازم الحمّام؛ فما فتئت أمشي ملتصقا بجانبه مستخفيا، تحاشيا لأعين النّاس وهربا من ضَحك المارّة الذي صنعت أنا نفسي. فمن خجلي لا أذكر كيف اغتسلت وتنشّفت، ولا كيف عدت إلى البيت؛ إذ بقيت ذاهلا شارد الذّهن وأنا مرمى عيون الجميع وغمزاتهم وإشاراتهم.

3-13 زيارة فوتيس

   تناولت بعجل عشاء ميلون الهزيل، ثمّ استرخصته في الذّهاب إلى فراشي، متعلّلا بصداع شديد سبّبته لي الدّموع الغزيرة، فحصلتُ على إذنه بسهولة وانصرفتُ؛ وأخذت، وأنا مستلق على سريري، أستعيد مكسوف الخاطر الأحداث بالتّفصيل. حتّى أتت حبيبتي فوتيس أخيرا، بعد إيواء سيّدتها إلى فراشها وقد تغيّرت كثيرا: لم تكن تتكلّم بمحيّاها الضّحوك ولهجتها الفكهة، بل بجدّ وتجهّم وقد علت جبينها الغضون. فاتحتني في تردّد ووجل: "أعترف من تلقاء نفسي أنّي أنا الّتي تسبّبت لك في ذلك الكدر." قالت ذلك وأخرجت من حضنها سيْرا، ثمّ واصلت وهي تمدّه إليّ: "أمسك أرجوك وانتقم من امرأة غادرة بل سلّط عليها أيّ عقاب أقسى؛ لكن لا تحسبني، أرجوك، دبّرت لك ذلك الحرج عمدا؛ حاشا للآلهة أن يمسّك بسببي أدنى أذى. بل أهريق دمي فداك إن رفّت عليك ضرّاء؛ فإنّما ارتدّ عليك لسوء حظّي ما أُمرت بفعله لغرض آخر."

3-14 أدب الألفة والألاّف

   استفاق إذّاك فضولي المعتاد ورددت متحرّقا إلى اكتشاف سرّ ما حصل: × "شاه السّير شرّ الأشياء وأسفهها ذاك الّذي تُعدّين لجَلدك. لألاشينّه تشريما وتفتيتا قبل أن يمسّ بشرتك البضّة الغضّة. لكن، بصدق، خبّريني أرجوك، أيّ ارتباك نجم عمّا فعلت فردّه وبالا عليّ؟ أقسم برأسك الغالي أنّي لا يمكن أن أصدّق أحدا، ولا حتّى أنتِ نفسكِ، إن أكّد لي أنّكِ فكّرتِ أبدا في إلحاق أيّة أذيّة بي. إنّ النّتيجة العرضيّة  غيرالمطابقة بل حتّى المضادّة للقصد لا تجرّم ذا النّوايا الطّيّبة"^. ما أنهيت كلامي حتّى انكفأتُ على عيني حبيبتي المخضلّتين الرّامشتين الذّاويتين صبابة أغمرهما بقبلاتي الحرّى وأنهل بنهم منهما.

3-15 أسرار بنفيلة

   قالت وقد استعادت بهجتها: "اسمح أوّلا أن أوصد باب الغرفة جيّدا مخافة أن أرتكب بتفلّت لساني النّزق ناكث العهد مخزية كبرى." قالت وعشّقت المزلاج بسكّته وأولجت في القفيز في نهايته، ثمّ عادت إليّ فطوّقتني بكلتا يديها وقالت بصوت خفيض بل كتيم تماما: "أخاف وأفرَق من كشف خفايا هذا البيت وإفشاء أسرار سيّدتي. لكنّي أشيم فيك وفي نهج حياتك مخايل الخير؛ فإنّك، فضلا عن كرم المنبت وتسامي النّهى، تعلم، أنت المطلَع على عديد الأسرار المقدّسة، واجب الكتمان المقدّسَ. لذا أرجوك أن تحفظ طيّ الكتمان ما أستودع محراب فؤادك الطّهور وأن تجزي سلامة طويّتي إذ أبوح لك به باستمساكك بسرّيّته. فحبّي لك هو الّذي يفرض عليّ مسارّتك بما أعلم بمفردي. ها أنت ستعرف أوضاع بيتنا وستطّلع على أسرار سيّدتي العجيبة، الّتي تُخضع بها أرواح الموتى، وتحوّل عن مساراتها النّجوم، وتُرضخ الآلهة، وتسخّر العناصر. وأنشط ما تكون في استخدام سلطان فنّها إذا رنت بوله إلى فتى بهيّ الشّكل، وهو ما يحدث كثيرا لعمري.

3-16 الشَّعر

   هي الآن مفتونة بشابّ بيوتيّ* رائع الحسن شغفها حبّا، وتوظّف بحماس كلّ قوى فنّها وحيله^ لاستمالته. في الأصيل سمعتها، بأذنيّ هاتين سمعتها تتوعّد الشّمس نفسها، لأنّها لم تسرع انحدارها في السّماء وتعجّل بالإفساح للّيل كي تمارس مكائد سحرها، بحجبها بضباب حالك وظلمات سرمديّة. وقد لاحظتْ أمس صدفةً، عند إيابها من الحمّام، ذلك الشّابّ جالسا في دكّان مزيّن، فأمرتني باختلاس قبضة من شعره الّذي اجتزّه المقراض وما زال ملقى على الأرض. وفيما أنا أجمعه بعناية وتخفّ، اكتشفني المزيّن، ولعلمه شيئا ما بما شُهر عنّا من تعاطي الأسحار أمسكني وقرّعني بفظاظة: × "ألا تنتهين أخيرا يا خسيسة عن اختلاسك المتكرّر لشعر من تنتقين من الشّبّان؟ إن لم تكفّي أخيرا عن هذا العمل الإجراميّ، فسأسلّمك بحزم إلى القضاة"؛ وأردف الفعل بالقول، داسّا يديه بين نهديّ للتّفتيش، فانتزع مغضَبا خصل الشّعر الّتي أخفيتها. تأثّرت ممّا حدث، وفكّرت في طباع سيّدتي الّتي اعتادت، من شدّة الغيظ لفشل كهذا، أن تضربني بقسوة؛ فأخذت أفكّر في الفرار لكنّي عدلتُ عنه في الحال لأنّك خطرتَ ببالي.

3-17 مستحضرات سحريّة

   لكن بعدما انصرفتُ من هناك حزينة خشية أن أعود صفر اليدين لاحظتُ شخصا يجزّ بجلم قِربا من جلد الماعز. ثمّ رأيتها مربوطة بإحكام ومنفوخة ومعلّقة، فالتقطت قبضات من شعرها الأشقر الملقى على الأرض والشّبيه بشعر ذلك الفتى، فحملتها إلى سيّدتي مخفية عنها الحقيقة. هكذا منذ بداية اللّيل، قبل انسحابك من المأدبة، صعدتْ سيّدتي بنفيلة بالشّعر الّذي جلبتُ لها وبها لهب وحرّ ومن الحبّ جنون مستمرّ، متسوّرة إلى سقيفة بجانب البيت المقابل، معرّضة للرّيح من كلّ صوب، مطلّة على الشّرق والجهات الأخرى سويّا، تعوّدت المكوث فيها خفية إذ جعلتْها مناسبة تماما لممارسة أفانين سحرها. فأقامت فيها بدءا، حسب إعداداتها المعتادة، مشغلها المشؤوم، الحاوي كلّ أصناف العقاقير، وصفائح تحمل طلاسم مستغلقة، وما تبقّى من حطام سفن منكوبة، × وأجزاء كثيرة معروضة من جثث بُكيتْ وأخرى دُفنتْ: هنا مناخر وأصابع وهناك دُسُر علقت بها جِذم من جثث مصاليب وهنالك دم قتلى محفوظ وجمجمة منهوشة انتُزعتْ من أنياب الوحوش غلابا.

3-18 حلّ اللّغز

   ها هي بعدما تلتْ تعاويذ على أحشاء لم تبارحها اختلاجة الأنفاس، تسكب عليها أشربة شتّى، من ماء نمر،  إلى حليب بقر، فماذيّ جبلٍ وبِتع عسلٍ. ثمّ تقدّم ذلك الشّعر مضفورا ومعقودا^، مع أنواع شتّى من البخور، لجُذى متأجّجة لتأكله النّار. في الحال، بقوّة السّحر القاهرة وجبروت القوى العمية المسخّرة، تستعير تلك القرب الّتي تطقطق جززها على الجمر مشويّة، روحا بشريّة. فتحسّ وتسمع وتمشي وتأتي حيث تقودها رائحة شواء رفاتها، وتحاول، بدلا من الفتى البيوتيّ*، الدّخول، فتهجم على بابنا. وإذا بك تصل فجأة، مخبولا بالخمور ومخدوعا بظلمة اللّيل الغرور، فتستلّ سيفك بعزم وتشهره كأياس* في هياجه المسعور. لكن بينما مزّق هو في جنونه قطعانا من أغنام حيّة، أزهقتَ أنت بشجاعة أكبر بكثير أنفاس ثلاث قرب منفوخة من جلد الماعز^. فعانقتُ إذّاك فيك يا بطلي، بعدما جندلت العدا بدون لطخة دم، لا باتر رقاب بل باقر قراب."

3-19 طلب غزِل

   ضحكتُ من فكاهة فوتيس ورددتُ ممازحا بدوري: "أستطيع إذن، منذ هذه اللّحظة، أن أعدّ هذا النّصر باكورة مآثري، نظير أحد أعمال هرقل* الإثني عشر. فإنّي أعدل بجثّة جريون* ثلاثيّة الجذوع أو قامة كربروس* ثلاثيّة الرّؤوس عددا مماثلا من القرب القتلى. لكن لأغفر لك طوعا وبطيب خاطر خطأك الّذي ألقاني في كُرب كبرى امنحيني ما أطلبك بأقصى مناي. أريني سيّدتك، وهي تعمل شيئا من علمها الخوارقيّ؛ بودّي أن أراها عند استحضار الآلهة، أو على الأقلّ عند مسخ نفسها، فإنّي أتّقد رغبة في الاطّلاع على السّحر عيانا. وإن كنتِ أنتِ نفسكِ لا تبدين لي حقّا قليلة أو عديمة الخبرة بهذه الأمور. أدرك ذلك وأحسّه بكلّ وضوح، إذ تمسكينني، أنا الّذي كنت في ما مضى أنكف عن أحضان النّساء، عبدا راضيا برقّي، لعينيك المزغللتين$ ووجنتيك المتورّدتين وشعرك الشّعشعانيّ وشفتيك المتلظّيتين ونهديك المتأرّجين. حتّى زهدت في بيتي وأهلي، وبتّ لا أوثر شيئا على ليلتي معك."

3-20 الوعد

   أجابت: "كم أودّ يا لوقيوس أن أمنحك ما تحبّ؛ لكنّها، زيادة على جفاء طباعها، اعتادت الاختلاء بمفردها، بمعزل عن الجميع، لمزاولة أنشطتها السّرّيّة. غير أنّي سأقدّم مطلبك على خوفي من الخطر، وسأجتهد لتنفيذه، متحيّنة فرصة مواتية؛ لكن، كما قلتُ في البدء، أعط من جهتك هذا الأمر الخطير الأمانة والكتمان." هكذا بقينا نتسامر، إلى أن أيقظت الصّبوة المتبادلة الشّوق في روحينا وجسدينا معا. فنضونا كلّ ثيابنا وأطلقنا عاريين أجردين جماح الهوى المتلظّي، حتّى منّت فوتيس عليّ وقد أخذ منّي الإعياء، بالحلوان المرتجى، من جودها الفتيّ المستديم؛ ثمّ سرتْ في عيوننا الذّاوية من السّهر سِنة من النّوم أخذتنا إلى سراة النّهار.

3-21 تحوّل بنفيلة

   بعدما قضينا بضع ليال نستنزل اللّذّات بهذا النّحو، هرعت إليّ فوتيس يوما منفعلة والاضطراب باد عليها، فأخبرتني أنّ سيّدتها عازمة في اللّيلة التّالية، لأنّ وسائلها الأخرى لم تقدّم شيئا في شأن حبّها، على اتّخاذ ريش والتّحوّل إلى طير لتطير إلى حِبّها. وعليّ إذن أن أعتد لنفسي مرصدا آمنا لرؤية هذا المشهد الفريد. وعند حلول اللّيل، قادتني بنفسها خلسة إلى مقصورة السّقيفة وأمرتني بمراقبة ما يجري من شقّ بالباب. ما لبثت بنفيلة أن تجرّدت من كلّ ملابسها وفتحت سفطا عندها سحبت منه عدّة علب نزعت سدادة إحداها، فأخرجت منها على مرّات مرهما دهنت به كفّيها طويلا ثمّ عركت كثيرا كلّ جسمها من أخمص قدميها إلى قمّة رأسها، وأسرّت للمصباح بكلام كثير؛ ثمّ انتفضت فجأة، وهزّت أطرافَها رجفاتٌ متتابعة. فمرنت وماعت ورختْ، ونبت عليها زغب ناعم، ثمّ نما ريش أخشن، وتصلّب الأنف متقوّسا، وتيبّست الأظافر معقوقفة. صارت بنفيلة بومة! فنعبت نعيبا عاليا ثمّ نطّت من على الأرض عدّة نطّات لاختبار طاقتها وبعد قليل طارت مرتفعة إلى أعالي الجوّ باسطة جناحيها.

3-22 لوقيوس يريد تقليد بنفيلة

   لقد مسخت حقًّا نفسها طيرا وبمحض إرادتها؛ بينما تسمّرتُ أنا الّذي لم يفتنّي أيّ سحر مشدوها بما يجري أمام عينيّ، بل كنت أشبه إلى أيّ شيء منّي إلى لوقيوس. كنت مصعوقا غير واع بما حولي، كمن به مسّ، غائبا، مفتّحةً عيناي نائما؛ فأخذت أفرك جفنيّ وأعيد لأتأكّد أنّي في حالة اليقظة. أخيرا عدتُ إلى الوعي بما حولي، فأمسكتُ يد فوتيس وأدنيتُها على عينيّ وقلتُ: × "اسمحي، أرجوك، ما دامت الفرصة تدعوني، بالاستفادة من ثمار مودّتك العظيمة والرّائعة، وبإعطائي شيئا من ذلك الدّهان، بحياة نهديك ذينك يا حلوتي؛ واضمني، بهذه المنّة الّتي لا تقدّر بثمن، أن أظلّ عبدك إلى الأبد، واجعليني ألازمك كيوبيدا* مرفرفا حول فينوسي*." ردّت: "ماذا تقول ويحك، يا ثعلبان ويا زير النّسوان! أتدفعني إلى إعمال فأسي في رجليّ بنفسي؟ بالكاد أحتفظ به وهو أعزل من ذئبات^ تسّالية* فأين ترى سأبحث عنه إن استحال طيرا، ومتى سأراه؟"

3-23 ويطمئن فوتيس

   أجبت: "معاذ الآلهة أن أرتكب مثل هذا الجرم النّكر، أن أمتنع، حتّى بعدما أحلّق عاليا في السّماء كالنّسر، رسولا أمينا ليوبتر* الأعظم أو حاملا لمجنّه بادي البشْر، عن النّزول أخيرا مرفرفا إلى وكري. أقسم بعقصة شعرك الحلوة الّتي سبيتِ روحي بها ألّن أوثر على فوتيسي ما حييتُ امرأة غيرها. ولقد خامرتني بالمناسبة خاطرة: أنّ عليّ بعدما أدّهن وأتقمّص هيئة الطّير أن أتجنّب كلّ دار؛ فلعمرك ما أظرف وما أبهى البوم عشيقا تقضي الغواني منه وطرا. ألسنا نحرص على إمساك هذه الطّيور اللّيليّة كلّما دخلت أحد البيوت، وتسميرها على الباب، لتفتدي أسرتنا بعذابها من الخطر الّذي يهدّدها به طيرانها المشؤوم؟ لكن، كدت أُغفل سؤالك عمّا أقول أو أفعل لأخلع ذلك الرّيش وأعود لوقيوس من جديد." أجابت: "لا خوف عليك في هذا الباب، فقد علّمتني سيّدتي بالتّفصيل ما يعيد إلى الهيئة البشريّة تلك الصّور المسيخة. لا تظنّها فعلت ذلك طيبةً منها، وإنّما ليمكنني ردّها بالعقّار النّاجع سيرتها الأولى. انظر بأيّة عشيبات تافهة مهينة يؤمَّن أمر بهذه الخطورة: قليل من الشّبت مع أوراق من الغار ممزوج في ماء نمير، يعطى مغتسلا وشرابا."

3-24 تحوّل لوقيوس

   أكّدتْ لي ذلك مرارا، وتسلّلت وهي في غاية الاضطراب داخل الغرفة وأخرجت علبة من الصّندوق. فاحتضنتُها وقبّلتُها أوّلا داعيا أن تبارك طيراني، وبسرعة خلعتُ كلّ ملابسي ثمّ غمستُ يدي بلهفة، فاغترفت منها كمّيّة وافرة من الدّهان دلكت بها كلّ أعضائي. ثمّ أخذت أرفرف بذراعيّ كالطّير في محاولات متتابعة: لكن لا ريش ولا زغب حتّى. بالعكس اخشوشن شعر بدني تماما إلى سبائب، وتيبّست بشرتي الرّقيقة إلى جلد غليظ وفي أطراف أكفّي اتّحدت كلّ الأصابع في حوافر ونبت لي في العصعص ذنَب كبير. ها أنا الآن بوجه ضخم وفم عريض وخيشومين فاغرين ومشفرين متهدّلين وأذنين مسبسبتين مع نماء مفرط. ولا أرى لي من عزاء على هذا التّحوّل التّعيس سوى نموّ بعض أعضائي، وإن بتّ الآن عاجزا عن احتضان فوتيس الحبيبة.

3-25 الدّواء في متناول...الفم

   أخذت أقلّب البصر ولا وسيلة للخلاص، في كلّ أعضاء بدني، فلا أراني طيرا بل حمارا^، فأهمّ بالشّكوى ممّا فعلت فوتيس بي. لكنّي سُلبت الحركة والصّوت البشريّين، فما أستطيع سوى مطّ شفتي والرّنوّ إليها بعينين دامعتين، موجّها إليها شكاتي الخرساء. لمّا شاهدتني على تلك الصّورة لطمت وجهها وهتفت: "سحقا لي من شقيّة! أضلّني تعجّلي واضطرابي، وخدعني تشابه العلبتين. لكن، لحسن الحظّ يوجد علاج لتدارك هذا التّحوّل بسهولة. ما عليك إلاّ أن تمضغ شيئا من الورد لتخرج من صورة الحمار وتستردّ فورا صورتك الإنسانيّة، فتعود لوقيوس حبيبي. ليتني أحضرت هذا المساء كعادتنا بعض أشرطة من الورد! ما كنت إذن لتنتظر ليلة واحدة! لكن، لا عليك، فأوّل مطلع النّهار أحضر لك الدّواء."

3-26 بداية طيّبة

   هكذا مضت في تذمّرها؛ أمّا أنا فاحتفظت، رغم مسخي حمارا وتحوّلي من لوقيوس إلى دابّة بكماء، بالإدراك البشريّ. فكّرت طويلا، متسائلا إن كان أحرى بي^ أن أنهال على تلك المجرمة رفسا وعضّا حتّى أقتلها. لكنّ رأيا أصوب جعلني أعدل عن هذا المشروع المتهوّر، هو خشيتي أن أزيل إن عاقبتُ فوتيس بالموت كلّ ما يسعفني بالخلاص^. فدلدلت وقلقلت رأسي وكظمت غيظي من هواني المؤقّت راضخا للظّرف العصيب؛ وذهبت إلى جانب راحلتي، جوادي الطيّب الوفيّ، في الإسطبل حيث وجدت كذلك حمارا آخر آويا هناك^، لميلون، مضيّفي إلى عهد قريب. كنت أخمّن أنّ حصاني، إن كان للدّوابّ البكماء عهد فطريّ مضمر، سيقدّم لي، بدافع الشّفقة والعرفان، القِرى، مأكلا ومنزلا. لكن، وايوبتر* المضياف! ويا ربّة الوفاء* المعتزلة عن عالم البشر! لقد تآمر عليّ الاثنان، زاملتي الوفيّة مع ذلك العيْر، مقرّبين رأسيهما، واتّفقا على إيذائي على الفور. ولخوفهما لا شكّ على علفهما، حالما رأياني أدنو من مذودهما، خفّضا آذانهما مغضبيْن، وأتبعا ذلك برفسات نحسات. هكذا دُحرت عن الشّعير الّذي وضعته مساء بيديّ لذاك الخادم الشّكور!

3-27 تثنية الاجتراع

   لم يسعني إزاء معاملتي بذلك النّحو ونبذي وإفرادي سوى الانزواء في ركن من الإسطبل؛ وبينما أنا أفكّر في سفاهة زميليّ، وفي الانتقام من ذلك الحصان الجحود، غداً لمّا أعود، بفضل نوْر الورود، لوقيوس من جديد، × رأيت على المنتصف تقريبا من العمود المركزيّ الذي يحمل سقف الإسطبل تمثالا للإلهة إيبونة* منتصبا على منصّته، زُيّن بتفنّن بأكاليل ورد جنيّ بالتّحقيق. راودني الأمل وأنا أتميّز وسيلة خلاصي، فمددت جاهدا قدر طاقتي قائمتيّ الأماميّتين، وانتصبت بقوّة ممطّطا عنقي وممغّطا مشفريّ إلى أقصى حدّ، واشرأببت بكلّ جهدي لالتقاف الأكاليل. لكن لنكد حظّي رآني فجأة وأنا أحاول ذلك خادمي الّذي اعتدتُ أن أكِل له تعهّد حصاني؛ فنهض مستنكرا وصاح: × "حتّام نتحمّل هذا البرذون المتحرّش السّاعةَ بعلف الدّوابّ والآن بتماثيل الآلهة؟ × لأورثنّ مدنّس الأقداس هذا عرجا وعاهة مستديمة"؛ والتفت فورا يبحث عن أداة لضربي، فعثر على حزمة حطب وُضعت بالصّدفة هناك. فانتقى أغلظ ما فيها، شطَبة فلعاء كثّاء، ولم يكفّ عن ضربي حتّى سمع الباب يُرَجّ في قرقعة عنيفة وسط صخب شديد، والجيران يلغطون منبّهين إلى اللّصوص؛ ففرّ فزعا.

3-28 ثمّ ثالثة الأثافيّ

   ما هي إلاّ لحظة حتّى فُتح الباب بقوّة، واحتلّت زمرة من اللّصوص كلّ النّواحي؛ فطوّقت مجموعة مسلَّحة كلّ أقسام البيت، وتصدّت بضراوة للمدد الّذي هبّ للنّجدة من كلّ صوب حركة الأعداء المحمومة. كانوا مجهّزين بسيوف ومشاعل أضاؤوا بها الدّجى فبرق كضوء الشّمس سنا الشُّعل وفرند السّيوف. ها هم يهبّون إلى مخزن مقام وسط الدّار، مغلق وموصد بأمتن الرّتج، يغصّ بكنوز ميلون، فيميلون عليه فيفلقونه بفؤوسهم الصّوارم. ثمّ، بعدما يهشّمون أقفاله، يخرجون كلّ الثّروات، فيحزمونها بعجلة في رزم يتوزّعونها. لكنّ كمّية الأحمال ربت على عدد الحاملين؛ فاضطرّوا، وهم من وفرة الثّروات المفرطة في أشدّ حرج، إلى إخراجنا نحن الحمارين وحصاني من الإسطبل. فحمّلونا رزما ثقالا إلى أقصى طاقة ممكنة، وأخرجونا متوعّدين بالعصيّ من البيت الذي بات خاليا، تاركين أحدهم ليراقب ويبلّغهم عن مجرى التّحقيق في الجريمة، وقادونا على شعاب جبليّة منعزلة موجفين علينا من هراواتهم بزخّات متتالية.

3-29 واقيصراه!

  فمن ثقل الحمولة ووعورة انحناء الجبل وطول الطّريق أيضا صرت لا أختلف عن الميّت في شيء؛ وخطر ببالي، بتأخير لا محالة لكن بجدّ^، أن ألجأ إلى السّلطات طالبا نجدتها فأخلّص نفسي من تلك المتاعب مستغيثا باسم الإمبراطور المبجّل^. حاولتُ عند مرورنا بقرية حافلة بالسّكّان مشهورة بسوقها، وقد طلع النّهار، أن أرفع عقيرتي، بين حشود الأهالي اليونان، نادبا بلسان البلاد اسم قيصر المعظّم. فلهجت ب"وا" فصيحة وصحيحة، لكنّي عجزت عن نطق اسم قيصر المتبقّي. فانهال اللّصوص مستهجنين صوتي النّكر النّاشز على جلدي المنكود من كلّ صوب فتركوه لا يصلح بعد حتّى غربالا؛ لكنّ يوبتر* هيّأ لي أخيرا خلاصا لم أكن أحلم به. فقد لمحت، أثناء مرورنا بعدد من الضّياع والمنازل الفخمة، حديقة غنّاء رائقة، أينعت فيها، بين أعشاب غضيرة نضيرة أخرى، ورود أبكار، تتلألأ بندى الصّباح. اقتربت منها مرتعشا من الشّهوة ومنتعشا بأمل الخلاص، يستخفّني الفرح. وبدأت أمدّ شفتيّ المرتعشتين لتناولها حين عنّ لي رأي أسلم عقبى. فلو ظهرتُ بعد سلخ صورة الحمار لوقيوس مجدّدا، لوجدت على أيدي اللّصوص هلاكا مؤكّدا، سواء لارتيابهم بممارستي السّحر، أو لاشتباههم في نيّتي الوشاية بهم. أمسكت عن الورود إذّاك عن اضطرار، متحمّلا محنتي الحاضرة باصطبار، ورحت ألوك الكلأ كدأب كلّ حمار.