أبوليوس
الحمار الذّهبيّ
الكتاب الأوّل
|
|||||||||||||||
1-
الكتاب الاول 1-1 تمهيد
ها أنا سأجمع
لك في هذا الخطاب
المؤلّف على النّمط
الميليتيّ^ قصصا
متنوّعة وسأشنّف
أذنيك المجاملتين
بهمس لطيف إن لَم
تأنف النظر إلى
هذه الطَرائف
الّتي خطّتها
على ورق البرديّ
المصريّ حذاذة
يراع النّيل. فتشاهد
معجَبا تقلّب
أحوال البشر وهيئاتهم:
تتغيّر ثم ترتدّ
فتعود كما كانت.
أستهلّ مجيبا
ببضع كلمات عن
سؤالك من أنا: أنا
سليل أسرة عريقة
استوطنت تلّ هيمتّوس*
الأتّيكيّ* وخليج
أفورية* ومنطقة
التينار* الإسبرطيّة،
وهي ربوع طيّبة
كريمة أسّس أمجادها
الخالدة بنوها
الأكرمون. هنالك
تعلّمت منذ فجر
الطّفولة اللّسان
الأتّيكيّ؛ ثمّ
اغتربت في مدينة
اللاّتين حيث
عكفت على دراسة
لغة الرّومان
القحّة بجهد جهيد
وبدون معلّم يقود
خطاي. لذا أستميحك
معذرة إن أسأت
لقلّة خبرتي التّحدّث
بهذه اللّغة الأجنبيّة
الغريبة عنّي^
. وتغيير اللّغة
في حدّ ذاته يطابق
منهج الفنّ البهلوانيّ
الّذي نحن بصدده.
ها نحن نبدأ قصّة
من الطّراز اليونانيّ؛
فتنبّه أيّها
القارئ، وستستمتع^.
1-2
لقاء على طريق
هيباتة
كنت
أقصد، لقضاء حاجة،
تسّالية*، فإليها
تنتمي أسرة أمّي
الّتي شاد أسسها
أفلوطرخس* الشّهير
وابن أخيه الفيلسوف
سكستوس* صانعا
مجدنا. بعدما اجتزت
جبالا شاهقة وسهولا
منبسطة ومراعي
نديّة وحقولا
مدرة، أركب حصانا
محلّيّا ناصع
البياض، رأيته
قد نال منه الإعياء.
ولأزيل كذلك عنّي
كلل الجلوس، نزلت
على قدميّ لأتمشّى
وأتنشّط، فنشّفت
عرق حصاني ماسحا
جبينه بعناية،
وربّتّ برفق على
أذنيه، ثمّ نزعت
لجامه، وقدته
الهوينى ليستريح
من وعثاء السّفر
ويطلق ما احتبس
لديه من الخضام
الطّبيعيّ المألوف.
وبينما راح حصاني
يقتطف غداءه،
مادًا رأسه على
جانب الطّريق
عبر الحقول، وجدت
نفسي ثالث رفيقي
سفر كانا بالصّدفة
يسبقاني بمسافة
قصيرة. أنصتّ بفضول
إلى حديثهما فإذا
أحدهما يقول ضاحكا:
"كفى يا صاح من
هذه الأكاذيب
السّخيفة الأكبر
من أن تصدَّق".
ما إن سمعت ذلك
حتّى أثار ظمئي
إلى الجديد؛ فقلت:
"عفوا يا صاحبَيِ
الدّرب! هلاّ أشركتماني
في حديثكما! لستُ
فضوليّا وإنّما
أودّ معرفة ما
تخوضان فيه، كلّه
أو أكبر قدر ممكن
منه، عسى أن تخفّف
طرافة قصصكما
الشّيّقة وعورة
التّلّ الّذي
شرعنا في ارتقائه."
1-3 نقاش
حول عجائب السّحر
غير أنّ
المتكلّم الأوّل
استأنف: "ما هذه
التّرّهات، لعمري،
بأصحّ من الادّعاء
بأنّ بمقدور التّعاويذ
السّحريّة أن
تقلب مجرى السّيول
الدّافقة، أو
تمسك البحر ساكنا،
أو تكتم أنفاس
الرّياح، أو توقف
دوران الشّمس،
أو تقشد زبد القمر#،
أو تقتلع النّجوم
أو تلغي النّهار
وتجعل اللّيل
سرمدا."
فتشجّعت وتدخّلت
قائلا: "واصل أيّها
الرّاوي حكايتك،
أرجوك؛ ولا يمنعْك
غيظ ولا أنفة!"
وللآخر: "أمّا
أنت، فربّما رفضت
أخبارا صحيحة
صامًّا أذنيك
مقرّا في العناد
فؤادك. إنّك لعمري
قليل الدّراية
بتلك الأمور الّتي
تعدّها أباطيل
بناء على أفكار
مسبقة خاطئة،
لأنّها تبدو جديدة
على سمعك أو طارفة
على بصرك أو صعبة
على فهمك وفوق
متناول إدراكك.
ولو تفحّصتها
بمزيد من التّدقيق
لوجدتها جديرة
بالثّقة نظريّا
سهلة التّحقيق
عمليّا. 1-4 مثال ألعاب المشعوذين أنا مثلا
كنت أتعشّى إحدى
الأماسيّ في جماعة
قرص شعير وجبن
فأردت من باب المراء
التهام لقمة أكبر
ممّا اعتدت شيئا
ما؛ فكدت أموت
مختنقا بعدما
التصقت بحلقي
اللّقمة الدّبقة
وسدّت نفَسي. مع
ذلك رأيت مؤخّرا
قبيل الحادثة
بعينيّ هاتين،
في أثينة أمام
رواق البقيل* لاعبا
مشعوذا يبتلع
سيف خيّالة عريضا
لهذما من شفرته
الحذمة. ثم ما لبث،
مقابل بضع دوينقات،
أن أغمد في أحشائه
حربة صيد من الجهة
الفتّاكة. وإن
هي إلاّ لحظة حتّى
برز، على طرف قضيب
الرّمح الّتي
انغرزت في بطنه
قناتها لتخرج
من قذاله، صبيّ
غضّ الجمال يؤدّي
رقصة رشيقة غنجاء،
متلوّيا في انعطاف
وارتخاء، مثيرا
إعجاب كلّ الحاضرين.
كأنّه في تثنّيه
تلك الحيّة المباركة
الملتفّة في انسياب
حول صولجان إله
الطّبّ^ المشذوب.
لكن دعنا من ذلك
وواصل القصّة
الّتي بدأتها،
أرجوك؛ سأصغي
إليك وحدي مصدّقا
نيابة عنه، وسأشركك
في غدائي عند أوّل
حانة نتوقّف فيها؛
أقترح عليك هذه
الصّفقة." 1-5 قصّة أرسطومانس ردّ الرّجل:
"أقبل بالتّأكيد
ما عرضت بسرور
وطيب خاطر^؛ لذا
سأعيد عليك ما
بدأت؛ لكن سأقسم
لك أوّلا بهذه
الشّمس الإلهيّة
المطّلعة على
كلّ الكائنات
ألاّ أذكر سوى
ما ثبت عندي يقينا.
ولن يساوركما
فيه شكّ بعد وصولكما
إلى أقرب مدينة
في تسّالية*، فهناك تتناقل
ألسنة النّاس
تلك الوقائع الّتي
تمّت بمرأى الجميع.
لكن لتعلما أوّلا
من أيّ بلاد أنا
ومن أكون، أقول:
أنا من إيجيون*،
أمّا عن المهنة
الّتي أعيش منها،
فاعلما أنّي أذرع
تسّالية وإيتولية*
وبويتية* في كلّ
صوب للاتّجار
بالعسل والجبن
وما شابههما من
السّلع الخاصّة
بالحانات. لذا
لمّا علمت بوجود
جبن طازج زكيّ
المذاق معروض
للبيع بسعر مغر في هيباتة*،
أهمّ مدن تسّالية*
قاطبة، أسرعت
فورا لشرائه كلّه.
لكن، وكما يحدث
عادة، خيّب انطلاقي
بالرّجل اليسرى
أملَ الرّبح المرجوَّ،
فقد اشترى كلّ
المعروض دفعة
واحدة في اليوم السّابق
تاجر كبير يدعى
لوبوس*، لذا توجّهت
عند حلول المساء
إلى الحمّام منهكا
من عجلتي الّتي
ضاعت سدى. 1-6 لقاء مفاجئ
وإذا
بي أشاهد صديقي
سقراطَ* جالسا
على الأرض، ملتحفا
رداء ممزّقا لا
يكاد يستره، وقد
غيّر ملامحه الهزال
حتّى صار يشبه
أولئك البائسين
الّذين يدفعهم
نكد الحظّ إلى
التّسوّل في السّاحات
العامّة. اقتربت
منه وقد داخلتني
بشأنه الشّكوك،
رغم معرفتي الجيّدة
به وعلاقتنا الحميمة،
وقلت: " عجبا، ما
خطبك يا عزيزي
سقراط؟ ماذا تفعل
هنا؟ وأيّ خزي
هذه الّذي أرى؟
في بيتك بكاك وناداك
النّداء الأخير
الأهلون منذ مدّة
وعيّن قاضي النّاحية^
كفلاء لأبنائك.
وزوجتك الّتي
أدّت لك الطّقوس
وأذواها الحداد
الطّويل وحذلت
عيناها، يُكرهها
أبواها اليوم
على التّعزّي
عن كآبة بيتك بأفراح
زواج جديد، بينما
أراك هنا، يا لعارنا،
شبحا عائدا من
غياهب العالم
السّفليّ*." أجاب:
" أخي أرسطومان*
لا إخالك تجهل
تقلّبات الحظّ
الزّحلاقة وتبدّل
أحواله وتناوب
صروفه " وغطّى
بردائه الخلق
وجهه المحمرّ
من الخجل وهو يقول
ذلك، بحيث عرّى
جسمه ما بين السّرّة
والخاصرة. فلم
أطق مشهد بؤسه
الممضّ ومددت
إليه يدي محاولا
إيقافه. 1-7 قصّة
سقراط لكنّه لبث
كما كان وستر وجهه
قائلا :"كلاّ كلاّ،
ذر الحظّ^ يسعد
أطول بنصب النّصر
الّذي أقام لنفسه."
أخيرا نجحت في
حمله على اتّباعي،
وفي نفس الوقت
نضوت أحد شقّي
ردائي وسارعت
أكسوه به أو أستر
عريه، لا أدري
ما الأصحّ، وحملته
فورا إلى الحمّام،
فطفقت أدلّكه
وأغسله، مسخّرا
كل طاقاتي لخدمته،
حتّى أزلت عنه
طبقة سميكة من
الأوساخ. بعدما
وظّبته جيّدا،
أخذته إلى فندق،
مسندا جسمه المكدود
بمشقّة
لتعبي أنا نفسي؛
فأرحته على فراش،
وأشبعته من الطّعام
وأنعشته بالشّراب،
وسلّيته بطريف
الفكاهات. حتّى
انفتحت شاهيّته
للحديث والضّحك،
واستخفّه ظريف
الهزل، واستثاره
لطيف المزاح. لكنّه
ما لبث أن أخرج
من أعماق صدره
زفرة حارّة وضرب
بيمينه بشدّة
على جبينه وقال:
"يا لبؤسي، أنا
الّذي كنت أَنشُد
متعة الفرجة على
عرض مصارعة تناقلت
خبره ألسنة النّاس.
كما تعلم ذهبت
إلى مقدونية* للاتّجار،
وعدت مثريا بعد
التّفرّغ لأعمالي
بها عشرة أشهر.
وقبل وصولي إلى
لاريسة* بقليل،
بينما كنت أقصد
عبر طريق مختصرة
ذلك العرض، هاجمني
في شعب عميق منعزل
لصوص عتاة، ففررت
بجلدي مجرَّدا
من كلّ أموالي.
نزلت، وأنا على
تلك الحال في حانة
لامرأة تدعى مِروة*،
مسنّة لكنّها
احتفظت بظُرفها،
فذكرت لها أسباب
حالتي وأخبار
رحلتي الطّويلة
وعودتي المنكودة
وحادثة السّلب
المؤسفة. فطفقت
تعاملني بمروءة،
مقدّمة لي طعاما
مريئا ومجّانيّا^،
ثمّ لم تلبث وقد
أثارتها نار الشّهوة
أن قاسمتني مضجعها.
فلم يكن، يا لبؤسي،
سوى ذاك اللّقاء
الوحيد لأقع في
عِشرة تلك العجوز
الوبيئة. واضطررت
إلى التّنازل
لها عن كلّ ما لديّ،
حتّى الملابس
الّتي تركها لي
أولئك اللّصوص
الرّحماء لستر
جسمي، وكذلك الدّوينقات
الّتي كنت أكسبها
من العتالة بفضل
ما بقي من حيويّتي،
إلى أن أوصلتني
تلك الزّوجة العروب^
وحظّي السّيّء
إلى الحالة الّتي
رأيتني عليها
قبل قليل." 1-8 ساحرة عليمة قلت: "إنّك
جدير لعمري بمعاناة
أقصى الأنكال،
إن كان يوجد حقّا
أقصى ممّا ذكرتَ،
إذ آثرت على بيتك
وبنيك ملاذّ الشّهوة
ومومسا مترهّلة."
ردّ صاحبي، واضعا
سبّابته على فمه،
ومتسمّرا في ذهول:
"سكوتا، سكوتا"،
وبعد أن تلفّت
حواليه ليتأكّد
من إمكانيّة التّحدّث
بأمان، تابع:
"حسبك! على نفسك
تجني بفلتة لسانك
اللّجوج في حقّ
امرأة تملك قوى
خارقة." هتفت:
"ماذا تقول، ويحك!
أيّ امرأة هي،
ملكة الفنادق
الجبّارة الّتي
ذكرت؟" أجاب:
"ساحرة وعرّافة
قادرة على إنزال
السّماء ورفع
الأرض، على تجميد
الينابيع وتذويب
الجبال، على تصعيد
الأشباح وتنزيل
الآلهة، على إطفاء
النّجوم وإضاءة
سُدف الترتار*."
قلت: "أرجوك، نحّ
ستار التّمثيل،
واطو هذا السّجف
المسرحيّ وأفصح
لي بالكلام العاديّ."
ردّ: "أتودّ سماع
هذا المثال أم
ذاك، بل عديد كراماتها؟
إنّ إضرام هواها،
لا في سكّان هذه
النّواحي فقط،
بل والهنود والأحباش
بفريقيهم وحتّى
سكّان أقاصي الأرض
غيض من فيض علمها
وألعاب صبيان
عندها: إليك ما
صنعتْ على مرأى
من عدّة شهود. 1-9 أمثلة
من سحر مروة بكلمة واحدة
مسخت عاشقا هجرها
وتعلّق بسواها
قندسا. لأنّ هذا
الحيوان يلجأ،
خشية الوقوع في
قبضة مطارديه
إلى بتر أنثييه،
فأرادتْ أن يحصل
للرّجل نفس الأذى
جزاء عدوله عنها
إلى سواها. كذلك
حوّلت جارا لها
خمّارا إلى ضفدع،
لأنّه منافس لها،
واليوم يدعو هذا
الشّيخ وهو يسبح
في زقٍّ من خمره،
متخبّطا في الثّفالة،
روّاد حانته القدامى
إلى خدماته في
نقيق أجشّ^. وشخص
آخر محام رافع
ضدّها مسخته كبشا،
واليوم يصول ذلك
الكبش في المحاكم.
كذلك حكمت على
زوجة عشيقها الحبلى
الّتي شتمتها
بأن تظلّ حاملا
إلى الأبد بإغلاق
رحمها وإرقاد
جنينها. والمسكينة
اليوم مثقَل منذ
ثمانية أعوام،
كما يعدّ لها الجميع،
وقد مغّطها حِملها
كأنّها ستضع فيلا.
1-10 ساحرة تتصدّى لمدينة بأكملها
لمّا
آذت الكثيرين
مرارا وتكرارا،
عمّ السّخط واتّخِذ
يوما قرار بإقامة
حدّ الرّجم عليها
بصرامة من الغد.
فأحبطت الخطّة
برقاها، ومثل
ميدية* الّتي بعد
الحصول على مهلة
يوم واحد من كريون*،
أحرقت باللّهب
المنبعث من تاج
( منافستها) البيت
كلّه والبنت مع
أبيها العجوز،
ألقت هذه السّاحرة
في حفرة^ طلاسم
مجتلبة من القبور،
كما روت لي مؤخّرا
هي نفسها تحت تأثير
السّكر، فحبستهم
جميعا في ديارهم
بقوّة سحرها الصّامتة،
فبقوا فيها طيلة
يومين عاجزين
على كسر الأقفال
أو قلع الأبواب
أو ثقب الجدران.
إلى أن جأروا بصوت
واحد ضارعين،
مقسمين بأغلظ
الأيمان ألّن
يرفعوا أبدا أيديهم
لإيذائها وأن
يقدّموا لها العون
إن فكّر أحد في
مسّها بسوء. إذّاك
هدأت سورة غضبها
فعفت عن أهالي
المدينة؛ إلاّ
مدبّر تلك المؤامرة،
فقد نقلته في ليلة
ظلماء مع البيت
برمّته، بجدرانه
وأرضيّته وأسسه
وفي هيئته، مغلقا
إلى مدينة أخرى
تقع على بعد مائة
ميل على قمّة جبل
وعر، ومن ثمّ شحّ
ماؤها. ولأنّ مبانيها
المتراصَّة الغاصّة
بالسّكّان لا
تدع مجالا لساكن
جديد، ألقت بالبيت
أمام باب المدينة
وانصرفت." 1-11 عمليّة
اقتحام ليليّة
هتفت: "ذكرت
يا عزيزي سقراط
أشياء عجيبة وإن
كانت غرابتها
لا تنقص شيئا من
فظاعتها. حقًّا
لقد ألقيتَ في
روعي وجلا غير^
يسير، بل هلعا
شديدا، ووخزتني
برمح لا بشوكة،
وأخشى أن تعلم
تلك العجوز بعون
قواها الخارقة
بهذه الأحاديث
بيننا. فهيّا ننم،
وفي الفجر يكون
قد خفّ تعبنا،
فنهرب من هنا إلى
أبعد ما يمكن."
لم أفرغ من نصحي
حتّى كان سقراط
العزيز يغطّ في
النّوم، محدثا
شخيرا عاليا،
جرّاء سكره غير
المعتاد وإرهاقه
الطّويل. فرددت
الباب وعشّقت
المزلاج وسوّيت
مفرشي على الأرض
خلف المفصّلة
ورثدته جيّدا،
ثمّ استلقيت فوقه.
لكنّي في البداية
لبثتُ أرِقا متوجّسا
لبعض الوقت، ثمّ
قرابة الهزيع
الثّالث أغمضت
عينيّ. فما كدتُ
أغفو حتّى فُتح
الباب فجأة بقوّة
أكبر من أن يتصوَّر
أنّه عمل لصوص،
بل انهدّ بالأحرى
بعدما هُشّمت
مفصّلتاه وقُلعتا
من عضادتيهما.
فوقع من قوّة الدّفعة
سريري النّخر
القصير والمجرّد
من إحدى قوائمه
مستقرّا على الأرض
ودحدرني منقلبا
عليّ ليغطّيني.
1-12 مروة تدرك
حبيب القلب الغادر
شعرت
إذّاك أنّ بعض
الأحاسيس بطبيعتها
قد تنقلب إلى أضدادها؛
كثيرا ما تتولّد
الدّموع مثلا
من الفرح، كذلك
لم أتمالك نفسي،
وقد استحلتُ من
أرسطومان سلحفاةً،
من الضّحك. وفيما
أنا أرتقب ما قد
يحدث، قابعا في
ركام القذارة،
محميّا بحسن تدبّر
مفرشي، رأيت امرأتين
متقدّمتين في
السّنّ. تحمل إحداهما
مصباحا مضيئا
والأخرى إسفنجة
وسيفا مجرّدا،
فأحاطتا بسقراط
الغارق في النّوم.
ابتدرت صاحبة
السّيف الأخرى:
"هوذا، يا أخيّتي
بنثية*، إنديمون*
العزيز، هوذا
كتميتوس* الأغرّ
الّذي لها أيّاما
وليالي بزهرة
شبابي. هوذا الرّجل
الّذي لم يكفه
بعدما استخفّ
بحبّي هلْبي وثلبي،
ها هو يهمّ كذلك
بالهرب. فلم يبق
لي، كما ترين،
سوى بكاء وحدتي
أبد الدّهر، مثل
كالبسو* بعدما
تركها أوديسّيوس*
معدن المكر"،
ثمّ أضافت مشيرة
صوبي بيدها، منبّهة
إليّ بنثية: ^ "وهوذا
نصيحه الأمين
الّذي دبّر فراره
وهو يقبع الآن
جاثيا على الأرض
تحت سريره إلى
الموت أقرب منه
إلى الحياة، لاحظا
كلّ ما يجري، يظنّ
بوسعه الإساءة
إليّ دون عقاب.
سأجعله لاحقا،
بل قريبا، بل فورا
يتوب عن تهكّمه
الماضي وفضوله
الحاضر." 1-13 انتقام
ساحرة لمّا
سمعت ذلك أحسستُ
يا لبؤسي عرقا
باردا يسيل على
كلّ جسمي، وقشعريرة
تسري فيه انخضّت
منها أحشائي،
حتّى خلتُ المفرش
المهتزّ من ارتجافي
يرقص في تشنّج
فوق ظهري. لكنّ
بنثية، بورك فيها،
ردّت: "لِم لا نبدأ
بالأحرى بذاك
يا أختاه فنقطّع
أوصاله على غرار
كاهنات باخوس*
أو نبتر ذَكره
بعد تقييد أطرافه؟"
× ردّت مروة- أدركت
فعلا أنّها المرأة
الّتي ذكر لي سقراط
في قصّته-: "كلاّ،
ليبق هذا على الأقلّ
فيحثوَ على جثّة
ذلك التّعيس قليلا
من التّراب." ثمّ
أدارت رأس سقراط
إلى الجهة المقابلة
فأغمدت في جانب
عنقه اليسار السّيف
حتّى المقبض. وتلقّت
في قربة صغيرة
أدنتها منه الدّم
الشّاخب بعناية
بحيث لم تنسكب
منه قطرة واحدة
بالخارج؛ شاهدت
كلّ ذلك بعينيّ.
كذلك، وكيلا تغيّر
في ظنّي شيئا من
طقوس التّضحية،
أولجت مروة الطّيّبة
يمينها في الجرح
سابرة أحشاء رفيقي
فاستلّت قلبه،
بينما أصدر المسكين
الّذي نُحرت حنجرته
بطعنة السّيف
شخيرا كالحشرجة
وسلّم حشاشته.
ضمّدت بنثية بالإسفنجة
الجرح الفاغر
كالأخدود قائلة:
"يا إسفنجة يا
ابنة البحر، إيّاك
والانتقال إلى
النّهر!" بعد الانتهاء
من تلك الأعمال،
انصرفتا عنه،
فقلبتا مفرشي،
ثمّ أقعتا مفرشحتين
على وجهي، فأفرغتا
مثّانتيهما،
حتّى ضمّختاني
بفيض بولهما المقرف.
1-14 مشروع الفرار
ما
أن اجتازتا العتبة،
حتّى انتصب الباب
سويّا في وضعه
السّابق، فاستقرّت
المفصّلتان في
مخلعيهما ورجع
التّرباس إلى
مزلقته وعاد لسان
التّعشيق إلى
مزلجه. أمّا أنا
فلبثت على حالي
طريح الأرض بلا
حراك عاريا مقرورا،
ومبلّلا بذلك
السّائل المخمّ،
كما لو خرجت لتوّي
من رحم أمّي، بل شبه ميّت خالفا ذاتي
في شبه حياة برزخيّة،
مرتقبا عذاب الصّلب
المعَدّ لي بلا
ريب. حدّثت نفسي:
"ماذا سيحدث لي
عندما يُكتشف
في الصّباح هذا
الذّبيح؟ ومن
تُرى يصدّقني
إن رويت حقيقة
ما جرى؟ سيقال
لي حتما: × "كان بإمكانك
على الأقلّ أن
تطلب النّجدة،
إن عجزت كما تزعم،
وأنت رجل بمثل
هذه الضّلاعة،
عن مقاومة امرأة؛
تبّا لك، أيُذبح
شخص أمام عينيك،
وتبقى ساكتا؟
× لِم لمْ تُزلك
أنت أيضا عمليّة
قتل شبيهة؟ لِم
لم تتخلّص منك
هذه الوحشيّة
الفتّاكة حتّى
خيفة تبليغك عنها
كشاهد على الجريمة؟
لقد نجوتَ من الموت،
فلْتعد إليه الآن
إذن!" × ذاك ما كنت
أقلّب مع نفسي
بينما بدأ اللّيل
يفسح للنّهار؛
فبدا لي أنّ أفضل
ما أفعل في حالتي
أن أسرع بالفرار
خفية قبل مطلع
النّهار وأواصل
متهيّب الخطى
مساري. أخذت صرّتي
وأدرت المفتاح
وسحبت المزلاج.
لكنّ ذاك الباب
العاقل الأمين
الّذي فُتح في
اللّيل تلقائيّا
لم ينفتح لي إلاّ
بعسر بعد إيلاج
المفتاح فيه مرارا.
1-15 فشل المحاولة
هتفت:
"أين أنت يا رجل؟
افتح لي باب الفندق،
أريد الذّهاب
قبل طلوع النّهار!"
فردّ البوّاب
الّذي افترش الأرض
قرب مدخل الفندق،
نصف نائم: × "ماذا؟
أتجهل أنّ الطّرق
مليئة باللّصوص
لتدلج في السّحَر؟
إن كنت تبغي الموت،
لإحساسك قطعا
بوزر جرم أتيت،
فما لي رأس يقطينة
حتّى أموت من أجلك"^.
قلت: "لم يبق على
مطلع النّهار
كثير؛ ثمّ ماذا
ينتزع اللّصوص
من مسافر معدم
مثلي فقير؟ أم
تجهل يا أحمق أنّ
عشرة مصارعين
لا يستطيعون سلب
شخص عارٍ؟" × ردّ
الرّجل خدرا وسنان،
بعدما انقلب على
جنبه الآخر: "من
أين لي أن أعرف
ما لو كنت تفرّ
بحثا عن مخبئ بعدما
ذبحت رفيقك، ذاك
الرّجل الّذي
نزلت معه البارحة
للمبيت هنا؟"
× ساعتها رأيت الأرض
تنشقّ تحتي عن
غياهب التّرتار*
وفيها الكلب كربروس*
يتحرّق لالتقافي.
خطر إذّاك ببالي
أنّ مروة الطّيّبة
ما أعفت رقبـتي
رحمة بي، بل استبْقتها
بالتّأكيد لعذاب
الصّلب. 1-16 محاولة
الانتحار لذا
قفلت راجعا إلى
غرفتي، وشرعت
أفكّر في طريقة
للتّعجيل بموتي.
لكنّ الحظّ لم
يهيّئ لي سلاحا
قاتلا سوى سريري؛
فناجيته: "أي سريري
العزيز الّذي
عشتَ وتحمّلت
معي كلّ تلك المحن،
وتشهد على ما حدث
البارحة. وبك وحدك
يمكنني الاستشهاد،
وأنا محلّ الاتّهام،
لإثبات براءتي،
أمدّني بوسيلة
للخلاص تعجّل
بي إلى العالم
السّفليّ." شرعت،
وأنا أقول ذلك،
في سحب الحبل الّذي
جُدل منه مفرشي،
فقذفت طرفه على
رافدة منغرزة
تحت النّافذة
تبرز ناتئة إلى
الخارج وربطته،
وعقدت الطّرف
الآخر في خرتة
متينة وارتقيت
السّرير، وارتفعتُ
ساعيا إلى حتفي،
ثمّ أدخلت رأسي
في الأحبولة وألقيت
بنفسي. لكن لمّا
أزحت برجلي الدّعامة
الّتي كنت أعتمد
عليها، ليعصر
الحبل، بسقوط
الثّقل، عنقي
فيسدّ تنفّسي،
× انقطع الحبل الرّثّ
العتيق فجأة،
وهويت من حالق
على سقراط النّائم
إلى جانبي، فجررته
معي في تدحرجي.
1-17 مفاجأة
سارّة وإذا
بالبوّاب يدخل
بغتة في نفس اللّحظة
زاعقا: "أين أنت
يا رجل؟ كنت في
جوف اللّيل تتعجّل
الرّحيل بمنتهى
التّهوّر والآن
تغطّ في النّوم
ملتفّا بالدُّثر."
عند ذلك، وبسبب
سقطتنا أو صياح
النّاطور النّاشز،
لا أدري، نهض سقراط
مستويا وقال:
"ما اجتناءً يكره
المسافرون كلّ
هؤلاء الملاعين
نُدل الفنادق.
لقد دخل هذا المتطفّل
النّحس بدون إنذار،
بنيّة سرقة شيء
في اعتقادي، فانتزعني
من نومي العميق
بزعيقه الفظّ
وأنا منهوك القوى."
فقمت خفّا مبتهجا،
تغمرني فرحة لم
أكن أحلم بها،
وهتفت: "هوذا أيّها
البوّاب الأمين
صاحبي وأخي الّذي
كنتَ البارحة
تتّهمتني بقتله
جزافا، تحت تأثير
السّكر"؛ وأقبلتُ
على سقراط أعانقه.
لكنّه صدّني بشدّة
قائلا وقد زكمه
الإفراز المغثي
الّذي ضمّختني
به تانك السّعلاتان*:
"إليك عنّي بنتن
المراحيض!" وأنشأ
يسأل مازحا عن
سرّ تلك الرّائحة.
أمّا أنا، ففي
انكسافي اختلقت
حالا مزحة سخيفة
وحوّلت اهتمامه
إلى موضوع آخر.
قلت مادّا يدي:
"لنذهب الآن فنستمتعَ
بلذّة السّير
صَباحا!" ثمّ أخذت
الصّرّة وبعد
دفع أجرة الإقامة
لعامل الفندق،
انطلقنا على الطّريق.
1-18 رحلة ممتعة
كنّا
قد قطعنا مسافة
جيّدة لمّا بزغت
الشّمس مضيئة
كلّ شيء. فأخذت
أتأمّل بفضول
رقبة رفيقي، ناحية
الجانب حيث رأيت
السّيف يُغرز.
وأقول لنفسي:
"يا أخبل حلمتَ
بكوابيس فظيعة
وأنت تحت تأثير
الرّاح وغطّة
الأقداح. هذا سقراط
سالما صحيحا معافًى.
أين الجرح والإسفنجة
وأين أخيرا أثر
تلك الطّعنة المستجدّة
النّجلاء؟" ثمّ
خاطبته: "يؤكّد
الأطبّاء الثّقاة
محقّين أنّ من
ينامون تقئين
بالطّعام والنّبيذ
يرون أحلاما مروّعة
غمّاء. أنا مثلا،
لإفراطي مساء
أمس في الشّرب،
حملت لي ليلتي
اللّيلاء رؤى
مشؤومة، حتّى
لإخال نفسي إلى
هذه اللّحظة مبلّلا
وملطّخا بدم بشريّ."
فردّ مبتسما:
"لكنّك بشرفي
لم ترشّ بدم، بل
ببول. أمّا أنا
فقد تراءى لي في
المنام أنّي أُذبح،
وأحسست فعلا بألم
في رقبتي وخُيّل
إليّ أنّ قلبي
يُستلّ، وإلى
هذه اللّحظة يضيق
نفَسي وترتجف
ركبتاي وتترنّح
خطاي، وأرغب في
شيء من الطّعام
لأستردّ قواي."
قلت: "هوذا الفطور
جاهزا بانتظارك"،
وعلى الفور نزعت
المزود من على
عاتقي، وأسرعت
أمدّ له الخبز
والجبن مضيفا:
"هيّا نجلس تحت
هذه الدّلبة."
1-19 شربة ماء
تناولت
شيئا من نفس الزّاد
ونظرت إليه يأكل
بشراهة؛ فرأيته
يمتقع ويعتريه
شحوب كصفرة البقس
وتخذله قواه. ويغور
لون الحياة من
محيّاه، حتّى
أنّي من خوفي غصصت
مستحضرا صورة
جنّيتي النّقمة*
اللّيليّتين.
وتلبّكتْ وسط
حلقي على صغرها،
قطعة الخبز الّتي
تناولتها، لا
تستطيع المضيّ
نزولا ولا التّراجع
صعودا^. وكانت ندرة
السّالكين نفسها
تزيد خوفي^. وبمن
يُشتبه ترى في
قتل أحد رفيقي
سفر، سوى الآخر؟
× لكنّه كان في الحقيقة
قد ظمئ بعدما أصاب
من الزّاد شيئا
كثيرا ولم يطق
على الشّرب صبرا.
إذ كان قد التهم
بنهم حظّا وافرا
من جبن شهيّ؛ وكان
يسيل الهوينى
غير بعيد من أصل
الشّجرة جدول
وديع، يحاكي بصفحته
الغدير، وبصفائه
اللّجين أو البلّور.
هتفت: "هيّا اروِ
غليلك من ماء هذا
النّبع الأزكى
من الحليب"؛ فنهض
ووجد بعد قليل
حاشية من الضّفّة
أكثر استواء،
واقترب من الماء
متحرّقا^. لكن ما
كاد يلامس بطرف
شفتيه صفحة الماء
حتّى انفتح في
رقبته جرح فاغر
غائر، وانبثقت
منه الإسفنجة
فجأة مرفوقة بقليل
من الدّم. وانكبّ
الجسم في النّهر
جثّة هامدة، لولا
أن أمسكته من إحدى
قدميه وسحبته
إلى الضّفّة بمشقّة.
فبكيت قدر ما استطعت
صاحبي المسكين
وواريته صعيدا
رمليّا قرب النّهر
مثوى أبديّا. ثمّ
إنّي، في توجّسي
وخوفي على نفسي،
فررت عبر الفلوات
المنعزلة النّائية،
وهأنذا الآن بعدما
هجرت الأهل والأوطان
يعذّبني الشّعور
بوزر قتل نفس بشريّة
بنحو ما، وقد اتّخذت
لي منفًى اختياريّا
بإيتولية* حيث
أقطن الآن بعد
عقد قراني من جديد."
1-20 تقييم قصّة
أرسطومان تلك كانت
قصّة أرسطومان؛
أمّا صاحبه الّذي
كان يرفض في البداية
تصديق حديثه بارتياب
وتعنّت، فقال: "لا شيء حقًّا
أخرف من هذه الخرافة،
ولا أسخف من هذه
الكذبة"، ثمّ
استأنف ملتفتا
إليّ: "وأنت الرّجل
الكريم، كما أتوسّم
من هندامك وسمتك^،
أتصدّق هذه الخرافة؟"
أجبت: "فيما يخصّني
لا أحسب شيئا مستحيلا؛
بل كلّ شيء يقع
للبشر وفق مشيئة
القدر. لي ولك ولكلّ
الناس تحدث يوميًّا
أمور عجيبة وشبه
مستحيلة، ولكنّها
تفقد مصداقيّتها
إن تُرو للجاهل.
أمّا أنا فأصدّق
صاحبنا وأذكر
شاكرا أفضاله،
إذ سلاّنا قَصصه
الممتع بظرفه
وطرافته، بحيث
قطعت طريقا وعرة
وطويلة دون عناء
ولا سآمة. بل أظنّ
ضعينتي سعدت هي
أيضا بجميله،
إذ ها قد وصلتُ
إلى باب المدينة
الّذي ترى دون
أن أرهقها، محمولا
لا على ظهرها بل
على أذنيّ." 1-21 السّؤال
عن ميلون هنا
كان منتهى حديثنا
ودربنا المشترك،
فقد دار رفيقاي
إلى اليسار نحو
ضيعة^ قريبة. أمّا
أنا، فدخلت أوّل
فندق رأيته أثناء
مسيري، وسألت
العجوز صاحبة
المحلّ: "هل هذه
المدينة هيباتة*؟"
فهزّت رأسها بالإيجاب^.
استأنفت: "هل تعرفين
ميلون^، أحد أوائل
القوم هنا؟" فاستضحكت
ثمّ قالت: "يُعَدّ
الأوّل^ حقّا صاحبك
ميلون هذا الّذي
يقيم خارج الأسوار
والمدينة كلّها."
قلت: "دعي السّخرية
يا أمّاه، وخبّريني،
أرجوك، عن الرّجل
ومحلّ سكناه"؛
فردّت: "أترى هناك
تلك النّوافذ
المتّجهة شطر
المدينة، وفي
الجهة المقابلة
بابا مطلاّ على
زقاق محاذ؟^ × هناك
يقطن صاحبك ميلون،
وهو رجل ذو أموال
كثيرة وأملاك
وفيرة، لكنّه
مرذول لدى الجميع
لشحّه المفرط
وخسّته القبيحة.
مواظب على ممارسة
الرّبا الفاحش،
لقاء رهن من الذّهب
أو الفضّة، ومنطو
في بيته الضّيّق،
دائب الحرص على
قروشه، وله زوجة
هي كذلك شريكة
رذيلته. لا يعول
لديه سوى جويرية،
ويسير دوما في
هيئة المتسوّل."
رددت ضاحكا: "حقًّا
لقد رعاني صديقي
ديمياس* بتبصّر
واعتناء، إذ عهد
بي إلى رجل كهذا
لن أخشى في ضيافته
قُتار طبيخ ولا
شواء." 1-22 لقاء ميلون
قلت
ذلك وسرت متباطئا
فاتر الهمّة حتّى
وصلت إلى البيت،
فأخذت أطرق الباب
الموصد بإحكام
وأنادي. عندئذ
تقدّمت فتاة في
خضِر العمر وقالت:
"مهلا يا من تقرع
بابنا بكلّ هذا
العنف، مقابل
أيّ رهن تبتغي
الاقتراض؟ أم
تراك تجهل دون
سواك أنّا لا نقبل
ضمانا غير الذّهب
والفضّة؟" × أجبت:
"تفاءلي بي خيرا
وأجيبيني بالأحرى:
هل أجد سيّدك الآن
في البيت؟" ردّت:
"طبعا، لكن فيم
سؤالك؟" قلت:
"أحمل إليه رسالة
توصية كتبها له
ديمياس الكورنتيّ*"؛
فردّت: "انتظرني
هنا، في نفس المكان،
ريثما أبلّغه."
ولم تتمّ كلامها
حتّى أوصدت الباب
مجدّدا ودلفت
إلى الدّاخل؛
ولم تلبث أن عادت
وفتحت لي باب البيت
قائلة: "سيّدي
يطلبك." تقدّمت،
فوجدته مفترشا
سريرا^ مفرط الصّغر
وعلى أهبة العشاء.
وحذو قدميه تجلس
زوجته، وقد وُضعت
إلى جانبه سُفرة
فارغة، أشار إليها
قائلا: "تفضّل."
أجبت: "شكرا"؛
وقدّمت له رسالة
ديمياس فورا. فقرأها
بعجل وهتف: "أنا
مدين لصديقي ديمياس
بفضل إمدادي بضيف
مثلك." 1-23 استقبال
حارّ ثمّ
أمر زوجته بالتّنحّي
ودعاني إلى الجلوس
في مكانها، وأمسك
بطرف ثوبي وجذبني،
إذ لم أزل متردّدا
في استحياء، قائلا:
"اجلس هنا. فلخوفنا
من اللّصوص لا
يمكننا إحضار
مقاعد وأثاث كاف"،
ففعلت. ثمّ خاطبني:
"كنت سأشيم بحقّ
من وسامة مظهرك
وحسن خفرك وحدهما
كرم أرومتك. لكنّ
صديقي ديمياس
زاد فأحاطني في
رسالته علما بنفس
تلك المحاسن؛
فأرجو ألاّ تزدري
ضيق بيتنا المتواضع.
ستكون لك تلك الغرفة
المحاذية هناك
مُقاما مقبولا؛
فلتستطب الإقامة
عندنا. وإنّك لعمري
ستجعل هذا البيت
بشرف مَقامك أكبر
وأرفع، وستكتسب
منقبة مجيدة إن
ترض ببيتنا الصّغير
اتّساءً بثيسيوس*
العظيم، سميّ
والدك^، الّذي
لم يترفّع عن قرى
العجوز هيكالة*
على تواضعه." ثمّ
دعا الخادمة وقال:
"فوتيس*، خبّئي
في موضع أمين من
هذه الغرفة متاع
ضيفنا. وأخرجي
في نفس الوقت من
خزانة المؤن زيتا
ليدّهن به ومناشف
ليمسح بها وغير
ذلك ممّا يصلح
لنفس الغرض؛ ثمّ
خذي ضيفي إلى أقرب
حمّام، فهو تعِبٌ
من رحلته الشّاقةّ
الطّويلة." 1-24 في سوق المؤن
عند
سماعي ذلك قلت،
مفكّرا في طباع
ميلون وبخله،
وراغبا في استمالته
بنحو أوثق: "لا
حاجة بنا^ يا سيّدي
الفاضل إلى هذه
الأشياء فقد صحبتنا
طوال الطّريق.
وحتّى الحمّام
سنسترشد عنه بسهولة؛
بصراحة أهمّ الأولويّات
عندي حصاني الّذي
حملني بعزم، فخذي
هذه النّقود يا
فوتيس واشتري
له كلأ وشعيرا."
بعدما أُتمّت
هذه التّرتيبات
وخُبّئت أمتعتي
في تلك الغرفة،
قصدت وأنا في طريقي
إلى الحمّام السّوقَ
أوّلا لأتدبّر
أمر عشائنا. رأيت
هناك سمكا وفيرا
معروضا، وبعد
الاستفسار عن
السّعر والمساومة،
اشتريت بعشرين
دينار ما عُرض
بمائة درهم^. لقيني
وأنا أغادر السّوق
بيثياس*، قريني
في الدّراسة بأثينة
الأتّيكيّة*،
الذي تعرّفني
بعد الأمد الطّويل،
فأقبل عليّ هاشّا
باشّا وقال وهو
يحتضنني ويقبّلني
بمودّة: × "عزيزي
لوقيوس*، مرّ دهر
لعمري لم نرك منذ
غادرنا مقاعد
الدّراسة عند
المعلّم كليتيوس*.
فما غاية رحلتك؟"
أجبت: "غدا تعرف؛
لكن ماذا أرى؟
أهنّئك بنيل المنى:
أرى معك الدّرك
والمخاصر وكلّ
شارات القضاء."
قال:"أعتني بالتّموين
وأشغل خطّة المحتسب^،
وإن تبغ شراء شيء
فأنا بخدمتك في
كلّ حين"؛ فأشرت
برأسي بالنّفي
إذ سبق أن اقتنيت
من السّمك ما يكفي
للعشاء. لكنّ بيثياس
رأى السّلّة فخضخض
السّمك ليتفحّصه
ثمّ سألني: "كم
دفعت مقابل سقط
الشّباك هذا؟"
أجبت: "انتزعته
من البائع غلابا
بعشرين دينار."
1-25 أحشفا وسوء
كيلة؟ ما
إن سمع ذلك
حتّى أمسك بيدي
وأعادني إلى السّوق،
وسأل: "ومن أيّ
من هؤلاء ابتعت
هذه السّفاسف؟"
أشرت إلى شويخ
كان يجلس في زاوية؛
فازدجره فورا
بلهجة صارمة بمقتضى
سلطته الاحتسابيّة:
× "ويحكم، لم تعودوا
تراعون حتّى أصحابنا،
بل ولا حتّى ضيوف
مدينتنا! تسعّرون
بمثل هذه الأثمان
المشطّة هذا الحشف
الرّديء، أتريدون
أن تحيلوا زهرة
مدائن تسّالية*
من غلاء المعيشة
جلمودا صفصفا؟
لكنّك لن تفلت
من عقوبتي، سأريك
كيف يُقمع الغشّاشون
تحت سلطتي"، ونثر
أسماكي على الأرض،
ثمّ أمر دركيّا
يرافقه بدحسها
وسحقها تحت قدميه.
بعد ذلك التفت
صديقي بيثياس
ناحيتي راضيا
عن صرامته وقال
مودّعا: "عزيزي
لوقيوس، هذه الإهانة
تكفي شيخنا في
ظنّي." لم يسعني،
وقد أدهشني ما
جرى بل أذهلني
تماما، سوى متابعة
سيري إلى الحمّام
صفر اليدين من
النّقود والعشاء
معا، ثمّ عدت بعد
الاغتسال إلى
بيت مضيّفي ميلون
فأويت إلى غرفتي
مباشرة. 1-26 مأدبة ميلون
وإذا
بالخادمة فوتيس
تقول: "سيّدي يطلبك"؛
لكنّي اعتذرت
بأدب، لعلمي بتقاليد
ميلون التّقشّفيّة،
متعلّلا بحاجتي
إلى الاستراحة
من وعثاء السّفر
لا بالطّعام بل
بالمنام. لمّا
بلَّغتْه اعتذاري،
أتى بنفسه، ومدّ
إليّ يده محاولا
جرّي برفق، ولمّا
رأى تردّدي وتمنّعي
بلين وأدب قال:
"لن أبرح الغرفة
حتّى تتبعني"،
مردفا إلى قوله
أغلظ الأيمان.
فاستسلمت لإلحاحه
مكرها، وتبعته
إلى سريره حيث
أجلسني وسألني:
"كيف حال صديقنا
ديمياس؟ وزوجته؟
وأبنائه؟ وخدمه
وحشمه؟" × فقصصت
عليه أخبارهم
جميعا؛ ثمّ استخبر
بالتّدقيق عن
أغراض رحلتي؛
فسردتها له بالتّمام.
ثمّ طفق يستوضح
عن أخبار بلدي
وأعيانه ثمّ واليه
بأدقّ التّفاصيل^.
ولمّا رآني، من
شدّة تعبي من تلاحق
القصص مضافا إل
مشقّة رحلتي المضنية،
أتوقّف وسط الكلمات
مثقلا بالنّعاس،
بل وأتلجلج في
عيّ مغمغما بالكلمات
المستعصية، قبل
أخيرا أن يدعني
آوي إلى فراشي.
هكذا أفلتّ أخيرا
من مأدبة عجوزنا
المزعج الجزلة
كلاما والهزيلة
طعاما إلى النّوم،
مثقلا بغير طعام،
متعشّيا فقط على
القصص، وعدت إلى
غرفتي حيث سلّمت
جسمي المكدود
للجمام المنشود.
|