أبوليوس

 

المرافعة

 

الفصول 62-86

 

حواش 

 

 

 

 

 

 

5

4

3

2

1

مقدّمة

 

 

62- الرّدّ على تهمة الدّمية الشّيطانيّة

   سمعتَ منه كلّ هذه المعلومات كما أذكرها. كذلك أكّد الشّابّ الكريم ابن السّيّدة كابتولينة، الحاضر هنا، لمّا استجوبتَه نفسَ المعلومات: أنّ بنتيانوس هو الذي استجلب الألواح، وبنتيانوس هو الذي حملها إلى الصّانع ساترنيوس. كذلك لم ينف أحد أن يكون بنتيانوس تسلّم من ساترنيوس التّمثال جاهزا ثمّ قدّمه لي هديّة. بعد إثبات كلّ هذه الحقائق علنا وأمام الجميع، هل بقي شيء خافٍ يبرّر أيّة ظنّة عن ممارستي للسّحر؟ بل هل بقي شيء لا يثبت كذبكم السّافر؟ زعمتم أن قد صُنع خفيةً ما أوعز بصنعه بنتيانوس الفارس* الأكرم ابن الأكرمين، ونجره ساترنيوس الرّجل المحترم المشهود له بالفضل بين مواطنيه جالسا في مشغله بمرأى من الجميع، وأحضرته من سخيّ فضلها سيّدة محترمة، ما علم به قبل صنعه وبعده عديد الخدم والأصحاب المتردّدين على بيتي. لا يخجلكم الافتراء عليّ بأنّي فتّشتُ عن الخشب كثيرا في المدينة* كلّها، مع علمكم بغيابي في تلك الفترة، وثبوت أنّي طلبتُ إعداده من أيّة مادّة متوفّرة.

 

63- عرض تمثال مركريوس

   كانت كذبتكم الثّالثة أنّي صنعته على شكل جثّة مريعة عارية من اللّحم، ضامرا بل مفرغا تماما من الأحشاء، فظيعا وشبيها بالشّبح. إن وجدتم بين أيديكم حجّة دامغة كهذه على ممارستي للسّحر، فلِم لم تطالبوني بإحضارها؟ أليمكنكم ترى أن تكذبوا كما تشاؤون في غياب الدّليل الملموس؟ لكن من حسن الاتّفاق أنّ لي عادة أحبطتْ لديكم شِنشنة الكذب. فقد اعتدتُ أن أحمل حيثما رحتُ تمثالا لأحد الآلهة مخبوءا بين كتبي، وأتعبّد له أيّام الأعياد مقدّما له البخور والخمر وذبيحة أحيانا. لذا لمّا سمعتُهم السّاعة يردّدون بلا حياء كذبهم السّافر عن الهيكل العظميّ، طلبتُ من أحد أن يستقلّ عربة ويأتي لي من بيتي بتمثال مركوريوس الذي صنعه لي ساترنيوس. وها هو أمام عينيك*، فليتأمّلوه وليتلمّسوه وليتفحّصوه.

   هوذا أمامكم التّمثال الذي يدعوه ذاك المجرم هيكلا*! أتسمعون دمدمة الاستنكار تتعالى من كلّ الحاضرين؟ أتسمعون إدانة كذبكم؟ ويحكم ألا تخجلون من كلّ هذه الافتراءات؟ أهذا هو الهيكل العظميّ؟ أهذا هو الشّبح المريع؟ أهذا ما تسمّونه شيطانا*؟ أهذا عمل ساحرٍ أم تمثال عاديّ ومتداول؟ خذه يا مكسيموس، أرجوك، وتأمّله. حسنٌ أن تُسلّم طرفة مقدّسة ليديك التّقيّتين النّقيّتين. انظر أيّ جسم جميل زاخر بقوّة الرّياضيّين، وأيّ محيّا ربّانيّ بشوش، وكيف تنسرح لحيته على عذاريه بهيّة تسرّ النّاظرين، وكيف رُدّت خصال شعره من رأسه لتظهر أسفل خوذته، وكيف يبرز ببهجة فوق صدغيه جناحان متشابهان، وكيف انسدل رداؤه بأناقة حول كتفيه. فمن يجرؤ على القول إنّ هذا هيكل حتما لم ير قطّ تماثيل الآلهة أو هو لا يعيرها بالا، ومن يَعدّ هذا من هُيّم الجِنّة به جِنّة لا شكّ.

 

64- إله أبوليوس

أمّا أنت يا إمليانوس، فعسى هذا الإلهُ، الرّسول بين العالمين العلويّ والسّفليّ، أن يُحلّ بك جزاء كذبك غضبَ آلهة كليهما، ويُبرز قبالة عينيك باستمرار أينما كنتَ أنواع الأخيلة الهابّة من عالم الأموات ظلالا وأشباحا وأرواحا، وكلّ خطرات اللّيالي وكلّ مراعب الأجثاث وكلّ أهوال الأجداث التي ما أنت- بسنّك وما تستحقّ فعالك- عنها ببعيد. ثمّ إنّا نحن معشر الأفلاطونيّين لا نعرف إلاّ البهيج والميمون والقدسيّ والرّفيع والسّماويّ. بل إنّ هذه الطّائفة، في سعيها إلى الارتقاء بالنّفس بحثتْ حتّى عمّا يفوق السّماء رفعة وارتقتْ إلى أقصى حدود الكون. يعلم حقيقة أقوالي مكسيموس الذي قرأ باهتمام عن "محلّ فوق السّماء"^ وعن "مناط السّماك الأعلى"^ في "فيدروس". كذلك يفهم مكسيموس جيّدا ردّي على سؤالكم عمّن يكون ذاك بأنّ أفلاطون، لا أنا، أوّل من دعاه "الملك" قائلا: "كلّ الكائنات تابعة لملك الأكوان، وكلّها تستمدّ منه وجودها"^. تسألون عمّن هو ذلك الملك، علّة وسبب وأصل كلّ الطّبيعة، باري النّفس الأعلى، حافظ كلّ الأحياء الحيّ الأبديّ، صانعُ كونه الدّائبُ، لكنِ الصّانعُ بلا عناء والحافظُ بلا انشغال والمنشئُ بلا ولادة، الذي لا يحويه مكان ولا زمان ولا أيّ حيّز، ولذلك لا يمكن أن يتعقّله غير نفر قلائل ولا يستطيع له أحد وصفا. هأنذا أزيد ظنونك بخصوص ممارستي السّحر: إذ لن أجيبك يا إمليانوس عمّن أعبد باسم "الملك"^، بل حتّى لو سألني الوالي عن هويّة ربّي لاحتفظت بصمتي.

 

65- تعليل اختيار الخشب لتمثال معبوده

   عن الاسم قلتُ ما يفي بالغرض في الوقت الحاضر. يبقى- وأنا لا أجهل- أنّ بودّ بعض الحضور المحيطين بي أن يسمعوا لماذا أردتُ أن يُصنع التّمثال لا من فضّة أو ذهب، بل من الخشب تحديدا، وإخالهم يريدون معرفة ذلك لا لتبريري بل لفهم اختياري* حتّى تطمئنّ أنفسهم تماما لمّا يرون أنّي دحضتُ بنحو شاف واف كلّ مظنّة. ليسمع إذن من غرضه الفهم، لكن بتيقّظ وتنبّه قدر المستطاع، إذ سيسمع أقوال أفلاطون، وقد بلغ الشّيخوخة، في كتاب "القوانين" آخر مؤلّفاته:

   "يحسن بالإنسان الوسط أن يقدّم للآلهة هدايا وسطا. الأرض والموقد في كلّ بيت نذْر للآلهة، فلا ينذرْ أحدكم للآلهة غيرهما"^.

   بهذا يمنع أيّا من إقامة معابد خاصّة إذ يرى أنّ المعابد العامّة تكفي المواطنين لذبح نُسُكهم. ويضيف:

   "الذّهب والفضّة، سواء ما هو مِلك خاصّ أو ما يوجد في معابد المدن الأخرى، مثار الأطماع. العاج الآتي من جسد فارقته الرّوح عطاء غير مبرور. الحديد والنّحاس يُستخدمان في الحرب. فلمن أراد تقديم هدي أن يعطي قطعة من الخشب أو كذلك من الحجر"^.

    يبدو لي يا مكسيموس ويا حضرات المستشارين من تأييد جميع الحاضرين أنّي استخدمت بكفاءة أفلاطون الذي ترون امتثالي لقوانينه* كمرشد لي في حياتي، وكمحام عنّي في قضيّتي.

 

66- التّساؤل عن دوافع إمليانوس لرفع دعواه

   والآن حان الوقت لأولي اهتمامي لرسالة بودنتلّة، لذا عليّ أن أتتبّع مسلسل القضيّة بأكملها منذ البداية حتّى يظهر بجلاء للجميع أنّي لو كنتُ أفكّر بأيّ ربح- وفق ما يردّدون عن اجتياحي بيت بودنتلّة طمعا في مالها-، لكان الأحرى بي بالعكس أن أفرّ باستمرار بعيدا عن هذا البيت. فمن هذه النّاحية كما من نواح أخرى كان زواجي قليل التّوفيق مضرّا بمصلحتي لولا أنّ زوجتي عوّضت عن كلّ هذه السّلبيّات بكريم شمائلها. لا يمكن حقّا أن نجد من سبب سوى الحسد العقيم لإقامة هذه الدّعوى ضدّي فضلا عمّا دبّر لي من عديد المكائد المهلكات. وإلاّ فلِم يتأثّر إمليانوس حتّى لو اكتشف حقّا أنّي ساحر، مادام لم يؤذه منّي أيّ فعل بل ولا حتّى أدنى قول، ليبدو كأنّه يسعى إلى الثّأر منّي لِتِرةٍ بيننا؟ كذلك لا يتّهمني طلبا للمجد، شأن مرقس أنطونيوس مع قنايوس كربون أو قيّوس مُقيوس* مع أوْلوس ألبُقيوس*، أو بُبليوس سُلبِقيوس* مع قنَيوس نُربانوس*، وقيّوس فُريوس* مع مَنيوس أكوِلْيوس* وقيّوس كريون* مع كوِنْتوس مِتلّوس*. لا شكّ أنّ هؤلاء الشّبّان الواسعي الاطّلاع كانوا بذلك يفتتحون عملهم في القضاء ليعرفهم مواطنوهم من خلال محاكمة شهيرة. وتلك عادة سُمح بها لدى القدماء للشّبّان المبتدئين بغرض إبراز موهبتهم، وانقرضتْ منذ زمن طويل. وحتّى لو لم تزل متداولة إلى هذا العصر، فما أبعد ما ستكون عن صاحبنا. فإبراز الفصاحة لا يوافق جلفا غفلا، ولا حبّ المجد علجا رئبالا، ولا الشّروع في احتراف المحاماة شيخا ما هو عن التّابوت ببعيد. إلاّ إن كان إمليانوس ربّما أراد توقيع عقاب على نفسه وأقام هذه الدّعوى لتقويم سلوكه بعدما ضاق ذرعا بسيّئات أعماله. لكنّي لا أكاد أصدّق صدور هذا حتّى من إمليانوس، لا أقصد الإفريقيّ هذا بل سميّه فاتح إفريقية ونومنتية* والحسيب* فضلا عن ذلك. ولا أظنّ هذا الأحمق قادرا لا على أن يكره ذميم الفعال فقط، بل حتّى أن يعي قبحها.

 

67- ملخّص التّهم بخصوص زواجه ببودنتلّة

   ما الأمر إذن؟ من الواضح للجميع أنّ لا شيء سوى الحقد دفع هذا الشّخص وهرّنيوس محرّضه الذي سأتحدّث عنه قريبا وأعداء آخرين لي إلى حبك فرى السّحر ضدّي. هناك خمس تهم يجب أن أناقشها.

   فإن صدقتْني ذاكرتي، أخذوا عليّ بخصوص بودنتلّة النّقاط التّالية. إحداها قولهم إنّها لم تبتغ الزّواج قطّ بعد زوجها الأوّل لكنّ عزائمي أرضختها. تتعلّق الأخرى برسالتها التي يزعمونها تُقرّ بسحري. في المقام الثّالث والرّابع، شنّعوا عليّ زواجها وهي في السّتّين بدافع الشّهوة، وتوقيع عقد زواجنا في بيتها بالرّيف لا في المدينة. التّهمة الأخيرة والأشنع تتعلّق بالمهر: هنا حاولوا بكلّ قواهم نشر كلّ سمومهم*، هنا ما كان يقضّ مضاجعهم، فقد ادّعوا أنّي حصلت أوّل عقد قراننا على مهر ضخم من زوجتي الولهى بمنأى عن الشّهود في بيتها بالرّيف. هأنذا سأثبت مدى زيف دعاويهم وسخفها وبطلانها، وسأفنّدها بسهولة ودون ترك أيّ مجال للجدل، حتّى إنّي لأخشى وحقّ الآلهة أن تظنّوني يا مكسيموس ويا حضرات المستشارين دفعتُ المدّعي سرّا وحرّضتُه كي أجد فرصة لإطفاء غلّي أمام الجميع. صدّقوني، فقد يُفهم الأمر بهذا النّحو لا شكّ، ومن الصّعب عليّ حقّا أن منعكم من التّفكير بأنّ دعوى بمثل هذا السّخف هي من تدبيري الذّكيّ، لا من مبادرة متّهميّ الغبيّة*.

 

68- قصّة بودنتلّة

   والآن، بينما أتابع بإيجاز مسلسل الأحداث، ليضطرّ إمليانوس نفسه، بعد انكشاف الحقيقة، إلى الإقرار بأنّه انجرّ مخطئا إلى معاداتي ومال عن الحقّ ميلا عظيما، أطلب منكم أن تتبيّنوا بتنبّه وتروّ، كما فعلتم حتّى الآن، بل وأكثر إن استطعتم، مصدرَ وأساسَ هذه القضيّة.

   أنجبتْ إميلية بودنتلّة، زوجتي حاضرا، من رجل يدعى سيكينوس أميكوس تزوّجته سابقا، ولديْها بنتيانوس وبودنس اللّذيْن تركهما والدهما يتيمين في كفالة جدّهما، إذ مات أميكوس وأبوه على قيد الحياة. وطوال حوالي أربعة عشر عاما، اعتنتْ بتربيتهما بتفان جدير بالتّنويه. لكنّها لم تبق أرملة طوال تلك السّنين وهي لا تزال في زهرة العمر مختارة. وإنّما كان جدّ ولديها يحاول جاهدا تزويجها غصبا عنها بابنه الآخر سيكينوس كلاروس، رادّا لذلك كلّ الخطّاب، مهدّدا إيّاها فوق ذلك بحرمان ولديها ممّا ترك لهما أبوهما في وصيّته إن تزوّجتْ برجل من خارج الأسرة*. فلمّا رأت تلك المرأة العاقلة المتفانية في سبيل ولديها إصراره على التّرتيب الذي عرض عليها، وكيلا يحصل لابنيها ضرر بسببها، وقّعت عقدا مع سيكينوس كلاروس الرّجل الذي فُرض عليها الزّواج به لكنّها حالت بشتّى الذّرائع دون إتمام الزّواج* حتّى مات جدّ ابنيها تاركا للولدين ميراثهما. هكذا صار بنتيانوس أكبرُهما كفيلَ أخيه.

 

69- قرار بودنتلّة الزّواج

   بعدما تخلّصتْ من ذلك الهاجس، ولمّا كان أبرز الأعيان يطلبونها للزّواج، قرّرتْ ألاّ تستمرّ في ترمّلها. فحتّى إن أمكنها تحمّل سقام الوحدة، لم تكن تستطيع تحمّل سقم جسدها. فتلك المرأة العفّة البتول التي أذوتها سنو ترمّلها العديدة بدون أيّة زلّة أو مغامرة، وحُرمت من ألفة العشير، وأضرّ بحشاها طول الجمام، كانت تعاني من آلام مضنية ناشئة بداخل رحمها المُعنّى، حتّى لَتُشفي أحيانا على مفارقة الحياة.

   وقد اتّفق الأطبّاء والقوابل على البحث عن سبب مرضها في غياب العلاقة الزّوجيّة وعلى توقّع ازدياد علّتها وتفاقم معاناتها بمرّ الأيّام. وما دامت لا تزال في العمر فضلة، فعليها أن تعالج صحّتها بالزّواج.

   وقد أيّد قرارَها الآخرون، ومنهم أوّلا وبالذّات إمليانوس الذي أكّد قبل قليل في كذب سافر أنّ بودنتلّة لم تفكّر في الزّواج أبدا قبل أن ترضخها عزائمي الشّيطانيّة، وأنّه وجدني أنا وحدي الذي انتهكتُ بطلاسمي وعقاقيري ترمّلها، كما لو كان ضربا من البكارة. كثيرا ما سمعتُ هذا القول الذي لا يخلو من الصّواب: أنّه يحسن بالكاذب أن تكون له ذاكرة. لكنّك يا إمليانوس لا تذكر أنّك، قبل أن آتي إلى أوية، كتبتَ أنت أيضا رسالة إلى ابنها بنتيانوس الذي كان يعيش إذّاك برومية وقد بلغ مبلغ الرّجال تشير فيها بأن تتزوّج. ناولني الرّسالة، أو بالأحرى أعطه إيّاها: ليقرأْ بصوته ولتفحمْه كلماته. (...)

   أهذه رسالتك؟ لِم امتقعتَ؟ فما بمقدورك الخجل! أهذا توقيعك؟ اقرأ أرجوك بنحو أوضح، ليفهم الجميع كم يتباين لسانه مع يده، وكم خلافه معي أقلّ من خلافه مع ذاته.

 

70- قراءة رسالة لإمليانوس يؤيّد فيها زواج بودنتلّة

   أكتبت يا إمليانوس ما قُرئ عليك؟ "أعلم أنّها تريد وعليها أن تتزوّج، لكن أجهل من ستختار". أصبتَ: كنتَ تجهل. فبودنتلّة التي تعلم جيّدا مكرك السّيّء كانت تحدّثك فقط عن مسألة زواجها، ولا تذكر شيئا عن خاطبها. لكنّك لتفكيرك بأنّها تنوي الزّواج من أخيك كلاروس وانجرارك وراء أمل خلّب دفعتَ بنتيانوس أيضا إلى الموافقة. لو تزوّجتْ إذن من كلاروس، ذلك  الرّجل الجلف والعجوز الفاني، لقلتَ إذّاك إنّها تزوّجتْ بمحض إرادتها ودون أيّ عمل سحر، ولأنّها اختارت شابّا كما تصفون، تزعمها فعلتْ ذلك بتأثير السّحر وإلاّ فقد كانت دوما تزدري الزّواج. لم تدرِ أيّها الفاجر أنّ رسالتك حول الموضوع لا تزال بحوزتها، لم تدر أنّك ستُفحَم وبشهادتك أنت نفسك. غير أنّ بودنتلّة، لعلمها بأنّك قلّب لا إلّ لك ولا ذمّة، وفي نفس الوقت وبنفس الدّرجة كاذب وسفيه آثرت الاحتفاظ برسالتك كشهادة ومؤشّر على إرادتك، على التّفريط فيها.

   هذا وقد كتبتْ هي نفسها عن الموضوع إلى ابنها بنتيانوس برومية، وأبلغتْه كلّ مبرّرات مشروعها. ذكرتْ له كلّ شيء عن صحّتها، وأنّه لم يبق موجب لاستمرارها في نهج حياتها المعتاد، وأنّها اجتهدت بترمّلها الطّويل مستهينة بصحّتها لتحفظ لهما تركة والدهما واعتنت بحرص بتنميتها، وأنّه بمشيئة الآلهة بات مرشّحا للزّواج وأخوه لارتداء ثوب الشّبّان. ثمّ طلبتْ في آخر رسالتها أن يقبلا أخيرا تخفيف بؤس وحدتها ومرضها قائلة إنّه ليس ثمّة ما يخشيان بشأن حبّها لهما وحكمها النّهائيّ وأنّها كما كانت معهما أرملةً ستكون كذلك زوجةً. سأطلب أن تُقرأ نسخة من هذه الرّسالة الموجّهة إلى ابنها. (...)

 

71- عودة بنتيانوس إلى أوية خوفا من زواج أمّه برجل طامع في مالها

   أظنّ بإمكان أيّ أحد أن يرى بوضوح كاف أنّ بودنتلّة لم تثنها رقاي قسرا عن الاستمرار بإصرار في ترمّلها بل فعلتْ بمحض إرادتها- إذ لم تكن تعارض فكرة الزّواج- مؤثرة إيّاي ربّما على الآخرين. ولا أجد مبرّرا لأن يُعدّ هذا الاختيار لامرأة بمثل رزانتها تهمةً ضدّي بدلا من اعتباره شرفا لي. وإن كنت لا أستغرب أن يتضايق إمليانوس وروفينوس من حكمها هذا، بينما يتحمّل طالبو يد بودنتلّة بطيب خاطر تفضيلها لي. وقد فعلتْ بالتّحقيق متّبعة رأي ابنها أكثر من رأيها الخاصّ. لن يمكن لإمليانوس إنكار هذه الحقيقة. فإنّ بنتيانوس بارح رومية فور استلامه رسالة أمّه مخافة أن تكون وقعت على رجل طامع في ثروتها، فتحوّل كلّ أملاكها، كما يحدث غالبا، إلى بيت زوجها. كان هذا الهاجس يؤرّقه ويعذّب نفسه، لأنّ كلّ آمال الثّروة لنفسه ولأخيه منوط بأملاك أمّه. فقد ترك لهما جدّهما إرثا متواضعا، بينما كانت أمّهما تملك أربعة ملايين درهم، رصدت لا محالة منها مبلغا لابنيها، لا بتعهّد كتابيّ، بل وكما يحقّ لها، بمجرّد وعد شفويّ. فكان يكتم مخاوفه، ولا يجرؤ على الاعتراض جهارا، كيلا يبدو كأنّه لا يثق بها.

 

72- بداية معرفته ببودنتلّة

   وصلتُ بمشيئة الصّدفة أو القدر* والوضع على هذه الصّورة بين مطلب الأمّ وتخوّف الابن، وأنا في طريقي إلى الإسكندريّة. كنتُ وحقّ هرقل سأقول: "ليت شيئا من ذلك لم يحصل أبدا" لو لم يمنعني من قوله احترامي لزوجتي. كان الفصل شتاء. لجأتُ للاستراحة من وعثاء الطّريق إلى بيت أصدقائي، آل أبّيوس الذين أذكرهم بكلّ حبّ وإجلال. فأقمتُ عندهم عدّة أيّام. هناك أتاني بنتيانوس الذي سبق أن جمعه بي، قبل عدّة أعوام في أثينة، بعض أصدقائنا المشتركين، وباتت تربطه بي مذّاك صداقة حميمة. طفق يوليني كلّ مظاهر التّكريم والتّبجيل، ويستخبر عن صحّتي، ويحادثني بكياسة في الشّؤون العاطفيّة. بدا له أنّه وجد حقّا لأمّه الزّوج الأمثل الذي يمكن ائتمانه على ثروة الأسرة بدون خطر ذي بال. في البداية أراد سبر رأيي حول الموضوع بكلام غير مباشر. ولمّا لمس لديّ الرّغبة في مواصلة طريقي، والزّهد في الزّواج، رجاني البقاء قليلا بدعوى رغبته في المسير معي، مؤكّدا أنّ عليّ الانتظار حتّى الشّتاء المقبلة بسبب حرارة صحراء سرت* ووحوشها ما دام توعّك صحّتي يحرمني من انتهاز الحاليّ. وبتوسّلات ملحّة أخذني من أصدقائي آل أبّيوس لنقلي إلى بيت والدته، معلّلا ذلك بأنّه سيكون سكنا أنسب لصحّتي ناهيك أنّي سأجد فرصة لأنعم بحرّيّة من هناك بمنظر البحر المحبّب لنفسي كثيرا.

 

73- مساعي بنتيانوس لتزويجه بأمّه

   فما زال يبذل كلّ هذه الجهود حتّى أقنعني بشديد المراس واستوصى بي خيرا أمّه وأخاه الغلام الحاضر ههنا. فساعدتهم قدر المستطاع في دراساتنا المشتركة، وتوثّقت بيننا أواصر المودّة. في الأثناء، استعدتُ صحّتي، وألقيتُ محاضرة أمام العموم نزولا عند طلب أصدقائي. وقد هتف بصوت واحد كلّ من حضروا إلى دار النّدوة* في حشد عظيم مجمعين، من جملة ما أقرّوا، على أنّها كانت "ممتازة"، طالبين أن أبقى هناك وأصير من مواطني أوية. إثر مغادرتنا لقاعة المحاضرات، ابتدرني بنتيانوس قائلا إنّه يعدّ إجماع الجمهور على استبقائي آية من السّماء وفاتحني بأنّ من رأيه، إن لم أر مانعا لاقتراحه، أن تتزوّج بي أمّه التي كان كثيرون يطلبون يدها، قائلا إنّي الشّخص الوحيد الذي يمكن أن يعهد إليه بكلّ أملاكهم ويثق فيه، وإن أرفض هذا التّكليف- فما عُرضتْ عليّ لعمرك يتيمة حسناء، بل أمّ ابنيْن بجمال بيْن بيْن-، وأفكّرْ في الأمر فأستبْقَ نفسي لزيجة أخرى حبّا للمال والجمال، فسوف لا أكون إذّاك قد تصرّفت كصديق ولا كفيلسوف. دار بيننا حديث أطول من أن أذكره، إن أردتُ تذكّر ما رددتُ به على ترغيبه، وكم من الوقت ومن المرّات تجاذبنا أطراف الحديث في الموضوع، وبأيّ نوع وبكم من التّوسّلات توجّه إليّ. فلم يدعني قبل الحصول أخيرا على مبتغاه. كنت أمانع لا لأنّي لم أرقب بودنتلّة جيّدا خلال السّنة التي قضيتها هناك بفضل العلاقة الحميمة التي غدت تربطنا، وأكتشفْ ما أوتيتْ من فضائل، بل لأنّي كنت لولعي بالسّفر عازفا شيئا ما عن الزّواج مخافة أن يعوق هوايتي. لكنّي لم ألبث أن أحببتُ تلك المرأة بحرارة لا تقلّ عمّا لو تعلّقتُها من تلقاء نفسي. وأقنع بنتيانوس أمّه بتفضيلي على بقيّة الخطّاب. وكان يرغب بإصرار لا يصدّق في إتمام الأمر بأسرع ما يمكن. وبمشقّة حصلنا منه على إمهالنا مدّة وجيزة ريثما يتزوّج هو، ويبدأ أخوه في ارتداء ثوب الشّبّان، فنتزوّج بدورنا إذّاك.

 

74- الهجوم على روفينوس

   ليت لي وحقّ هرقل أن أمرّ على ما يتعيّن قوله دون إلحاق ضرر فادح بقضيّتي، كيلا أبدو كأنّي ألوم على نزقه بنتيانوس الذي غفرتُ له بسماحة خطأه قابلا اعتذاره. أعترف فعلا، فقد أُخذ عليّ ذلك، أنّه بعد زواجه تنكّر لعهده السّابق وغيّر فجأة رأيه، فما كان يطلب بفارغ الصّبر وبالغ الحرص صار ينبذه وبإصرار مماثل. بات آخر الأمر مستعدّا لتحمّل أيّ شيء، وفعل أيّ شيء للحيلولة دون تجسّد مشروع زواجنا، وإن كان لا يجب أن يؤخذ عليه هو تغييره القبيح لرأيه وموجدته المستجدّة على أمّه، بل على حميه، ذاك الموجود هناك، هِرِنّيوس روفينوس الذي لم يذرْ على الأرض أحدا أخسّ ولا ألأم ولا أقذر منه. سأُظهِر في بضع كلمات بقدر ما أستطيع من ضبط النّفس، ولأنّ الضّرورة تقتضي ذلك*، هذا الشّخص على حقيقته، كيلا يكون أضاع جهده سدى إن تغاضيتُ عنه كلّيّا، فهو الذي أشعل جذوة تلك الدّعوى باذلا في ذلك قصارى جهده. هوذا فعلا محرّض هذا الغلام الغرّ، هوذا مخطّط الدّعوى، هوذا موجّه محاميي خصمي، هوذا راشي الشّهود، هوذا الأتون الذي سُبكتْ فيه القضيّة بأكملها، هوذا مشعل إمليانوس وسوطه، بل إنّه ليفتخر أمام الجميع وبلا  تحفّظ، بأنّي بتدبيره مطلوب كمتّهم للقضاء. وله فعلا في تلك الخطط الماكرة ما يخوّله التّصفيق لنفسه إطراء فهو حابك كلّ الدّعاوي، ومختلق كلّ الأكاذيب، ومهندس كلّ الأباطيل، ومنبع كلّ الأسواء، بؤرة المفاسد والمخازي، ووجْر الخنا والفجور. فقد عُرف منذ مقتبل عمره بكلّ شين ومخزية: قديما في صباه وقبل أن يشوّهه هذا الصّلع، استلذّ مع واهصيه كلّ المنكرات، ثمّ انغمس في شبابه في لهو المسرح الرّاقص وميوعته الكسلى، لكن حسبما أسمع، في خمول يستمرئ الجهل ويقعد عن التّثقّف، إذ يقال إنّه لم يكن له من صفات الممثّل سوى الصّفاقة.

 

75- رسم كاريكاتوريّ لشخصيّة روفينوس

   بل حتّى الآن وفي مثل عمره- قاتله الآلهة، وحاشا آذانكم الكريمة- بيته ماخور بأتمّ المعنى، وكلّ أسرته تتمرّغ في الدّنس والفجور: هو سفيه عديم المروّة وامرأته بغيّ والولدان مثلهما. ليلا ونهارا تقرع بابه ركلات الشّبّان المستهترين، ويرابط حول نوافذه المجّان مغنّين مصطخبين، ويغشى مقصفه هواة الخضف والعربدة، وغرفة نومه مفتوحة لكلّ الزّناة. لا خوف على أحد من ولوجه، إلاّ إن لم يحمل معه للزّوج الأجر المعلوم. هكذا اتّخذ تدنيس مخدعه مورد رزق. كان الشّاطر يرتزق في الماضي من جسده واليوم من جسد امرأته بشكل سافر. فمعه هو، لا أكذبكم، أجلْ أقول: معه هو شخصيّا يتفاهم حول ليالي زوجته الكثيرون. وبين الرّجل وامرأته المعروفة للجميع اتّفاق: من يأت للحرم المصون بالأجر موفورا، فلا عين رأت، وله أن يرحل متى شاء. ومن يأت خاوي الوفاض، تُعط الإشارة فيُقبض عليه كزان، وكما لو أتى روّاد بيته إلى مدرسة للتّعلّم، لا يُخلى سبيلهم قبل كتابة شيء*.

   ولا غرو، فماذا يمكن أن يفعل ذلك التّعيس بعد تفريطه في ثروة لا يستهان بها، وإن كان قد أصابها على غير ما توقّع من تحيّل أبيه؟ إذ آثر أبوه المدين لعديد المقرضين المال على الكرامة: لمّا كان يطالَب من كلّ صوب بالدّفع طبق تعهّداته ويمسِك به كالمعتوه كلُّ من يلاقيه، يقول: "اسكت رجاء" وينكر قدرته على التّسديد. وتخلّى في تسوية عَقدَها مع دائنيه عن كلّ خواتيمه الذّهبيّة وكلّ شارات شرف طبقته. وفي تحيّل ذكيّ حوّل كلّ أملاكه باسم زوجته*. فخلّف، هو المعدم الأجرد المحميّ بخزيه، لروفينوس هذا- لا أكذبكم- ثلاثة ملايين درهم ليبذّرها. فقد أتاه ذلك المبلغ من تركة أمّه غير مثقل بدين، فضلا عمّا أمدّته به الحرم المصون من مهورها اليوميّة. مع ذلك دأب هذا البالوعة على تغييب كلّ تلك الموارد في جوفه وبدّدها على القصوف في بضع سنين، حتّى لتظنّه يخشى أن يقال إنّه يملك شيئا ممّا اكتسب أبوه بالغشّ. تدبّر هذا الرّجل الفاضل ذو الخلق العظيم* ليذهب في طرق منحرفة ما اكتُسب بطرق منحرفة، ولم يبق له شيء من تلك الثّروة الطّائلة غير فخفخته البائسة وبلعومه السّحيق.

 

76- بنت روفينوس

   بيد أنّ زوجته التي غدت عجوزا تقريبا وأنهكها شغل السّنين أبتْ أن تلتهم مفاسده البيت بأكمله. لكن لم يُجْد نفعا تداول البنت بحضّ أمّها بين الشّبّان الأثرياء الذين كانت تُسلّم إليهم كخطّاب محتملين للتّجربة، ولو لم تقع على طيبة بنتيانوس، لكانت على الأرجح تقعد حتّى الآن في عقر دارها أرملةً قبل الزّواج. وقد أعطاها بنتيانوس، رغم جهودنا لردعه، صفة الزّوجة الزّائفةَ الوهميّةَ، وإن لم يكن يجهل أنّ التي تزوّجها تخلّى عنها قبيل ذلك بعدما تخم منها شابّ محترم كانت سابقا خطيبته. لذا أتته عروس واثقة بنفسها جريئة، تجرّدتْ من الحياء، وتفسّخت نضرة عذرتها، وبليت طرحتها، بكرا من جديد بعد طلاقها الحديث، حاملة اسم الفتاة لا بكارتها. نُقلتْ إلى بيت زوجها على محفّة يحملها ثمانية خدم، ورأيتم بالتّحقيق أنتم الذين حضرتم أيّة نظرات خليعة كانت تجيل في الشّبّان حواليها، وكم كانت تتجاوز كلّ الحدود في تبرّجها أمام الحاضرين. من لم يتعرّف على تعليم الأمّ وهو يرى في البنت الفم المخضّب بالأصباغ والخدّين المطرّين بالمساحيق والعينين المفعمتين بالإغراء. كان مهرها قد أُخذ بالكامل إلى آخر فلس من مقرض في اليوم السّابق وأكبر بالتّأكيد ممّا يروم إعطاءَه بيت مستنزف ومليء بالذّراري.

 

77- خطّة روفينوس الجهنّميّة

   لكنّ ذاك النّذل بقدر ما هو محدود الموارد لامحدودُ المطامع، وبجشع  يضاهي عُدْمه التهم ملايين بودنتلّة الأربعة كلّها في استباق مغرور للأحداث، وفكّر في إزاحتي ليستغلّ بسهولة سذاجة بنتيانوس ووحودة أمّه، فطفق يقرّع صهره على تزويج أمّه لي. وأشار عليه بسحب قدمه بسرعة، وما دام الأمر متاحا، من الهاوية التي زعم، وأن يأخذ هو نفسه ثروة أمّه عوض تحويلها بعلمه إلى رجل غريب. وهدّد الدّاهيةُ العجوزُ الشّابَّ المدنفَ باستعادة ابنته إن لم يتصرّف كما أشار عليه، قاذفا بذلك في روعه هاجسا ناغزا. فيم الإطالة؟ حوّل الشّابَّ السّاذجَ الواقع فضلا عن ذلك في شباك مفاتن عروسه من نهجه إلى رأيه هو. فذهب إلى أمّه ينقل أقوال روفينوس. لكن عبثاً طلب منها ذلك، بل فوق ذلك أنّبته على نزقه وتقلّب آرائه. فعاد لِحميه بكلام خلا من كلّ مداراة: أنّه بالتماسه أثار غضب أمّه الهادئة المزاج خلافا لطبعها الوديع، وزادها إصرارا، وقد أجابته أن ليس خافيا على أحد أنّه طلب منها ذلك بإيعاز من روفينوس، ممّا يحدوها أكثر إلى الاستعانة بزوجها ضدّ جشعه المتكالب.

 

78- حتّى لو كتبتْ بودنتلّة أنّه سحرها لما كفى ذلك لإثبات التّهمة عليه

   لمّا سمع القلبطان قوّادُ زوجته هذه الأقوال استشاط غضبا ولشدّة ما كان يتميّز من الغيظ أخذ يتقوّل على تلك المرأة العفّة الطّهور بمحضر ابنها شتائم تحقّ على مخدعه هو بالأحرى، ناعتا إيّاها بالعاشقة المتصابية وإيّاي بالسّاحر ونفّاث السّموم على مسمع من عديد الشّهود الذين سأسمّيهم إن شئتَ، ومعلنا أنّه سيقتلني بيده. فبعزّة هرقل إنّي لا أكاد أتمالك نفسي من الغيظ وإنّ قلبي ليغلي من شدّة الاستنكار*. أتهدّد رجلا بإماتته بيدك أيّها الأخنث*؟ لكن قل ويحك: بأيّة يد؟ أبيد فيلوميلة* أم ميدية* أم كليتمنسترة* اللاّئي لمّا تمثّل أدوارهنّ تمثّلها بلا خنجر*: نعمْ إلى هذا الحدّ يصل بك خور نفسك وخوفك من السّلاح.

   لكنّي لن أتمادى أكثر في استطرادي. بعدما رأتْ بودنتلّة ابنها قد ركب هواه ضدّ رأيها بتأثير غيره، ذهبتْ إلى الرّيف، وكتبتْ له قصد تأنيبه رسالتها الشّهيرة التي ذكروا، حيث تقرّ حسب مزاعمهم أنّي بسحري أفقدتُها صوابها وأوقعتها في حبّي. لكنّا وجدنا كلّ ما جاء في تلك الرّسالة، التي نسخناها بأمر منك أمام شهود بمحضر كاتب بنتيانوس ومصادقة إمليانوس، مخالفا لمزاعمهم ومؤيّدا لي.

 

79- حتّى لو كتبتْ بودنتلّة أنّه سحرها لما كفى ذلك لإدانته

   رغم ذلك، حتّى لو افترضناها قالت عنّي محتدّة إنّي ساحر فمحتمل أن تكون، في محاولتها تبرير تصرّفها لابنها، آثرت التّذرّع بقوّة تأثيري على تعليله بإرادتها المحضة. وهل فيدرة* المرأة الوحيدة التي اختلقت رسالة كاذبة عن الحبّ؟ ألم تستخدم كلّ النّساء هذا الأسلوب، مفضّلاتٍ كلّما بدأن يبتغين شيئا من هذا القبيل أن يبدون كأنّهنّ مرغمات. بل حتّى لو فكّرتْ في قرارة نفسها أنّي ساحر أأُعدّ ساحرا لمجرّد أنّ بودنتلّة كتبتْ ذلك؟ أنتم، بكلّ أدلّتكم، وكلّ شهاداتكم، وبخطبتكم العريضة المستفيضة لا تثبتون عليّ تهمة السّحر، فهل ستثبته هي بكلمة واحدة؟ هذا والمفروض أن يُنظر إلى ما يتمّ إقراره في محكمة بجدّيّة فوق ما يُنظر به إلى ما يُكتب في رسالة. لِم لا تُثبت التّهمةَ عليّ استنادا إلى أفعالي بدلا من أقوال غيري؟ وإلاّ فعلى هذا المنوال سيُطلب الكثيرون للمحاكمة بشتّى التّهم، إن بات جائزا تصديق ما يكتب أيّ أحد في رسالة بدافع حبّ أو كراهية شخص آخر! "كتبتْ بودنتلّة أنّك ساحر: إذن أنت ساحر"! ماذا لو كتبتْ أنّي قنصل*، أأنا قنصل إذّاك؟ ماذا لو كتبتْ أنّي رسّام أو طبيب؟ ماذا أخيرا لو كتبتْ أنّي بريء؟ أتصدِّق شيئا من ذلك لمجرّد أنّها قالته؟ كلاّ بالتّأكيد. ثمّ إنّه حقّا لظلم عظيم أن تصدّق من أحد سيّء أقواله دون حسنها، وأن تجيز استخدام رسالته للتّجريم دون التّبرئة. يحتجّ: "لكنّها فقدت لبّها وصارت تحبّك حبّا أعمى". أسلّم بذلك مؤقّتا. لكن أيكون كلّ محبوب ساحرا إن اتّفق أن كتب محبّه ذلك؟ ها أنا بتُّ الآن أظنّ بودنتلّة لم تكن تحبّني يومئذ إن كتبتْ لطرف ثالث ما كان سيضرّ بي بالتّأكيد!

 

80- مفارقة الإقرار بالجنون. قراءة الجزء الأوّل من الرّسالة

   ثمّ قل ماذا تريد بالضّبط: أكانت عاقلة أم مخبولة لمّا كتبتْ ذلك؟ ستقول: "عاقلة"؟ إذن لم تكن تحت تأثير أُخذة سحريّة. ستجيب: "مخبولة"؟ إذن لم تكن تعي ما كتبتْ، ولا ينبغي والحال تلك استيثاقها. بل فضلا عن ذلك، لو كانت مخبولة لما كانت تعلم أنّها كذلك. فكما يأتي خُلْفاً من يقول إنّه ساكت لأنّه بكلامه ذاك ينفي سكوته وبتأكيده في حدّ ذاته ينقض ما يؤكّد، كذلك وبدرجة أكبر لمّا يقول: "أنا مجنون" فذلك غير صحيح ما لم يقله وهو يعي ما يقول، وعاقل لعمري من يدري ما هو الجنون، لكن من المحقّق أنّ الجنون لا يستطيع إدراك ذاته، كما لا يستطيع العمى رؤية ذاته. كانت بودنتلّة إذن تملك رشدها إن كانت تفكّر أنّها فقدته*. بوسعي التّمادي في هذه الاعتبارات لكنّي أدع الجدل جانبا. سأتلو الرّسالة نفسها التي تؤكّد شيئا يخالف ما زعموا بشأو كبير، وتبدو كما لو أنّها أُعدّتْ خصّيصا ورُتّبتْ بسابق تدبير لهذه المحاكمة. خذها واقرأها إلى أن أقاطعك. (...) أرجئْ قليلا ما يلي، فقد وصلنا إلى منعرج حاسم. إلى هنا يا مكسيموس، حسبما لاحظتُ، لم تذكر زوجتي السّحر قطّ، بل سردتْ نفس تسلسل الأحداث الذي ذكرتُ قبل قليل: عن ترمّلها الطّويل، وعن علاج صحّتها المتهاوية، وعن رغبتها في الزّواج، وعن مناقبي التي علمتْها من بنتيانوس، وعن نصحه هو نفسه بأن تتزوّجني بالتّفضيل على سواي.

 

81- روفينوس يقلب مضمون الرّسالة إلى ضدّه

   ذاك ما قُرئ علينا إلى هذا الحدّ. بقي قسم الرّسالة الذي كُتب بالمِثل دفاعا عنّي والذي يقلب الأسنّة في وجهي. مراده إبعاد شبهة السّحر عنّي، وروفينوس قد تفنّن في طمسه وببراعة فائقة حرّفه، ساعيا فوق ذلك إلى إثارة رأي بعض مواطني أوية ضدّي باعتباري ساحرا. سمعتَ الكثير بالمحادثة يا مكسيموس، وتعلّمتَ الكثير بالقراءة، واكتشفتَ الكثير بالتّجربة. لكنّك ستنفي قطعا أن تكون عرفتَ أبدا تضليلا بمثل ذلك الخبث، اختُلق بمثل ذلك المكر. أيّ بلاميدس* وأيّ سيزيفس* بل أيّ يوريباتس* أو فرونُنداس* أتى بمثله؟ فلو قارنّا كلّ الذين ذكرتُ وغيرهم ممّن عُرفوا بالدّهاء بمكيدة روفينوس هذه وحدها لبدوْا بالتّحقيق بُلْها وسُذّجا. أيّ افتراء عُجاب! وأيّ مكر كبّار حقيق بالسّجون والزّنازن! من يصدّق أنّ هذا يمكن حصوله؟ ما كان دفاعا يُحوّل، والرّسالة باقية على حالها، إلى اتّهام! أعجوبة لا تصدّق وحقّ هرقل! لكنّي سأبيّن عمّا قريب أنّ هذا الأمر المتعذّر تصديقه هو ما حصل بالفعل.

 

82- قلب الحقائق باجتثاث الكلِم من مواضعه

كان أساس تثريب الأمّ على ابنها بسبب ترديده إذّاك اتّباعا لرأي روفينوس أنّي ساحر، أنا الرّجل الذي مدح لها هو نفسه. وقد جاءت الكلمات بهذا النّحو حرفيّا: "أبوليوس ساحر. سحرني ووقعت في الحبّ. تعال إليّ ما دمتُ أعقل."^ هذه الكلمات التي ضمّنتها باليونانيّة اخترمها روفينوس واقتطعها من سياقها، ومضى يطوف عبر ميدان القصبة، جارّا بنتيانوس وهو يبكي خلفه، ويريها للنّاس على أنّها اعتراف صريح من زوجتي، ويعرض للقراءة فقرة رسالة زوجتي تلك إلى الحدّ الذي ذكرتُ، مخفيا ما كُتب قبلها وبعدها، مردّدا أنّه أفظع ممّا أَظهرَ، وأنّه يكفي أن يعلم النّاس اعتراف زوجتي بممارستي السّحر. فيم التّدقيق؟ بدا الأمر راجحا للجميع. ما كُتب لتبرئتي أثار عليّ بغضا شديدا لدى السّوقة الجهلة. مضى السّافل يعربد وسط الميدان ويفتح الرّسالة مرارا صائحا: "أبوليوس ساحر. تقول ذلك زوجته نفسها التي تعلمه وتعاني منه. فماذا تريدون فوق ذلك؟" لم يكن يوجد هناك من يساندني رادّا: "رجاءً، أرنا الرّسالة كاملة. اسمح لي برؤية كلّ ما فيها، بقراءتها من الأوّل إلى الآخر. فرُبّ قول إن أورد بمعزل عن سياقه بدا فرية مغرضة. يمكن حقّا تجريم كلام أيّ منّا إن جُرّدت أقواله المرتبطة بما قبلها من مقدّماتها قصد التّحريف، إن حذفنا اعتباطا بعض الجمل من سياق النّصّ وقرأنا ما كُتب للتّوبيخ بلهجة المؤكّد لا المستنكر." كان يمكن يومئذ ذكر هذه الأمور وما شابهها إحقاقا للحقّ. وهو ما يبيّنه سياق الرّسالة ذاته.

 

83- تصحيح النّصّ بردّه إلى سياقه وتنبيره باللّهجة المناسبة

   فاعترفْ يا إمليانوس أنّك نسخت معي وأمام شاهد ما يلي*: "كنتُ أرغب في الزّواج للأسباب التي ذكرتُ لك. ولإعجابك بهذا الرّجل وحرصك على إقامة علاقة أسريّة بيننا، أقنعتني بتقديمه على كلّ الآخرين. أمّا الآن بعدما أضلّك شانئونا المكرة، فجأة ها أنّ أبوليوس ساحر! سحرني ووقعت في الحب! تعال إليّ ما دمت أعقل!"^ أسألك يا مكسيموس، لو كان للحروف صوت خاصّ بها- كما يقال مثلا عن الحروف المصوّتة-، لو كانت للكلمات- كما يزعم الشّعراء- أجنحة فتطير أمام النّاس، ألا ترى، لمّا استشهد روفينوس بتلك الرّسالة بنحو انتقائيّ غير أمين، قارئا أقلّها وكاتما أكثرها وأحسنها، أنّ الحروف الأخرى كانت ستعلن بأعلى صوتها أنّها أُخفيت ظلما وعدوانا، وستطير الكلمات المحذوفة بعيدا من يديْ روفينوس، فتملأ ساحة القصبة بأكملها بضجيجها: "أنّها هي أيضا أُرسلتْ من قبل بودنتلّة، ولها هي الأخرى ما كُلّفت بتبليغه، وألاّ يصدّق النّاس ذلك الرّجل عديم الأمانة قبيح الفعال في محاولته تحريف رسالة غيره، بل يستمعوا بالأحرى إلى قولها هي: بودنتلّة لا تتّهم أبوليوس بالسّحر بل تبرّئه من هذه التّهمة التي يوجّهها إليه روفينوس."* ولئن لم يتمّ يومذاك ذكر كلّ هذه الاعتبارات، فإنّها تنجلي اليوم، حيث هي أجدى، أسطع من الضّياء. ها قد ظهرتْ كلّ ألاعيبك يا روفينوس، وها قد انفكّتْ أحابيلك، وانكشفت أكاذيبك، وحصحص الحقّ بعد انطماس وزهق الباطل كما لو طواه غمر سحيق.

 

84- مزيد من التّوضيحات

   استشهدتم برسالة بودنتلّة. وهأنذا أهزمكم بنفس تلك الرّسالة التي إن شئتم الاستماع إلى خاتمتها فلن أمانع. اقرأْ بأيّة ألفاظ اختتمت الرّسالةَ المرأةُ المسحورةُ المخبولة المجنونة العاشقة*: "أنا لم أُسحَر ولستُ بالعاشقة. ذاك قدري."^ أبِكُمْ حاجة إلى المزيد؟ بودنتلّة تكذّبكم وتعلن بأعلى صوتها، كالمنادي، سلامة عقلها ضدّ تخرّصاتكم، وإضافة إلى ذلك تعزو علّة أو موجب زواجها للقدر الذي يَبعد السّحر عنه كثيرا بل إنّه يستبعد السّحرَ كلّيّا. إذ أيّة قوّة تبقى للرّقى والعقاقير إن كان القدر كالسّيل العارم لا سبيل إلى احتوائه ولا إلى دفعه؟ بقولها هذا نفتْ بودنتلّة لا تهمة السّحر عنّي فقط، بل وجود السّحر أصلا.

   حسنٌ أن احتفظ بنتيانوس برسالة أمّه كعادته، وحسنٌ أن استبقتْكم سرعة المحاكمة فلم يتسنّ لكم أن تغيّروا على رسلكم شيئا من الرّسالة. يعود الفضل في هذا إليك يا مكسيموس وإلى حيطتك وتدبّرك، فمنذ البداية أدركتَ حقيقة افتراءاتهم، فسارعتَ كيلا يعزّزها مرّ الزّمان ودمّرتَها من الأساس دون منحها أيّة مهلة. تصوّر الآن فرضا أنّ الأمّ كشفت في رسالة سرّيّة لابنها شيئا عن حبّها. أكان من الجائز يا روفينوس، أكان، لا أقول من البِرّ بل على الأقلّ من المروءة كشف تلك الرّسالة ونشرها، وبإشهار ابنها خصوصا؟ لكن ألستُ أحمق إذ أطلب منك صيانة عرض غيرك أنت الذي فرّطتَ في عرضك؟

 

85- التّشنيع على بودنس لكشف رسالة أمّه أمام النّاس

   لكن ما لي أشكو من الماضي، والحاضرُ أمرّ وأدهى؟ أيصل إفسادكم ذلك الغلام التّعيس أن يقرأ رسالة أمّه وهو يظنّها تتعلّق بغراميّاتها في محكمة الإقليم وعلى مسمع رجل بجلال كلوديوس مكسيموس، وأمام تماثيل الامبراطور بيوس* يتّهم الابن أمّه بمخاز مخجلة وقصص غراميّة؟ من منّا بارد الطّبع إلى درجة أنّ هذا لا يثيره؟ أتتلقّط يا لئيم في تلك الرّسالة خلجات ضمير أمّك؟ أتراقب عينيها؟ أتعدّ تنهّداتها؟ أتتلصّص  على عواطفها؟ أتعترض مراسلاتها؟ أتقيّد وجدانها؟ أتحقّق في ما تفعل في مخدعها كيلا تُعَدّ أمّك لا أقول عاشقة بل ولا حتّى امرأة بتاتا؟ أتفكّر أنّ نفسها لا تتّسع لغير آصرة الأمومة المقدّسة؟* وابؤس رحمك يا بودنتلّة! العقم ولا الضّنا! شاهت الأشهر العشرة*! وبئست أعوام التّرمّل الأربعة عشر! أسمع أنّ الأفعوان يتسلّل من رحم أمّه إلى النّور ناهشا جنبها، بحيث يولد بجرم في حقّ أمّه*. لكنّك تتلقّين وأنت حيّة تنظرين لدغاتٍ ألذع وأوجع من ابنك الذي بلغ الحُلُم! هُتك سترك، وانتُهك عرضك، وانتُبش صدرك، وبُعثر ما في حشاك! أبهذا تجازي شأن الولد البارّ أمّك التي وهبتك الحياة وحفظت لك إرث أبيك وانقطعت لتربيتك أربعة عشر حولا بالتّمام؟ ألقّّنك هذه الدّروس عمّك كيلا تُقدم على الزّواج إن اكتشفتَ أنّك ستنجب أبناء يكونون مثلك؟ هناك ذاك البيت الذي لا يجهله أحد: "أبغض الغلمان الذين اكتسبوا الحكمة قبل أوانها"، فمن لا يمقت ويبغض في المقابل غلاما اكتسب المكر قبل أوانه، إذ يرى فيه وحشا صلب العود بالإجرام لا بالأعوام، فعّالا للأذى ولمّا يبلغِ الكفاءة، في شرخ الصّبا ومكر المشيب؟ بل يزيد مضرّتَه أنّه مسموح له بالإيذاء لأنّه لمّا يبلغْ أهليّة العقاب، وإن توفّرت فيه الكفاءة للإساءة. أقول الإساءة؟ كلاّ بل الجريمة البشعة النّكراء الأشنع من أن تُحتمل في حقّ والدته.

 

86- إشهار بودنس رسالة أمّه جريمة نكراء

   بسبب قانون الإنسانيّة المشترك منع الأثينيّون أن تُقرأ إحدى رسائل عدوّهم فيليب المقدونيّ التي احتجزوها لقراءة كلّ واحدة منها أمام عموم المواطنين، كان قد كتبها إلى زوجته أولمبياس*، مفضّلين إعفاء عدوّهم على نشر سرّ الزّوجيّة، ومعتبرين أنّ قانون الإنسانيّة المقدّس مقدَّم على حقّهم الخاصّ في الانتقام. كذلك تصرّف أعداء ضدّ عدوّهم، وكذلك تصرّفتَ أنت الابن ضدّ والدتك. ترى أنّي أؤكّد تشابه الموقفين. إلاّ أنّك أنت الابن قرأتَ رسالة أمّك التي كتبتها حسب زعمك عن حبّها في هذا الجمع الذي لو طُلب منك أن تلقي عليه قصيدة لشاعر خليع لما جرؤتَ بالتّحقيق إذ كان سيمنعك عن ذلك شيء من الحياء. بل ما كان لك أن تلتقط أبدا كتاب أمّك، هذا لو كنتَ تلتقط مثله في مجال آخر*.

   ما أنكرَها جسارةً أن تعطي رسالتك بنفسك لتُقرأ، وما أعظمَها وقاحة وما أكبرها إساءة وما أقبحها مخزية أن تكون الرّسالة كُتبتْ عن أمّك التي ترعرعتَ في حضنها إلى هذا اليوم. وقد أرسلتَها سرّا إلى بنتيانوس* بالتّأكيد كيلا تكون قد أجرمتَ مرّة واحدة ويطوي النّسيان ذيّاك الصّنيع الجميل لك. أما فهمتَ يا شقيّ أنّ عمّك سمح لك بفعل ذلك ليبرّئ نفسه لاحقا عند النّاس، إن يعلموا من رسالتك أنّك حتّى قبل الانتقال إلى بيته، وحتّى وأنت تُظهر التّودّد لأمّك، كنتَ ثعلبانا مداجيا غدّارا؟