أبوليوس

 

المرافعة

 

الفصول 42-61

 

حواش 

 

 

 

 

 

 

5

4

3

2

1

مقدّمة

 

42- تهمة سحر الغلام

   أما وقد انكشفتْ أسماكهم بنحو كاف، فهاك فريةً تماثلها حماقةً لكنّهم اختلقوها بمكر أكبر. عرفوا هم أيضا أنّ حجّة الأسماك ستتبيّن سخافتها ولاجدواها، فضلا عن غرابتها المضحكة- فعلا: من سمع بأنّ السّمك تزال حراشفه وأحساكه لإعداد رقى بقصد الإيذاء؟- ويتعيّن اختلاق فرية أخرى من الأمور الشّائعة التي يصدّقها العامّة بالأحرى. لذا زعموا، في وفاق مع الأفكار الشّائعة المتناقلة بدون تثبّت، أنّي عزّمتُ في مكان خفيّ بعيدا عن أيّ شهود على غلام كان يقف أمام مذبح ومصباح وبضعة شهود عيان، فلمّا ذكرته في تلك التّعاويذ تهافت غائبا عن الوعي ثمّ تمّ إيقاظه. بطبيعة الحال لم يجرؤوا على مواصلة الخرافة: فلتكتمل كان يجب أن يضيفوا أنّ ذلك الغلام هذى بتنبّؤات عديدة وهو في حالة الخطف النّبويّ.

   نقبل بالتّحقيق فائدة العزائم المذكورة أعني التّنبّؤ والعرافة، لا استنادا إلى ما يتناقل العامّة من شائعات فقط بل تؤيّد ذلك أيضا أقوال العلماء الثّقاة. أذكر أنّي قرأت عند الفيلسوف وارّون*- وهو رجل موثوق بعلمه واسع الاطّلاع- بين أنباء أخرى خبرا عن صبيّ في ترالّيس* كان ينظر إلى صورة مركوريوس في الماء* ويجيب على أسئلة النّاس المتجمّعين لاستشارته حول الحرب ضدّ متريداتس*، منشدا في مائة وستّين بيتا من الشّعر الأحداث الآتية. وأنّ فابيوس* يوم أضاع خمسمائة دينارا أتى يستشير نيقيديوس* فكشف له صبيان بإمر العرّاف أين دُفنت الصّرّة مع جزء من المال وكيف وُزّعت البقيّة، وكذلك أنّ أحد تلك الدّنانير كان بحوزة الفيلسوف مرقس كاتون الذي اعترف فعلا باستلامه من خادمه عطيّة لأبولّون*.

 

43- الغلام مصاب بمرض الصّرع وسقوطه بمحضره محض صدفة

   أقرأ لا محالة هذا وغيره عند كثير من الرّواة عن السّحرة والصّبيان. لكنّي أتردّد في اتّخاذ موقف حوله أأقبل أم أنكر إمكان حدوثه وإن كنت أصدّق أفلاطون الذي يقول بوجود بعض القوى فوق الطّبيعيّة الوسيطة بين الآلهة والبشر طبيعة ومقاما هي التي تحكم شتّى ألوان الكهانة وما يأتي السّحرة من خوارق الأعمال. أرى كذلك أنّ النّفس البشريّة- سيما نفس الصّبيّ التي احتفظت بنقاوتها- يمكن بنشوة التّرانيم أو سكر الرّوائح- تنويمها وجرّها إلى نسيان الظّروف الحاضرة وإعادتها، بإبعاد ذكرى الجسد قليلا، إلى طبيعتها الأصليّة التي هي قطعا إلهيّة وخالدة فيتسنّى لها التّنبّؤ بأحداث المستقبل وهي في شبه الغيبوبة.

   لكن لتتحقّق فعلا هذه الإمكانات- إن كان علينا أن نمنح ثقتنا لهذه الأخبار-، يُستحبّ حتما أن يكون ذلك الغلام الأعجوبة الصّادق النّبوءة- على ما يقال- بهيّ الجسم سليمه ذكيّ الفؤاد فصيح اللّسان، ليكون أهلا لتقيم فيه البركة الإلهيّة كما في معبد مهيب، هذا على افتراض حلولها في جسم الغلام، أو أن تستفيق نفسه فتستردّ بسرعة ملكة استشراف المستقبل المركّبة فيها أصلا والتي تسهل استعادتها إذ لم تعتلّ وتتبلّد بالنّسيان. فكما قال فيثاغور ما كلّ خشب يصلح لنحت تمثال لمركوريوس.

   إذا كان الأمر كذلك، فسمّوا من كان ذلك الغلام المشعّ صحّة والمعافى من كلّ علّة، المتوقّد ذكاء وامتألّق وسامة، الذي نسبوا لي شرف وضعه بسحري على طريق الكشف. الحقّ أنّ تالّوس الذي ذكرتم بحاجة إلى طبيب لا إلى ساحر. فالمسكين مصاب بمرض الصّرع حتّى أنّه غالبا ما يغمى عليه ثلاث أو أربع مرّات باليوم بدون أيّة عزائم، ويوهن باختلاجات الصّرع كلّ أعضائه، ويتشنّج وجهه ويهتزّ بعنف رأسه وقذاله، وتزيغ عيناه وينفتح منخراه وتتداعى قدماه. وإنّه لأقدر السّحرة طرّا لعمري ذاك الذي بقي تالّوس بحضرته واقفا طوال تلك المدّة، فإنّ مرضه الشّبيه بالتّهويم يميل به غالبا إلى الانتكاس.

 

44- غياب الغلام

   لكنّكم زعمتم أنّ عزيمتي أوقعته على الأرض لأنّه وقع صدفة بمحضري. وقد حضر كثير من رفاقه الأرقّاء، هم الذين طلبتم إحضارهم كشهود. يمكنهم جميعا أن يقولوا لماذا يشمئزّون من تالّوس، لماذا لا يجرؤ أيّ منهم على الأكل معه في نفس الصّحفة والشّرب في نفس القدح. لكن لِم أذهب إلى العبيد وأنتم ترون الأمر بأنفسكم: فأنكروا أنّ تالّوس قبل مجيئي بأمد طويل كثيرا ما كان يتهاوى بسبب مرضه، وعُرض على الأطبّاء مرارا. لينكرْ ذلك رفاقه في الرّقّ الذين هم في خدمتكم.

   سأعترف بكلّ تهمكم لولا أنّه أرسِل بعيدا منذ زمن إلى الرّيف في ضياع قصيّة مخافة تسرّب العدوى إلى بقيّة الخدم. ذاك ما لا يستطيعون إنكار حصوله بالوجه الذي ذكرت. لذا تعذّر علينا إحضاره اليوم. فقد كانت هذه التّهمة ككلّ الأخر قذفا بهوتا ومباغتا. أوّل أمس فقط أخطرنا إمليانوس أن نحضر أمامك خمسة عشر خادما، حضر منهم أربعة عشر كانوا في المدينة. تالّوس وحده تغيّب كما ذكرتُ لأنّه أُقصي على بعد مائة ميل تقريبا، لكنّا بعثنا من سيأتي به في عربة. فسلْ يا مكسيموس العبيد الأربعة عشر المعروضين أمامك أين هو ذاك الغلام تالّوس، وكيف هي حالته الصّحّيّة. سلْ عبيد المدّعين عليّ.

   لن ينكروا أنّه غلام لا أبشع ولا أدمّ، نخر الجسم معتلّه، متداع، جلف بليد. اخترتم حقّا غلاما رائع البهاء إلى مثله يلجأ المرء لتقديم قربان، ويتمسّح برأسه، ويُلبسه رداء طهورا، ويرتجي منه تبليغ أجوبة الآلهة. ليته وحقّ هرقل حضر معنا اليوم. إذن لسلّمته لك يا إمليانوس ولأمسكتُه حتّى تلقي عليه أسئلتك ولأدار إذّاك نحوك وسط الاستجواب، هنا في نفس هذا المكان وأمام هيئة المحكمة، عينين جافلتين، وأرغى غامرا وجهك برشاش لعابه، وقلّص يديه ورجرج رأسه ثمّ انهار بين ذراعيك.

 

45- حتّى لو كان الغلام حاضرا لما سمح حضوره بإثبات التّهمة

   هأنذا أعرض الخدم الأربعة عشر الذين طلبتَ. لِم لا تستخدمهم لإلقاء أسئلتك؟ تطلب غلاما واحدا، مريضا بالصّرع تعلم مثلي غيابه منذ مدّة. أيّ إفك أوضح من هذا وأجلى؟ أربعة عشر خادما حضروا بطلبك أنت عنهم تتلهّى وخادم واحد تغيّب فذاك تنعي غيابه. ماذا تريد في نهاية الأمر؟ تصوّر تالّوس حاضرا: أتريد إثبات وقوعه على الأرض بمحضري؟ أُقرّ بذلك تلقائيّا. تقول إنّ ذلك وقع بعزيمة؟ الغلام يجهل ذلك، وأنا أنفي وقوعه. لن تجرؤ على إنكار مرض الغلام بالصّرع فلِم تعزو انهياره للسّحر بدلا من مرضه؟ أما أمكن أن تنتابه أمامي عرضا نوبة كما يقع له تكرارا في ظروف مختلفة أمام العديدين؟

   إن تصوّرتُ إذن إيقاع مريض بالصّرع عملا عظيما فلِم احتجتُ إلى عزيمة بينما تسمح حجارة متّقدة من السّبج، حسبما أقرأ لدى علماء الطّبيعة*، بالتّثبّت جيّدا وبسهولة من هذا المرض الذي من الرّائحة يتمّ التّأكّد عادة في سوق العبيد من سلامة البضاعة منه أو إصابتها به؟ كذلك يدوّخ دوران دولاب الخزّاف بسهولة شخصا بمثل حالته الصّحّيّة، إذ يسبّب مشهد دورانه لنفسه السّقيمة الغثيان. وإنّ الخزّاف لأنسب حقّا من السّاحر لإسقاط مرضى الصّرع.

  بلا طائل طلبتَ منّي إحضار الخدم. أطلب، ولا أعدم مبرّرا، أن تسمّي أيّ شهود حضروا هذا الطُّقس التّكفيريّ لمّا دفعتُ تالّوس المتهاوي. لا تسمّي منهم جميعا غير سيكينوس بودنس ذاك الغلام الذي باسمه ترفع عليّ دعواك. يقول فعلا إنّه كان حاضرا ولئن لم تمنع حداثته الثّقة بشهادته فإنّ وضعه كمدّع يمسّ بمصداقيّته. كان أسهل يا إمليانوس وأكثرَ جِدّا أن تزعم أنّك أنت كنتَ حاضرا وبدأتَ منذ ذلك الطُّقس تُجنّ من إسناد كلّ شيء للغلمان كما لو كان لعبا: سقط غلام، رأى غلام، فهل تلا العزيمة كذلك غلام؟

 

46- تحدّي محامي المدّعي

   ما كان من تنّونيوس بودنس لمّا رأى هذه الكذبة تستنفد هي الأخرى وقودها وتثير الاستهجان كما بدا من همهمة ووجوه الجميع، إلاّ أن زعم بنحو لا يخلو من الفطنة ولإبقاء شبهاتهم حائمة في انتظار ما يجدّ أنّه سيحضر غلمانا آخرين سحرتهم بعزائمي هم أيضا. هكذا انتقل إلى نوع آخر من الحجج.

   كان بوسعي تجاهل هذه التّهمة، لكنّي أثيرها تلقائيّا لأبيّن سخفها ككلّ تهمهم. أريد منه فعلا إحضار أولئك الغلمان الذين أسمع أنّه حضّهم على الكذب واعدا بعتقهم. بيد أنّي لن أزيد عمّا قلت: ليحضروهم. أطلب وألحّ يا تنّونيوس بودنس أن تفي بما وعدت. هات أولئك الغلمان الذي عليهم معوّلك. هاتهم، سمّ من هم. لك أن تستخدم ماء ميقاتي لهذا الغرض. هيّا انطق، أقول لك يا تنّونيوس. لِم تخرس؟ لِم تتردّد؟ لِم تحملق؟ ماذا يا إمليانوس لو غاب عن محاميك ما لقّنته أو نسي الأسماء التي علّمته؟ لكن دع عنك هذا وقل ما أوعزتَ إلى موكَّلك قوله. أرنا الغلمان! لِم شحبتَ؟ لِم تخرس؟ أهذا تقديم دعوى؟ أهذا مقاضاة جريمة كبرى أم ضحك على رجل بمثل مهابة كلوديوس مكسيموس، وتماد في ثلبي؟ ربّما غلط محاميك وليس عندك أيّ غلمان تقدّمهم، فاستخدمْ على الأقلّ العبيد الأربعة عشر الذين أحضرتُهم!

 

47- وجود عدد كبير من الشّهود يتنافى مع سرّيّة السّحر

   وإلاّ فقل لماذا طلبتَ إحضار كلّ هؤلاء العبيد. طلبتَ إذ اتّهمتني بالسّحر إحضار خمسة عشر عبدا، فكم كنت ستطلب منّي لو اتّهمتني بالعنف؟ يعرف إذن خمسة عشر من العبيد أمرا ويبقى سرّيّا؟ أم تُراه ليس سرّيّا وهو سحريّ؟ لا بدّ أن تقبل بأحد أمرين: إمّا لم آت محظورا فليس عليّ إذّاك ما أخشى من هذا العدد من الشّهود، وإمّا أتيته فما كان ينبغي السّماح حينئذ بأن يعلمه كلّ هؤلاء الشّهود.

   السّحر الذي تذكرون هو، على ما أسمع، شأن موكول للقوانين، ممنوع من قديم الزّمان في الألواح الاثنتي عشر*، لإغرائه النّاس بالأمل الكذوب في نيل فوائد عظمى، لذا فهو سرّيّ ميّال إلى التّخفّي بقدر ما هو فظيع ومريع، ولطالما سهر اللّيالي وتستّر بجنح الظّلام واختلى لتجنّب الشّهود وخافَت بتعاويذه، ولا يُدعى إليه قلّة من العبيد وحتّى الأحرار. وأنت تريد أن يكون خمسة عشر عبدا شهدوا ما جرى! ويحك أكان ذلك زفافا أو مهرجانا أو وليمة ممتدّة على فترة طويلة؟ خمسة عشر عبدا يشاركون في طُقس سحريّ، كما لو كانوا لجنة الخمسة عشر المكلّفين بقيادة الشّعائر*؟

   لكن لِم دعوتُ كلّ ذلك العدد وهو أكثر ممّا تقتضي السّرّيّة؟ خمسة عشر من المواطنين شعب بأتمّه، وخمسة عشر من العبيد طاقم بيت بأكمله، وخمسة عشر من المساجين مجموعة نزلاء سجن بأسرها. أفكنتُ بحاجة إلى تلك الكثرة منهم ليمسكوا على امتداد الطّقس ذبائح الكفّارة؟ لكنّك ما ذكرتَ ذبائح سوى الدّجاج*! أم تُرى ليعدّوا حبوب البخور، أو ليطرحوا تالّوس أرضا؟

 

48- اتّهامه بسحر امرأة

  زعمتم كذلك أنّ امرأة حرّة بنفس حالة تالّوس أُحضرتْ إلى بيتي ووعدتُ بشفائها وخرّتْ هي الأخرى مغشيّا عليها لمّا سحرتُها. جئتم كما أرى تتّهمون مصارعا لا ساحرا! إذ زعمتم أنّ كلّ قاصديّ وقعوا. لكنّ تميسون الطّبيب الذي جاء بتلك المرأة لأكشف عليها نفى لمّا سألتَه أن يكون حصل لها شيء سوى أنّي سألتها إن كانت أذناها تطنّان وأيّتهما أكثر طنينا فردّتْ بأنّ أذنها اليمنى تزعجها كثيرا وذهبتْ حالا.

   هنا، يا مكسيموس، ومع اجتهادي لأكبح نفسي عن تقريضك الآن كيلا أبدو بوجه ما كأنّي أتملّقك، لا أودّ المرور دون الثّناء على براعتك في الاستجواب: فقبل حين لمّا أثاروا هذه المسألة وادّعوا أنّي سحرتُ المرأة فنفى الطّبيب الذي كان حاضرا أقوالهم، سألتَ بمنتهى الحصافة أيّة فائدة أجني من سحرها، فردّوا: "لتقع المرأة". سألتَهم إذّاك: "وبعد؟ هل ماتت؟" فأجابوا بالنّفي. "ماذا تقولون إذن؟ أيّة مصلحة لأبوليوس في وقوعها؟" هكذا سألتَهم بفطنة حقّا وإلحاح للمرّة الثّالثة، لعلمك بأنّه يجب فحص دوافع كلّ الوقائع بتروّ، وأنّه كثيرا ما يُحقَّق في الدّوافع ويُسلَّم بالوقائع، ولهذا السّبب بالذّات سُمّي المحامون في النّزاعات مدافعين* إذ يُبيّنون الدّوافع التي تقف خلف كلّ الوقائع. الحقّ أنّ إنكار واقعة أمر سهل ولا يحتاج إلى محام. لكنّ إثبات ما إذا كان ذلك الفعل تمّ بدافع حسن أو سيّئ أمر شاقّ ومستعص. لا جدوى إذن من البحث في حقيقة حصول ما تقولون، إذ لا توجد دوافع سيّئة لحصوله. هكذا يُعفى المتّهم بجريمة لدى قاض كفء من قلق التّحقيق إن لم يكن له داع لفعلها.

   أما وقد عجزوا عن إثبات أنّ تلك المرأة سُحرت أو أوقعت ولست أنكر من جهتي أنّي فحصتها بطلب الطّبيب، سأقول لك يا مكسيموس لماذا سألتُها عن ذلك الطّنين في أذنيها. لا أفعل ذلك لتبرئة نفسي في أمر قد حكمتَ بأنّ لا شبه له بالجنحة ولا الجناية، بل كيلا أمرّ دون ذكر شيء جدير بأن تسمعه أذناك ويوافق علمك وسمْتك. سأفسّر ذلك بما أستطيع من الإيجاز. فإنّما أنا لك مذكّر لا معلّم.

 

49- أسباب الأمراض

   شاد الفيلسوف أفلاطون في حواره الشّهير "تيماوس" العالم بأكمله ببلاغة رائعة، وبعدما ميّز في النّفس الإنسانيّة بحصافة ثلاث قوى، وعلّمنا بسداد مقاصد العناية الإلهيّة في صنع كلّ أعضائنا، صنّف كلّ الأمراض إلى ثلاثة أسباب. ردّ الأوّل إلى أصل الجسد، إن لم تتّفق خصائص أخلاطه: البرودة والرّطوبة وضدّاهما، وهو ما يحدث كلّما تجاوز أحدها حدّه أو انتقل من محلّه. يكمن سبب الأمراض التّالي في فساد تلك الأخلاط المؤلّفة من عناصر بسيطة تجمّعت في صنف واحد كالدّم والأمعاء والعظم والنّخاع وغيرها من المكوِّنات التي هي مشيج من تلك العناصر البسيطة. ثالثا تشكّل بلاغم المرارة المتغيّرة والنّفَس المعتكر والخلط الثّخن أقوى بواعث الأمراض.

 

50- منشأ مرض الصّرع

   من ضمن هذه الإفرازات المادّة الرّئيسيّة لمرض الصّرع الذي بدأت به حديثي، لمّا يبدأ اللّحم بتأثير حرارة ضارّة في التّرهّل متفسّخا إلى خلط ثخين راغ، ومن النّفَس المتولّد من نفس المصدر بتأثير وهج الهواء المضغوط، يسيل صديد مائل إلى البياض ومنتفش. فإن نضح إلى خارج الجسم، تسرّب وكانت النّتيجة تشوّها أكثر ممّا هي ضرر. فيغشى بالقوبة بشرةَ الصّدر ويرقّشه بشتّى البثور. لكنّ من يأتيه الدّاء بهذا الشّكل لا يصاب لاحقا بمرض الصّرع. بذلك يستبدل سقما خطيرا للنّفس بدمامة هيّنة للبدن.

   لكن إن احتبس بالدّاخل ذلك البلغم واختلط بالمرارة السّوداء فانتشر مندفعا في كلّ العروق، ثمّ شقّ طريقه في احتدام إلى أعلى الرّأس، فنفذت إلى الدّماغ مادّته الفظيعة، أوهن في الحال جزء النّفس الملكيّ المستمدَّ من العقل قوّتَه، والمقيم في رأس الإنسان كما في قلعة أو سرادق، فغشي وعتّم مسالك الألوهة ومناهج العرفان. وهو ما يفعل بأذى أقلّ أثناء النّوم لمّا يغطّ باعتدال صدور الأشخاص الممتلئين بالشّراب والطّعام بخناق هو بُداءة الدّاء المشؤوم. لكن إن تطوّر إلى حدّ الانتشار إلى رؤوس الأشخاص الصّاحين، فإذّاك يغيبون عن الوعي وقد تلبّدت أذهانهم فجأة ويتداعون خائري الأجسام غائبي النّفوس. يدعو علماؤنا هذا الدّاء المرض الأكبر والصّرع وكذلك المرض الإلهيّ تماما كما يدعوه اليونان محقّين "المرض المقدّس"^* باديَ الرّأي لأنّه يصيب جزء النّفس العاقل الذي هو الأشرف والأقدس.

 

51- تشخيص الصّرع وتقييم خطورته

   تتعرّف يا مكسيموس تفسير أفلاطون الذي شرحتُه بما استطعت من الوضوح باعتبار الوقت المتاح لي. وقد وجدتُ لديه فكرة أنّ المرض الإلهيّ ينشأ لمّا يطغى هذا الخِلط الموبوء فيجتاح الرّأس. لذا لم يبد لي اعتباطا أن أسأل إن كانت تلك المرأة تشكو من ثقل برأسها وخدر برقبتها ووجيب بصدغيها وطنين بأذنيها. زيادة على ذلك، كان إقرارها بأنّ طنين أذنها اليمنى أكثر تكرّرا علامة على تغلغل المرض عميقا في كيانها. ذلك أنّ أعضاء الجسم اليمنى أقوى، ولذلك فهي تدع أملا أدنى في الشّفاء إن وقعت بدورها فريسة المرض. وقد ترك لنا أرسطوطاليس مدوّنا في "مسائله" أنّ من باشر المرض جانبهم الأيمن يصعب شفاؤهم. وسيطول بي عرض رأي تيوفرسطوس حول نفس المرض إن شئتُ عرضه. فله هو الآخر كتاب جيّد عن مرضى الصّرع. وبعكس معلّمه ذكر لهم دواءً في كتاب آخر له عن الحيوانات المضاغنة أثواب الأورال التي تسلخها في أوقات محدّدة كبقيّة الزّواحف المكتهلة. لكن إن لم ينتزعها المرء فورا، تستدرْ في الحال وباستشعار ماكر أو بشاهية فطريّة تلتهمها.

   ذكرتُ رأيي هذين الفيلسوفين الجليلين وسمّيتُ بدقّة كتبهما، ولم أشأ الإشارة إلى أيّ من الأطبّاء أو الشّعراء ليكفّ أولئك الجهلة عن استغراب معرفة الفلاسفة بأسباب الأمراض وأدويتها بناء على مذاهبهم. وبما أنّ المرأة المريضة أُحضرت لي لأفحصها وعلى أمل أن أعالجها، وأنّ هذا ما كان ينبغي فعله حسب الأصول باعتراف الطّبيب الذي أتى بها إليّ وبإثبات استدلالي، عليهم إمّا تبيين أنّ من عادة السّحرة والمكرة علاج الأمراض، وإمّا الاعتراف- إن أعوزتهم الجرأة على قول ذلك- بأنّهم قالوا بشأن الغلام والمرأة مريضيْ الصّرع افتراءات باطلة ومتهافتة* تماما.

 

52- تشبيه إمليانوس بمريض الصّرع

   لذا إن أردتَ الحقّ يا إمليانوس أنت المتهافت بالأحرى، إذ تهافتّ بهذا العدد من التّخرّصات. وليس أسوأَ حقّا أن يهوي المرء بجسمه من أن يهوي بمهجته، ولا أن يتداعى برجله من أن يتداعى بذهنه، ولا أن يُنبَذ في الفراش مذؤوما من أن يكون محلّ كراهية الجميع في مثل محفلنا الجليل. لكن ربّما حسبتَ نفسك سليما لأنّك لم تُعزل بالبيت، والحال أنّك تتبع مرضك حيثما قادك. فقارنْ إن شئتَ خبالك بخبال تالّوس تجدِ الفرق غير شاسع، سوى أنّ تالّوس يهتاج على نفسه وأنت على الآخرين أيضا، من جهة أخرى يعوّج تالّوس عينيه بينما تعوّج أنت الحقيقة، يجمع تالّوس يديه بينما تجمّع أنت أشياعك، يصطدم تالّوس بالأرصفة وأنت بالمحاكم. ختاما، ما يفعلْ هو من شيء يفعلْه بتأثير المرض، فيزلّ وهو جاهل بزلّته. بينما أنت، تعساً لك، تسيء وأنت تعقل وتعلم، تحدوك قوّة مرضك الجبّارة. تفتري الكذب وتقدّمه كحقيقة، وتؤاخذني على ما لفّقتَ بنفسك كما لو تمّ فعلا، وتتّهم بالإساءة من تعلم يقينا براءته.

 

53- أدوات السّحر الملفوفة في المنديل

   هناك أيضا- وهو ما أغفلتُه- أشياء تُقرّ بجهلها وتتّهمني بها مع ذلك كما لو كنتَ تعلمها. تزعم أن كانت لي أشياء ملفوفة في محرمة في بيت بنتيانوس. أمّا الأشياء الملفوفة، ما هي وما نوعها، فتقرّ بأنّك لا تعرفها، بل ولا تعرف أحدا رآها. مع ذلك تدّعي أنّها كانت أدوات للسّحر. بلا مجاملة يا إمليانوس: ما في دعواك دهاء ولا حتّى سفه. لا تظنَّ شيئا من ذلك. ماذا إذن؟ سُعُر نفس مترعة بالمرارة وخبال شيخوخة قاسية يطفحان بؤسا وشقاء. بهذه الكلمات تقريبا رفعتَ عليّ دعواك أمام قاض بمثل هذا الوقار والتّبصّر: "كانت لأبوليوس أشياء ملفوفة في منديل في بيت بنتيانوس. وبما أنّي لا أدري ماذا كانت، أقول إذن إنّها أدوات سحر. صدّقْ ما أقول، لأنّي أقول ما أجهل." أيّة حجج رائعة هذه التي تنقض التّهمة نقضا صريحا. "كان الأمر كذا لأنّي أجهل ماذا كان تحديدا!" وجدتُك وحدك يا إمليانوس تعلم حتّى ما ليس لك به علم. تجاوزتَ مقدار الحماقة في الورى، فإنّ أرجح الفلاسفة عقلا وأحذّهم بصرا يقولون إنّ علينا ألاّ نثق حتّى في ما نرى* لكن ها أنت تؤكّد بلهجة الواثق المستيقن حتّى ما لم تر أو تسمع قطّ! لو لم يزل بنتيانوس حيّا وسألتَه أيّة أشياء كانت ملفوفة في ذلك المنديل لأجاب أنّه لا يدري. ذاك المعتوق هناك الذي بحوزته مفاتيح المكان حاليّا يقول إنّه لم يدقّق فيه قطّ وإن دأب على فتحه وإغلاقه كلّ يوم تقريبا بصفته حافظ خزانة الكتب هناك، وكثيرا ما دخل معي إلى هناك وبمفرده أكثر، ورأى المنديل موضوعا على المائدة بدون أيّة طيّة ولا أيّة عقدة. لِم لم يلحظ شيئا إذن؟

   كانت عقاقير سحريّة مخفيّة فيه حتما! كنتُ أحتفظ به بشيء من اللاّمبالاة بل بحيث يمكن لأيّ فحصه والتّمعّن فيه إن شاء بحرّيّة تامّة، بل كنت أعرضه بحيث قد يأخذه المارّ عرضا من هناك، وأكِل حراسته إلى الغير، وأعهد به إلى مشيئة الآخرين. تُرى كيف تريد أن نصدّقك الآن؟ ما كان يجهله بنتيانوس الذي عاش معي في صلة حميمة تعلمه أنت الذي ما رأيتك قطّ إلاّ أمام المحكمة؟ وما لم يره المعتوق المتواجد في ذلك المكان باستمرار رأيتَه أنت الذي لم تدخل أبدا إلى هناك؟ ثمّ حتّى لو كان ما لم تر مثلما تقول وحصلتَ يا غبيّ اليوم على ذلك المنديل فما تُخرجْ منه من خبْء أنفِ من جهتي أن يكون للسّحر.

 

54- طريقة إمليانوس في الاتّهام تفتح الباب لشتّى التّجاوزات

   لذا أدعك تفعل ما تشاء فاختلقْ وتخيّلْ وافتكر ما يمكن أن يبدو سحرا: مع ذلك سأنازعك فيه. سأقول إنّه دُسّ فيه، أو تلقّيتُه للعلاج، أو تسلّمته لبعض شعائر الدّين، أو طُلب منّي في الحلم. هناك ألف طريقة أخرى أستطيع بها فعلا تفنيد اتّهامك وفق الأصول المتّبعة والعادات المتداولة. في الواقع أنت تتصوّر أنّ تلك الخبيئة المفترضة غير الثّابتة ولا المعروفة، والتي حتّى لو ضُبطتْ عندي واحتُجزت لما سبّبت لي عند قاض كفء أيّة متاعب، ستدينني بناء على مجرّد شبهة واهية. لستُ أدري إن كنت ستقول مرّة أخرى، كعادتك: "ماذا كان إذن ذاك الشّيء الهامّ الذي وضعتَه ببيته مغشّى بسماط؟" هو كذلك إذن يا إمليانوس؟ هكذا تتّهم بنحو يخوّل لك استمداد معلومات من المتّهم وأنت لا تملك أيّة معلومة! "لِم طلبتَ سمكا؟" "لِم فحصتَ امرأة مريضة؟" "بماذا كنتَ تحتفظ في المنديل؟" ألاتّهامي جئتَ أم لاستجوابي؟ إن جئت تتّهمني فأثبتْ ما تدّعي، وإن جئتَ تستجوبني فلا تحكمْ مسبقا على ما وقع، فإنّما لجهلك بما حصل احتجتَ إلى سؤالي. ثمّ إنّ كلّ النّاس سيتحوّلون بهذه الطّريقة إلى متّهَمين، إن لم يكن أحد بحاجة إلى البيّنة لإقامة الدّعوى على من شاء، بل مُنح صلاحيّة مطلقة لاستجوابه. إذّاك سيؤخذ بلا شكّ على الجميع أيّ فعل أتوا على أنّه ربّما كان سحرا. سجّلتَ أمنية على فخذ تمثال: أنت ساحر إذن، وإلاّ فلِم سجّلت؟ رفعتَ أدعية للآلهة في المعبد بصمت: أنت ساحر إذن، وإلاّ فقل ماذا طلبتَ؟ بالعكس، لم ترفع  في المعبد أدعية: أنت ساحر إذن، وإلاّ فلِم لم تدعُ الآلهة؟ والشّأن كذلك إن وضعتَ عطيّة أو قدّمتَ قربانا أو تناولتَ من المذبح غصنا مقدّسا. ولا إخال يوما سيكفيني إن شئتُ تقصّي كلّ الأشياء التي سيطلب من يفتري على أحد بالمثل تعليلها. سيُعدّ بالأخصّ كلّ ما تحفظ في بيتك مخبوءا ومختوما ومقفلا بنفس طريقة الاستدلال من السّحر وسيُحضَر من غرفة المؤن إلى القصبة ويُحال إلى المحكمة.

 

55- البوح بخبايا المنديل

   كم هي تلك الأشياء وما نوعها وأيّ مجال يفتح مسلك إمليانوس هذا للأراجيف، كم من العرق سينضح من الأبرياء هذا المنديل البسيط*، يمكنني طبعا مناقشته مع الكثيرين، لكنّي سأفعل ما قرّرتُ: سأقرّ حتّى بما لستُ مضطرّا إلى الإقرار به، وسأجيب على أسئلة إمليانوس. تسأل يا إمليانوس بماذا كنتُ أحتفظ في المنديل. لكن مع أنّي أستطيع إنكار وضع منديلي في مكتبة بنتيانوس بصفة قطعيّة، وحتّى لو سلّمتُ في الحالة القصوى بوجوده فبوسعي القول بأنّ لا شيء لُفّ فيه- وهو ما لو قلتُه لما استطاعت تكذيبي أيّة شهادة ولا حجّة، إذ لم يصل إليه أحد، ورآه معتوق واحد كما تقول- أقول مع ذلك بطيب خاطر إنّه كان غاصّا بمحتوياته. فكّرْ إن شئتَ بهذا النّحو، مثلما فكّر يوما رفاق أوديسّيوس بأنّهم عثروا على الكنز لمّا بقروا القربة المحشوّة بالرّياح*. أتريد أن أقول لك ما نوع تلك الأشياء التي لففتها في المحرمة وأودعتها بيت بنتيانوس؟ أنا طوع أمرك.

   شاركتُ في عديد من طقوس المسارّة في اليونان، وأنا أحتفظ بعناية بالغة ببعض الشّارات والتّذكارات منها سلّمها لي الكهنة. لا أقول شيئا غير مألوف أو غير معروف. تعلمون أيّها المطلَعون ولو على أسرار الأب ليبر* فحسب الموجودون بيننا ما أخفيتم في بيوتكم وتجلّون وتقدّسون بصمت بمنأى عن كلّ من يجهلونها. أنا أيضا تعلّمت، كما قلتُ، طقوسا متعدّدة وشعائر متنوّعة في إطار سعيي وراء الحقيقة وأداء واجبي نحو الآلهة. وما ذاك بِدْعا تجشّمته لحاجة ظرفيّة، بل كان دأبي وديدني لحوالي ثلاث سنين*، منذ الأيّام الأولى من مجيئي إلى أوية محاضرا أمام العموم حول جلال إسكولابيوس*، وقد حملتُ معي تلك الأشياء، واستعرضتُ ما أعرف من الطّقوس. والمحاضرة مشهورة يقرأها جمهور عريض وتتناقلها الأيدي، وما من فصاحتي استمدّت شعبيّتها بل من ذكر إسكولابيوس الذي يجلّه أهالي أوية. رجاءً، ليستظهرْ أحد، إن وُجد بينكم من يتذكّرها، بداية ذلك المقطع. (...) أتسمع يا مكسيموس الكثيرين يستظهرونها؟ بل ها هو شخص يقدّم لي الكتاب. سأطلب أن تُقرأ تلك المقاطع ما دمتَ تُظهر من انبساط أساريرك أنّ الاستماع إليها لا يضايقك. (....)

 

56- التّشنيع على إمليانوس لاستخفافه بالآلهة

   أفيمكن بعد أن يستغرب أحد، عنده ذكر من أمور الدّين، احتفاظ شخص يعلم هذا الكم من الأسرار الرّبّانيّة ببعض طُرف تلك الطّقوس في بيته ويلفّها في محرمة من الكتّان الذي هو أنقى لفافة للأشياء الرّبّانيّة؟ فإنّ الصّوف، سقْطَ جسد أبلد البهائم المجتزّ منها، هو في عرف أرفيوس وفيثاغور لباس نجس. بينما الكتّان الطّهور النّابت من الأرض بين أطيب خيراتها لا يُستخدَم كساء ولحافا من كهنة المصريّين الأتقياء الأنقياء فقط، بل كذلك للاحتفاظ بالمقدّسات.

   أعلم لا محالة أنّ البعض، ومن أبرزهم صاحبنا إمليانوس يستظرفون الهزء بالأمور الرّبّانيّة. فحسب ما بلغني من بعض أهالي أوية الذين يعرفونه، لم يصلّ حتّى هذه المرحلة من عمره لأيّ إله، ولا أَمّ أيّ معبد، وإن مرّ على معبد يستنكف من لثم يده. بل لم يعط أبدا آلهة الحقول الذين يطعمونه ويكسونه بواكير غلاّته وخمره وقطعانه. ولا يوجد بضيعته أيّ محراب ولا أيّ مكان أو غاب منذور للآلهة. ولِم أتحدّث عن غاب مقدّس أو محراب، ومن وُجدوا ولو يوما واحدا في أراضيه ينفون أن يكونوا رأوا فيها نصبا بورك بدهان* أو عذقا جُدل إكليلا. لذا لُقّب بكنيتين: خارون، كما ذكرتُ، بسبب نحس وجهه ونفسه، والأخرى التي يحبّ سماعها: ميزنتيوس* بسبب استخفافه بالآلهة*.

   من هنا أفهم بسهولة لماذا يبدو له استعراضي هذا العدد من الأسرار الرّبّانيّة سخافات، أو ربّما لاستهتاره بعزّة الألوهة لا يخطر بباله أن أكون صادقا في قولي إنّي أحفظ عندي بإجلال كثيرا من شارات وتذكارات الطّقوس الرّبّانيّة. لكنّي لا أعير بالا لما يفكّر بشأني ميزنتيوس. أمّا بقيّة الحضور فأعلن لهم بأعلى صوتي: إن اتّفق أنّ أحدا منهم شارك معي في تلكم الطّقوس فليعطني إشارة منه وله أن يعلم ما أحتفظ به. فلن يجبرني أيّ خطر على البوح لغير المطلَعين بما أودِعتُ لكتمانه.

 

57- تجريح شهادة كراسّوس

   إخالني الآن أبدو يا مكسيموس لأيّ من النّاس، حتّى أشدّهم تحاملا عليّ قد قدّمت جوابا وافيا شافيا، وبخصوص المنديل محوتُ كلّ شبهة، ودون أن أخشى خطرا ذا بال بشأن منحى الحكم، يحقّ لي الآن المرور منه إلى شهادة كراسّوس التي ذكروها بوصفها الأشدّ بأسا وإفحاما بعد الحجج السّابقة.

   قُرئتْ على مسمعك من عريضة الاتّهام شهادة شخص أكرش بجباج لا يُرجى لبطنته دواء يدعى يونوس كراسّوس أنّي مارستُ في بيته طقوس سحر ليليّة مع صديقي أبّيوس كوِنتيانوس الذي كان يؤجّر بيته للسّكنى. يقول كراسّوس إنّه، رغم وجوده في تلك الفترة في الإسكندريّة، اكتشف ذلك من دخان حطب وريش طيور. ولنا أن نتصوّره، وهو يرتاد مجالس القصف والعربدة– فكراسّوس هذا يخوت بياض نهاره بأذيال الحوانيت فرحا بدأبه ذاك غارقا في أبخرة الخمّارات المخمّة- راصدا كالقنّاص الرّيش المزجى إليه من داره*، قد تعرّف على الدّخان المتصاعد من أعلى بيته هناك في البلد البعيد. ولو رآه بعينيه لكان إذن قد أوتي بصرا يفوق بالتّحقيق منى ورغائب أوديسّيوس. فبلا طائل ظلّ أوديسّيوس سنين طوالا يرقب من السّاحل علّه يرى دخانا منبعثا من وطنه*، بينما لمح كراسّوس الدّخان بلا عناء في أشهر غيابه المعدودة جالسا في حانة من أرذل طراز. لكن لو شمّ بمنخريه رائحة بيته، لكان إذّاك قد فاق في رهافة شمّه الكلاب والعقبان. إذ لأيّ كلب أو عقاب في سماء الإسكندريّة يُنفذ ريحه شيء من تخوم أوية؟ كراسّوس هذا من دون شكّ أكيل لا يضاهى بطنة، ولا تعوزه الخبرة في كلّ الأدخنة، لكن لانصرافه إلى الشّرب- المجال الوحيد الذي يُعَدّ فيه من الخبراء- كان أسهل بالتّأكيد أن تصل إليه في الإسكندريّة ريح الخمر من أن تبلغه رائحة الدّخان.

 

58- أساس شهادة كراسّوس

   وقد فهم أنّ هذا أيضا لن يمكن تصديقه، إذ يقال إنّه في السّاعة الثّانية*، وهو لم يتريّق بعد طعاما ولا شرابا، باع شهادته تلك. لذا كتب أنّه وجد تلك الأشياء بهذا النّحو: لمّا عاد من الإسكندريّة قصد رأسا بيته الذي كان كونتيانوس قد بارحه. هناك وجد في الوصيد ريشا كثيرا متناثرا، ووجد كذلك الجدران متّسخة بالسّخام فسأل عن السّبب خادمه الذي تركه في أوية، فأخبره عن طقوسنا اللّيليّة أنا وكونتيانوس. فأيّ تلفيق ذكيّ واختلاق يسهل تصديقه، أنّي إن شئتُ حقّا فعل شيئ من ذلك لم أقرّر فعله في بيتي بالأحرى، وأنّ كونتيانوس- الذي يساعدني والذي أذكر هنا اسمه مع أسمى آيات التّقدير والثّناء للصّداقة الحميمة التي تربطني به ولسعة علمه الفريدة وفصاحته البالغة أقصى درجات الكمال- أنّ كونتيانوس إذن، إن كان قد تناول دواجن في عشائه أو ذبحها كما يزعمون لغرض السّحر، لم يكن له غلام يكنس الرّيش ويرمي به في الخارج، وفضلا عن ذلك أنّ الدّخان كان من الكثافة بحيث صيّر الجدران غرابيب سودا، وأنّ كونتيانوس تحمّل في غرفته أين يقيم مثل تلك القذارة!

   هراء ما تقول يا إمليانوس وتخريف لا يصدّقه أحد إلاّ إذا كان كراسّوس ربّما قصد مباشرة لا غرفته كما ادّعى بل الموقد كما اعتاد. ثمّ من أين حزر عبد كراسّوس أنّ الحيطان دُخّنتْ باللّيل تحديدا؟ أمن لون الدّخان؟ فلعلّ دخان اللّيل مختلف عن دخان النّهار وأشدّ منه سوادا. لكن لِم قبل عبده المرتاب بأمره والحريص على بيت مولاه أن يترك كوِنتيانوس يرحل قبل تنظيف البيت؟ لماذا بقي الرّيش، كأنّه حُشي رصاصا*، ينتظر كلّ تلك المدّة عودة كراسّوس؟ فلا يلمْ كراسّوس عبده: الأرجح أنّه هو الذي اختلق كلّ تلك الأكاذيب عن تدخين الجدران والرّيش ما دام لا يستطيع حتّى في شهادته البعد عن المطبخ طويلا.

 

59- سبب غياب كراسّوس

   لكن لِم قرأتم الشّهادة من مذكّرة الادّعاء؟ أين هو كراسّوس وفي أيّ مكان على الأرض يوجد يا ترى؟ أعاد إلى الإسكندريّة قرفا من بيته؟ أم هو مشغول بتنظيف الجدران؟ أم، وهو الأرجح، يلهي ذلك البطِن القصف وتشراب الخمور؟ فلقد لمحته أمس هنا في صبراتة*، وسط ميدان القصبة يقيء لك* بنحو لافت يا إمليانوس. سلْ مدوّنيك* يا مكسيموس- وإن يكن ذلك العربيد معروفا عند الخمّارين أكثر ممّا هو عند المدوّنين- أقول مع ذلك سلْهم إن رأوا هنا يونّوس كراسّوس الأوييّ، فسوف لا ينفون.

   فلْيُرِنا إمليانوس ذاك الفتى الكريم الذي استند إلى شهادته! ترى أيّة ساعة من النّهار هي الآن. أقول إنّ كراسّوس ما زال يغطّ في نومه ثملا، أو هو يرشح عرقا محمّلا بأبخرة الخمور في حمّام أتاه لثاني غُسل ليذهب إلى مجلس شرب فيسقي مجدّدا عشاء البارحة عَللا على نهل. إنّه حاضر ويخاطبك يا مكسيموس لا بشخصه الكريم بل من خلال مذكّرة. لا لأنّه لم يتجرّد تماما من كلّ حياء، فحتّى لو كان أمام عينيك لما استحى من الكذب، بل ربّما لأنّه لم يستطع كبح إدمانه ولو قليلا حتّى يمكنه الانتظار إلى هذه السّاعة دون شرب، أو بالأحرى تدبّر إمليانوس أمر إبعاده، كيلا يمثل أمام عينيك الصّارمتين مخافة أن تشيح اشمئزازا من هذا الوحش إذ تراه وقد خبلته الخمر وتعتعته، وترى هيئته المزرية وحنكيه الأملطين، ورأسه الأجرد على حداثته من اللّحية والشّعر، وعينيه المنتفختين من السّكر وجفونه الورمة، وشدقيه المنفرجين، وشفتيه الرّائلتين، وصوته النّاشز ورجفان يديه وتجشّؤه المقرف. ومنذ أمد بدّد الهَنُ كلّ ثروته ولم يبق شيء ممّا ترك له أبواه غير بيت واحد لبيع الأكاذيب ما أجّره مع ذلك أبدا بأغلى ممّا فعل في شهادته هذه. إذ باع لإمليانوس كذبته المخمورة بثلاثة آلاف درهم ولا أحد في أوية يجهل ذلك.

 

60- مؤامرة دنيئة ضدّ أبوليوس

   كنّا جميعا نعلم بذلك قبل حدوثه، وكان بوسعي منعه بالتّبليغ عنه لولا علمي بأنّ كذبة بمثل هذا الحمق تضرّ بإمليانوس الذي عبثا راح يشتريها لا بي أنا الذي ظللتُ محقّا أزدريها. أردتُ أن يتأذّى إمليانوس ويخزى كراسّوس بعهر شهادته. من جهة أخرى عُقدتْ قبل أمس صفقة يعلمها الجميع في بيت المدعوّ روفينوس الذي سأتحدّث عنه الآن بوساطة وترتيب روفينوس هذا وكُلْبريانوس. وقد فعل روفينوس ذلك بسرور، سيما لعلمه أنّه سيعود على زوجته- التي يتستّر على مخازيها- وهو يعلمها بقسم غير قليل من العمولة. رأيتُ أنّك أنت أيضا يا مكسيموس ارتبتَ لحكمتك بتآمرهم وتألّبهم عليّ، وبدا على وجهك، فور إحضارهم تلك العريضة، احتقارك لدسيستهم بأكملها. أخيرا ورغم ما أوتوا من جسارة نادرة وسفاهة مشطّة، لم يجرؤوا مع ذلك على قراءة شهادة كراسّوس كاملة أو الاعتماد على شيء ممّا جاء فيها، وهم يرونها تعبق برائحة فضلاته. هذا وما ذكرتُ هذه الأمور خوفا من فزّاعة الرّيش وفرية السّخام القذرة سيما وأنت الذي تحكم بيننا، بل كيلا يفلت كراسّوس من العقاب لبيعه دخانا* لذلك العضروط إمليانوس.

 

61- تهمة الدّمية الشّيطانيّة وشهادة ساترنيوس

   أشاروا عند قراءتهم رسالة بودنتلّة، إلى جرم آخر يتعلّق بصنع دمية يدّعون أنّي أعددتها في مشغل خفيّ من أجود أنواع الخشب لغرض كيد السّحرة، ومع أنّها صُنعتْ على شكل هيكل عظميّ قبيح وفظيع، أعكف على عبادتها وأدعوها بالكلمة اليونانيّة "باسيلوس"^ ( أي الملك). ها أنا أقفو خطاهم بالتّرتيب إن لم تخنّي ذاكرتي، آخذا نسيج أكاذيبهم واحدة تلو أخرى فأنقضه أنكاثا. كيف أمكن ترى أن يُصنع في الخفاء التّمثال الذي تذكرون، وأنتم لا تجهلون صانعه، حتّى أنّكم طلبتم حضوره؟ ها قد حضر الصّانع كرنليوس ساترنيوس المشهود له عند كلّ مواطنيه بجودة الصّنعة وكرم الخلق، والذي سرد لك يا مكسيموس قبل قليل عند استجوابك المتأنّي له بصدق وأمانة كلّ الأحداث بالتّرتيب. ذكر أنّي رأيتُ عنده كثيرا من الأشكال الهندسيّة مصنوعة من خشب البقس بفنّ ومهارة، فطلبتُ منه مبهورا بفنّه أن يصنع لي بعض التّحف وأن ينحت لي في نفس الوقت من أيّة خامة على أن تكون من الخشب تمثالا لأيّ إله شاء لأقوم بعباداتي عنده كدأبي. فجرّب البقس أوّلا. في الأثناء، وبينما كنت أقضي بعض الوقت في الرّيف، أحضر له ربيبي سيكينوس بنتيانوس، بنيّة إسداء مبرّة لي، قطعا من الأبنوس طلبها من السّيّدة الفضلى كابيتولينة، طالبا منه استخدام هذه الخامة الأندر والأبقى بالأحرى، ومؤكّدا أنّ التّحفة ستكون قطعاً هديّة ظريفة تعجبني من أوّل نظرة. أخبرك كذلك أنّه صنعها بناء على تعليماته إذّاك بعد توفّر قطع الأبنوس. هكذا استطاع بتجميع تلك الألواح بإحكام أن يشكّل منها تمثالا صغيرا لمركوريوس.