أبوليوس

 

المرافعة

 

الفصول 24-41

 

حواش 

 

 

 

 

 

 

5

4

3

2

1

مقدّمة

 

 

24- ذكر وطنه وكرم محتده

   أمّا عن وطني، الذي بيّنتَ أنّه يقع على تخوم نوميدية* وقيتولة* بناء على كتاباتي حيث صرّحتُ أنا نفسي لمّا ألقيتُ خطابا بمحضر أَويتوس* سامي المقام أنّي نصف نوميديّ ونصف قيتوليّ، فلا أرى ما المخجل في ذلك بالنّسبة لي. وما الأمر في حالتي بأقلّ ممّا هو في حالة قورش* الأعظم، فقد كان مولّدا نصف ميديّ ونصف فارسيّ. والمفروض أن ننظر لا إلى منشإ الفتى بل إلى خُلقه، ونعتبر لا في أيّ أرض بل وفق أيّ نهج يعتزم العيش. يحقّ للبقّال وصاحب الحانة أن يمتدحا البقول والخمر بكرم المنبت: مشيدين بنبيذ طاسوس* وباكورات فلياسية* إذ لا شكّ أنّ نسغ تلك الأرض الذي يغذّيها يجوّد كثيرا مذاقها، وكذلك خصوبة المنطقة وغزارة المطر واعتدال الرّيح ودفء الشّمس ورطوبة التّربة.

   أمّا نفس الإنسان التي نزحت إلى مسكن البدن من خارجه، فأيّ شيء ممّا ذكرتُ يستطيع أن يزيد أو يُنقص نزوعها إلى الفضيلة أو الرّذيلة؟ في أيّ زمان لم تنشأ في شتّى الشّعوب شتّى الطّباع، وإن بدا بعضها متّسما بالغباء أو الذّكاء أكثر من غيره؟ لقد وُلد أناخرسيس* الحكيم بين السّكيث الأغبياء، ووُلد بين الأثينيّين الفطنين مليتيدس* المغفّل. ولستُ أقول هذا آسفا على وطني متمنّيا غيره بدلا.

   هذا وقد كنّا من رعايا صيفاقس* حتّى هُزم، فانتقلنا بإنعام الشّعب الرّومانيّ إلى الملك ماسّينيسا*، ثمّ تحوّلنا مؤخّرا باستيطان قدامى المحاربين بيننا إلى مستعمرة مزدهرة. في هذه المستعمرة شغل أبي خطّة دُؤُمْوير* المساوية للإمارة والتي تحظى بكلّ شرف. وإنّي لأطمح بدوري إلى أداء دور مماثل في الدّولة، وأن أحظى بالشّرف والتّقدير، فقد بدأتُ أشارك في المجلس البلديّ* وأرجو ألاّ أكون دونه شأنا. لِم قدّمتُ لك هذه المعلومات؟ لتهدأ ثائرتك بعد معرفتها يا إمليانوس، وتمنحني بالأحرى حلمك إن لم أختر عرضا وسهوا زاراتك الأتّيكيّة* كمسقط رأسي.

 

25- الكلام في السّحر

   ألا تستحون من توجيه هذه التّهم بمثل هذا التّأكيد القطعيّ أمام رجل بمثل هذا المقام، وعرض دعاوى مرتجلة ومتنافرة معا، ومقاضاتي بأمر وضدّه؟ أما اتّهمتموني لا أبا لكم بشتّى المتناقضات: بالخرج والعصا دليلا على التّزمّت وبالشِّعر والمرآة دليلا على التّظارف؟ على امتلاك عبد واحد لشحّي، وعتق ثلاثة لإسرافي؟ وكذلك بالفصاحة اليونانيّة والمنشإ الأعجميّ؟ أما تستفيقون أخيرا وتدركون أنّكم تتكلّمون أمام كلوديوس مكسيموس، أمام رجل جادّ ومشغول بشؤون الإقليم بأسره؟ أقول: لولا تسحبون هذه التّهم السّخيفة؟ لولا تثبتون ما تفترون من جرائم كبيرة وشرور محظورة وممارسات منكرة؟ لِم تهِن دعواكم في عرض الأدلّة وتقوى في إحداث الضّجيج؟

  أمرّ الآن إلى دعوى السّحر ذاتها التي أوقدوا جذوتها وسط ضجّة كبرى لإثارة الكراهية ضدّي وأذكوها أكثر بعدما خاب ترقّب الجميع أمام خرافات العجائز المقدّمة ضدّي. أفرأيتَ يا مكسيموس نارا تشبّ في الهشيم فتسري فيه بسرعة وسط الحسيس والطّقطقة وتعالي ألسنة اللّهب ثمّ لا تلبث أن يخبو أوارها بعدما أتى على تلك المادّة الخاوية فلم يذر منها شيئا؟ هي ذي أمامك تلك الدّعوى المرفوعة ضدّي التي انطلقت من مشاحنات وهوّلتها الأقاويل، والتي تخلو من الأدلّة تماما ولن يبقى بعد حكمك أثر من فراها.

  لقد ركّزها إمليانوس حول هذه النّقطة دون سواها: أنّي ساحر. لذا يسرّني أن أطلب من محامييه# الفطاحل ما هو السّاحر بالضّبط. إن كان "مَجوس" ( أي السّاحر)* في لغة الفرس ما تدعوه لغتنا "صاكردوس" ( أي الكاهن)* كما أجد في عدّة كتب، ما الجرم ويحكمْ في أن يكون المرء كاهنا ويعرف ويحفظ ويحذق طبقَ التّقاليد العريقة أصولَ الاحتفالات الدّينيّة وسننَ الطّقوس ومناسكَ العبادات، إن كان السّحر ( مَجية) فعلا ما يفهمه به أفلاطون لمّا يذكر بأيّة دراسات معدّة لتربية النّشء يكوّن الفرس الفتى لممارسة السّلطة. أذكر حرفيّا كلمات هذا الرّجل الإلهيّ وأدعوك يا مكسيموس إلى تعرّفها معي:

  "لمّا يبلغ الغلام سنّ الرّابعة عشر، يُكلَّف بتربيته من يدعونهم مربّين ملكيّين. وهم أربعة من خيرة الفرس هم أفضل أهل زمانهم: حكمة واستقامة واتّزانا ومروءة على التّوالي. فيعلّمه أحدهم سحر زرادشت* ابن أهورمزدا* الذي هو علم عبادة الآلهة وكذلك أساليب الحكم."^*

 

26- سخافة التّصوّر العامّيّ للسّحر

   أتسمعون أنّ السّحر ( مجية) الذي تجرّمونه هو فنّ يباركه الآلهة الخالدون يُعنى بمعرفة شعائر عبادتهم وإجلالهم، علم الرّبوبيّة الدّاعي إلى التّقوى والمستمدّ  شرفه من زرادشت وأهورمزدا، إمام الهدى الرّبّانيّ، الذي يدرَّس ضمن أهمّ العلوم الخاصّة بالملوك، ولا يُسمح لأيّ من الفرس جزافا بأن يكون ساحرا ( مجوس) أكثر ممّا يُسمح له بأن يكون ملكا. في حوار آخر لأفلاطون يدور حول رجل يدعى زَلْمُكسيس من أصل طراقيّ* ويتقن هذا الفنّ كتب: "الرّقى كلمات جميلة"^*.

   إذا كان الأمر كذلك فلِم لا يُسمح لي بالاطّلاع على كلمات زلْمكسيس أو أسرار زرادشت الكهنوتيّة؟ لكن إن تصوّر هؤلاء الجماعة السّاحر بمفهومهم الخاصّ حسب المعنى المتداول لدى العامّة كشخص قادر بفضل اتّصاله بالآلهة ومخاطبتهم على كلّ ما يشاء بقوّة أسحاره الخارقة، فإنّي لأعجب كيف لا يخشون اتّهام من يقرّون له بمثل تلك القدرة الفائقة، إذ لا يمكن توقّي قوّة خفيّة وخارقة مثلها كما نحترس من أشياء أخرى. من يُحِلْ على العدالة قاتلا يأتِ صحبة مرافقين، ومن يتّهم مسمّما ينتبه إلى ما يأكل، ومن يُقاض سارقا يشدّد الحراسة حول ممتلكاته. لكن بأيّ مرافقين وبأيّة إجراءات وقائيّة وبأيّة تراتيب حراسة يمكن لمن يحيل على القضاء ساحرا بمثل القوّة التي تزعمون في دعوى جنائيّة عقابها الإعدام أن يتّقي شرّ قوّة عشواء لا مفرّ منها؟ لا شيء طبعا. لذا لا يتتبّع هذا النّوع من الإجرام من يصدّق به فعلا.

 

27- ضعف أدلّتهم على تعاطيه السّحر

   لكن كثيرا ما يُتّهَم الفلاسفة على أساس هذا الخطإ الشّائع لدى العوامّ. إذ يحسبون بعضهم الباحثين عن علل واقعيّة وبسيطة لظواهر العالم المادّيّ زنادقة ويزعمونهم ملاحدة، كأنكساغوراس* وليوكبّوس* وديمقريط* وأبيقور وآخرين يهوون دراسة العالم الطّبيعيّ. لكنّهم يدعون بابتذال سحرةً بعضهم الآخرين الذين يبحثون بحماس عن القوّة التي تسيّر الكون ويُجلّون الآلهة ويعظّمونهم ظنّا أنّهم يعرفون فعلَ ما يعرفون حصوله، كما كان قديما إبيمنيدس* وأُرفيوس* وفيثاغور وأُستانس*، كذلك أثارت الرِّيَبَ طقوس أنباذقليس* التّطهّريّة وشيطان سقراط و"خير"^ أفلاطون. لذا أغتبط إذ أُدرج بين هؤلاء الرّجال العظام.

   ثمّ إنّي ببساطة أخشى أن تكون تهمهم المقدّمة لإثبات الجرم باطلة وخاوية، فلا تحسبنّها جرائم لمجرّد أنّها تهم. يقول مثلا: "لِم طلبتَ اقتناء بعض الأسماك؟" كما لو لم يكن يُسمح للفيلسوف بأن يفعل بغاية المعرفة ما يباح للأكيل فعله من أجل بلعومه. "لِم تزوّجتك امرأة حرّة بعد ثلاثة عشر عاما من التّرمّل؟" كما لو لم يكن الأحقّ بالعجب أنّها لم تتزوّج طوال كلّ تلك الأعوام. "لِم كتبتْ في رسالة قبل زواجها أمورا غريبة كانت تبدو لها؟" كما لو كان على أيّ منّا تبرير رأي غيرنا. "لكنّها تكبرك سنّا ولم ترفض شابّا". هذا في حدّ ذاته دليل على أنّه لم تكن هناك حاجة إلى السّحر لترغب امرأة في الزّواج برجل، أرملة بأعزب، سيّدة كبيرة برجل أصغر. وإليك تخرّصات من نفس النّوع: "لأبوليوس في بيته شيء يعبده بخشوع" كما لو لم يكن الجرم بالأحرى ألاّ يكون للمرء ما يعبد. "وقع بمحضر أبوليوس غلام على الأرض". ما الغريب حقّا في أن يتهافت بمحضري شابّ، بل حتّى كهل، سواء عاقه مرض في جسمه أو أزلقته أرض زلجة. أبهذه الأدلّة تثبتون تعاطيّ للسّحر: سقوط غلام وزواج امرأة وشراء أسماك؟

 

28- عرض خطّة مرافعته

   كان بوسعي لا شكّ الاكتفاء بما قلت وختم مرافعتي دون خطر يُذكر. ولأنّ قدرا غير قليل من الماء* ما زال على ذمّتي لطول لائحة الاتّهام أواصل إن أحببتم. فلننظرْ إلى التّهم واحدة واحدة. لن أنكر التّهم في مجموعها، سواء كانت صحيحة أو باطلة، بل سأعترف بها كما لو كانت صحيحة فعلا ليفهم بوضوح هذا الحشد الغفير الآتي من كلّ صوب لسماع المحاكمة لا فقط أنّ لا شيء ممّا يقال عن الفلاسفة حقّ بل كذلك أنّ لا شيء ممّا يمكن لا شكّ تلفيقه ضدّهم زورا لا يؤثرون- لثقتهم ببراءتهم ورغم قدرتهم على إنكاره- الدّفاع عنه. سأعرض إذن بادئ ذي بدء أدلّتهم وأفنّد أن تكون لها أيّة صلة بالسّحر. ثمّ حتّى لو كنت ساحرا حقّا، سأبيّن غياب أيّ سبب أو مناسبة ليخبروني في أيّ عمل سيّء. إذّاك سأناقشهم حول حقدهم الباطل، وحول رسالة زوجتي التي يتعسّفون في قراءتها وبمزيد من العداء في تأويلها، وحول زواجي ببودنتِلّة مبيّنا أنّي فعلتُ ذلك أداء لواجب لا طمعا في ربح. إذ كان زواجنا لإمليانوس هذا الجافي الحقود مصدر أفظع الهمّ والتّنغيص. من هنا أتى ما في الدّعوى التي أواجهها من حرد وغلّ مسعور.

   بعدما أبيّن كلّ ذلك أمام الجميع وبأتمّ الوضوح، سأُشهدك إذّاك يا كلوديوس مكسيموس ومعك كلّ الحضور على أنّ هذا الغلام سيكينوس بودنس ربيبي الذي بواسطته وبرضاه يرفع عليّ عمّه هذه الدّعوى، والمنتزَع من كفالتي مؤخّرا بعد وفاة أخيه الأكبر سنّا والأفضل خُلقا، والمحمّش ضدّي وضدّ والدته بنحو شنيع، والذي هجر التّعليم وتخلّى عن كلّ دراسة ولا يد لي في ذلك، سيكون انطلاقا من هذه الدّعوى الأثيمة شبه عمّه إمليانوس لا أخيه بنتيانوس.

 

29- ضعف حجّة طلبه بعض الأسماك

   ها أنا الآن، كما أعلنت، سأتوجّه إلى كلّ أباطيل إمليانوس، مستهلاّ بما ذكر، كما لاحظتم، في البداية بوصفه أقوى أساس لتهمة السّحر: أنّي طلبت من بعض الصّيّادين بعض أنواع الأسماك. أيّ دليل في أقوالهم يدعو إلى الاشتباه في ممارستي السّحر؟ ألأنّ الصّيّادين بحثوا لي عن سمك؟ ربّما كان ينبغي إذن أن توكل هذه المهمّة بالأحرى إلى الحاكة والنّجّارين، واستبدال أعمال كلّ صنعة بأعمال الأخرى إن شئتُ أن أتجنّب افتراءاتكم، فيستخرج لي النّجّار السّمك ويسحج الصّيّاد الخشب بالمقابل. أم استنتجتم أنّ طلب الأسماك مكر سيّء من كوني طلبتها مقابل ثمن؟ لو أردتها لمأدبة أظنّني كنت إذن سأطلبها مجّانا!

   لِم لا تجادلونني إذن حول مؤن كثيرة أخرى، فكثيرا ما اقتنيتُ الخمر والخضار والفواكه والخبز مقابل ثمن؟ بهذا النّحو تحكم بالجوع على الرّاغبين في الأكل! فعلا مَن منهم سيجرؤ على شرائه إن قُرّر أنّ كلّ الأطعمة التي تُموّن لنا لقاء ثمن نبغيها لغرض السّحر لا الأكل؟ لذا إن لم يبق شيء مريب لا في دعوة الصّيّادين مقابل ثمن إلى مزاولة نشاطهم المعتاد، صيد السّمك- وألاحظ بالمناسبة أنّهم لم يأتوا بأيّ منهم للشّهادة لأنّهم لم يوجدوا أصلا- ولا في الثّمن المدفوع لقاء بضاعة تباع وتشترى- والذي لم يحدّدوا قطّ مبلغه مخافة ألاّ يؤبَه به إن ذكروا سعرا زهيدا أو لا يصدَّق إن ذكروا سعرا باهظا-، إن لم يكن هناك كما أقول ما يريب في هذه الوقائع فليجبني إمليانوس أيّ مسوّغ معقول حمله على اتّهامي بالسّحر.

 

30- غياب ذكر الأحياء البحريّة في وصفات السّحر التي نقرأ في بعض المصادر الأدبيّة

   يقول: "تطلب سمكا". لا أنكر ذلك لكنّي أسألك: أمن يطلب سمكا ساحر؟ لا أعتقد ذلك أكثر ممّا أعتقده لو طلبتُ أرانب أو خنازير أو دواجن. أم هل للأسماك وحدها شيء يجهله الآخرون ويعرفه السّحرة؟ إن كنتَ تعلم ما هو فأنت بالتّأكيد ساحر، وإن كنتَ تجهله فلا بدّ أن تقرّ بأنّك  تجرّم ما تجهل. أأنتم جاهلون بكلّ المعارف، بل حتّى بكلّ الخرافات الشّعبيّة، إلى درجة العجز عن تلفيق هذه الافتراءات بنحو يمكن تصديقه؟ إذ كيف يؤدّي إلى إضرام لهيب الحبّ سمك بارد وبليد، أو أيّ شيء مجلوب من البحر عموما؟ إلاّ إن حدا بكم إلى هذه الكذبة ما يقال عن ولادة فينوس من البحر.

   اسمعْ يا تنّونيوس بودنس مدى جهلك أنت الذي قبلتَ السّمك دليلا على ممارسة السّحر. لو قرأتَ ورجيليوس لعلمتَ يقينا أنّ عقاقير أخرى تُستحضر عادة لهذا الغرض. إذ يعدّد ضمنها على ما أعلم العساليج الرّيّى الأماليد والفروع الغليظة واللّبان الذّكر والخيوط الملوّنة، فضلا عن غصن يابس من الغار وطين متيبّس وشمع متخثّر، وقد أشار في كتابه الرّصين:

   "تُستحضر في اللّيلة القمراء أعشاب نضرة قُطعتْ بمناجل من نحاس تقطر بحُلابة السّمّ الأسود ويُلتمس الحبّ المنتضَح من جبين مهر وليد والمغتصَب من أمّه"*.

   لكنّك أنت المدّعي على الأسماك تنسب للسّحرة وسائل مختلفة تماما، لا تُستحلب من جبهة الوليد الغضّ، بل تُكشف من الأجراف المفرطحة، لا تُقتطف من الأرض بل تُستمدّ من أعماق اللّجّة، لا تُجتنى بمناجل بل تُشكّ بشصوص. أخيرا بينما يذكر كوسيلة للإيذاء السّمّ تذكر أنت إداما، هو يذكر الأعشابَ والفسائل وأنت الأسماك والحراشف، هو يجلم المروج وأنت تنكش الأغمار. كان بوسعي أيضا تذكيرك بعقاقير مماثلة عند ثيوقريطس* وأخرى عند هوميروس وأخرى كثيرة عند أُرفيوس، وأستحضر وصفات عديدة من المسرحيّات اليونانيّة، ملاهي كانت أو مآسي، ومن القصص، لو لم ألاحظ عجزك عن قراءة رسالة بودنتلّة اليونانيّة. لذا سأورد أيضا شاعرا لاتينيّا بنصّ أبياته التي سيتعرّفها من قرؤوا لايويوس*:

   "في كلّ مكان يُعدّون خلطات سحريّة للحبّ. وتُلتمس لإعداد رقية المتحابّيْن هذه العقاقير: أسْوق وبراثن وديدان، وجذور وأعشاب وفسائل، وطعوم عظيّة ذات ذيلين، وفتن من كلّ شاحج وصاهل"*.

 

31- سخرية من تهم إمليانوس

  كان يمكنك الادّعاء أنّي بحثت عن هذه العقاقير وأخرى شبيهة بدلا من الأسماك بمصداقيّة أكبر- فربّما صُدّقت هذه الوصفات لشهرتها- لو كان لك حدّ أدنى من الثّقافة: إذ لأيّ شيء تصلح سمكة اصطيدت سوى طبخها وجبة للآكلين؟ هذا ولا يبدو لي قطّ أنّ في السّمك ما يصلح للسّحر. سأقول من أين أحدس هذا. عدّ الكثيرون فيثاغور من أتباع زرادشت وبارعا في السّحر مثله، لكن ذكرت الرّوايات أنّه لاحظ يوما صيّادين يسحبون شبكتهم قرب ميتابنتوم* على ساحل إيطالية الذي اتّخذه مُقاما وجعله قطعة من أرض اليونان، فابتاع منهم صيدهم شراء غَرر، وبعد تسليمهم الثّمن أمر فورا بتخليص تلك الأسماك من الشّبكة حيث كانت عالقة تتخبّط وتتلوّى وإعادتها إلى قاع البحر. فبيّنٌ أنّه ما كان ليطلقها من يديه لو كان يجد فيها حقّا ما يفيد في أعمال السّحر. بينما ذكر رجل علاّمة ينافس بسعة علمه القدماء أنّ هوميروس الشّاعر الخبير بشتّى الأمور نسب عند حديثه عن ساحرة كلّ الأدوية إلى البرّ لا البحر قائلا:

   "كانت عليمة بكلّ الأدوية التي تضمّها الأرض الواسعة"^*.

   كتب مثل ذلك أيضا في موضع آخر من أشعاره:

   "تحمل لها الأرض المعطاء عقاقير كثيرة، بعضها عظيم النّفع إن خُلط لكنّ بعضها ضارّ"^.

   مع ذلك لم يَرد لديه قطّ أنّ أحدا أعدّ دواء بشيء مستمدّ من البحر وسمكه. فما فرك به بروتيوس* وجهه ولا أوديسّيوس* حفرته ولا إيولوس* قربته ولا هيلينة* باطيتها ولا  كِرخة* قدحها ولا فينوس زنّارها. لكنّكم وحدكم بين الرّواة نقلتم قوّة الأعشاب والجذور والأغصان والأحجار من شُمّ الجبال إلى البحر وكننتموها في أحشاء الأسماك، قالبين نظام الطّبيعة. لذا حسب رأيكم كما جرت العادة باستحضار مركوريوس* ملهم الأشعار وفينوس غاوية الأفئدة ولونة* نجيّة اللّيالي وتريفية* ملكة الظّلال سينتقل بعد اليوم نبتون* مع صلاقية* وبُرتونوس* وفرقة النّيريّات* الشّاديات من فوران اللّجّة إلى فوران الحبّ.

 

32- حتّى لو كان السّمك يصلح للسّحر لا تدلّ حيازته على ممارسة السّحر

   قلتُ لماذا لا أرى علاقة بين السّحر والسّمك. والآن إن شئتم لنصدّقْ إمليانوس في زعمه أنّ السّمك أيضا يساعد قوى السّحر. فهل كلّ من يطلب سمكا ساحر أيضا بناء على ذلك؟ وفق طريقة التّفكير هذه سيكون كذلك من يطلب سفينة خفيفة قرصانا ومن يلتمس قضيبا كاسرَ أبواب ومن يشتري خنجرا قاتلا.

   في الواقع لا يمكن القول إنّ شيئا ما خالٍ من المضرّة إلى حدّ أنّه لا يمكن أن يؤذي من أيّ وجه، ولا مفرح إلى الحدّ الذي لا يمكن معه تصوّر أنّه قد يجلب الحزن. لكنّ هذا لا يجرّ إلى إساءة الظّنّ بكلّ شيء. فإن حسبتَ اللّبان والقرفة والمرّ والصّبَر وغيرها من العطريّات تُشترى فقط حنوطا للموتى، فاعلم أنّها تُستخدم أيضا لاستحضار دواء أو تتبيل قربان. ثمّ إنّك قد تفكّر أيضا، بناء على نفس النّظرة إلى الأسماك، أنّ أصحاب مينلاس* كانوا هم أيضا سحرة، إذ يخبرنا الشّاعر الفذّ أنّهم قبالة جزيرة فاروس* دفعوا غائلة الجوع باستخدام شصوص معقوفة. وقد تقول نفس الشّيء أيضا عن النّوارس والدّلافين وعناصل البحر، وكذلك عن النّاس الأكيلين الذين يشترون سمكا كثيرا من الصّيّادين، وعن الصّيّادين أنفسهم الذين يصطادون بمهارة أسماكا من كلّ الأنواع.

   "لِم تطلبها إذن؟" قطعا لا أريد ولا أرى لزاما أن أجيبك، بل أثبتْ أنت بالأحرى إن استطعتَ أنّي اشتريتُها للغرض الذي تدّعي. كما أنّي إن اشتريتُ الخربق أو الشّوكران أو عصارة الخشخاش وغير ذلك من العقاقير التي في استخدامها بنحو معقول صحّة وفي خلطها والإسراف فيها مضرّة، فمن سيقبل باقتناع أن تحاكمني عليها بتهمة استحضار السّموم لمجرّد إمكانيّة استخدامها لقتل إنسان؟

 

33- نوع الأسماك المشتبه فيها

   لكن لنر ما تكون تُرى أنواع الأسماك التي كانت هناك حاجة ماسّة بتلك الدّرجة إلى اقتنائها، والتي يندر إلى ذلك الحدّ العثور عليها حتّى تستحقّ أن تُدفع في طلابها مكافأة عالية. ذكروا ثلاثة، مخطئين في واحد منها ومفترين في اثنين. مخطئين لقولهم إنّه أرنب البحر، وها قد حمله من تلقاء نفسه لتعاينه عبدُنا تِمسكون غيرُ الجاهل بالطّبّ كما سمعتَ منه هو نفسه. والواقع أنّه لم يجد بعد أرنب البحر المزعوم. لكن أعترف بأنّي أبحث أيضا عن أنواع أخرى، لا من الصّيّادين فقط، بل كذلك من أصحابي الذين كلّفتهم بهذه المهمّة: إن عثر أحدهم على سمك من نوع غير معروف جيّدا، أن يصفوا لي شكله أو أن يحملوه لي لأراه حيّا، وإن تعذّر ذلك فميتا. أمّا لأيّ سبب أفعل ذلك، فسأخبركم في الإبّان. كذلك كذب متّهميّ الأذكياء، كما يظنّون أنفسهم، لمّا ادّعوا للتّشهير بي أنّي طلبتُ سمكتين تحملان اسمين فاحشين راق لتنّونيوس أن يفهم أنّهما عضوا تناسل الجنسين، لكنّه- أكرِمْ به محاميا مفوّها- عجز عن نطقهما بسبب عيّه. وبعد تعنية مريرة وتأتأة طويلة، سمّى الذّكر بعبارة ملتوية وبنحو سيّء وبذيء، لكنّه لم يجد من سبيل لتسمية العضو الأنثويّ بنحو لائق، فلجأ إلى كتاباتي وقرأ في أحد مؤلّفاتي:

   "غطّت عانتها مقدّمة فخذها ومستغشية كفّها".

 

34- سخرية من استنتاجات متّهميه المتسرّعة

   هذا أيضا لم يتورّع من تحويله إلى عيب يعيّرني به، لأنّي لا أستحي من ذكر أشياء مخجلة في حدود اللّياقة. لكنّي أحقّ بمؤاخذته، فهو مع تباهيه أمام النّاس بإجلال ورعاية الفصاحة يرفث بنحو سمج بذيء بما قيل بنحو لائق مستساغ وكثيرا ما يتلعثم في نطق ألفاظ لا تتضمّن أقلّ صعوبة أو ينحبس لسانه كلّيّا.

   قل لي لا أبا لك، لو لم أكتب شيئا عن تمثال فينوس ولم أسمّ العانة، فبأيّة ألفاظ كنت ستتّهمني بذلك الجرم الموافق بالأحرى لحماقتك كما للغتك؟ وهل ثمّة أسخف من افتراض تشابه بين خصائص المسمّيات انطلاقا من تشابه أسمائها؟ أم ترى كنت تتصوّر أنّك وجدت بذكاء كيف تدّعي عليّ زورا أنّي طلبتُ بغرض استحضار رقى تينك السّمكتين الفحل والعذراء. فتعلّمْ إذن الأسماء اللاّتينيّة الصّحيحة للأشياء التي سمّيتُها لذلك السّبب بنحو مختلف حتّى ترفع دعواك من جديد وأنت تفقه ما تقول.

   لكن تذكّرْ سخف ادّعائك أنّي طلبت لغرض فاحش أسماكا لها أسماء ذات إيحاءات فاحشة، فذلك كالقول بأنّ النّاس يطلبون السّمكة المدعوّة أبا مشط لمشط شعرهم، أو صقر البحر لصيد الطّيور، أو خنزير البحر لصيد الخنازير، أو أبا جمجمة لاستحضار الموتى. أردّ إذن على هذه التّهمة من لائحتك بحمق يوازي سخف فريتك بأنّي لم أقتنِ هذه التّفاهات البحريّة والسّفاسف السّاحليّة لا بثمن ولا مجّانا.

 

35- سخافة استنتاج تقارب المسمّيات من تقارب الأسماء

   وأردّ فضلا عن ذلك بأنّكم تجهلون ما تدّعون افتراء أنّي طلبته. إذ توجد من التّفاهات التي ذكرتم في كلّ السّواحل أعداد كبيرة وتجمّعات متراصّة وأكوام مكدّسة، وبدون أن نبذل أدنى مجهود لاقتنائها، تلقي لنا بها الأمواج المنسابة برفق على الشّاطئ. لِم لا تقول إذن إنّي طلبت من عدّة صيّادين مقابل ثمن صَدَفة من لُقى الشّاطئ لها قشرة محزوزة وحصاة ملساء ناعمة وكذلك كمّاشتا سرطان وقشرة توتياء مجوّفة وأذرع حبّار، وفوق ذلك صفائح وزُبانيان وأشرطة وقشور محار مرقّطة، وأخيرا حزاز وطحلب وغير ذلك ممّا يقذفه البحر وتذروه الرّياح السّاحليّة وتقذفه الأمواج وتدوّمه العواصف ويتركه الطّقس الصّحو مكانه. بالإمكان إثارة شبهات مماثلة بتطويع التّقارب اللّفظيّ في كلّ ما ذكرتُ من الأشياء.

   تقولون إنّ بالإمكان اقتناء مستحضرات رقى وعزائم من نفس الشّاطئ للأغراض الغراميّة على أساس تشابه الأسماء. فلِم لا يمكن الرّبط بنحو مماثل بين الحصى الملتقطة من الشّطآن وحصى الكلى، أو بين الأصداف والوصايا أو السّرطان وقروح الباطنيّة وبين الطّحالب والحمّى*؟ أمّا أنت يا كلوديوس مكسيموس فإنّك لعمري رجل حفيّ حليم، إذ تحمّلتَ طويلا مهاتراتهم وحقّ هرقل. ولقد كنتُ من جهتي، لمّا راحوا يقدّمونها كحجج جدّيّة دامغة، أضحك من حماقتهم وأعجب من طول أناتك.

 

36- اهتمامات أبوليوس العلميّة

أمّا لماذا صرتُ أعرف كثيرا من الأسماك، وآبى الاستمرار في جهلها، فليُخبرْنا إمليانوس بحكم اهتمامه الشّديد بشؤوني. فمع أنّه بلغ منحدر العمر وأفول المشيب حتّى يحصّل علما جاء متأخّرا وبعد فوات الأوان، ليقرأْ آثار الفلاسفة الأقدمين ليعلمَ أخيرا أنّي لستُ أوّل من خاض في هذه الأمور، بل سبقني إلى بحثها منذ أمد طويل أرسطوطاليس* وتيوفرسطوس* وإيوديموس* وليقون* وآخرون من أتباع أفلاطون خلّفوا كتبا عديدة حول تناسل الحيوانات وتغذيتها ووظائف أعضائها وكلّ خصائصها المميّزة.

   وإنّه لمن حسَن الاتّفاق أن تُرفع هذه القضيّة إليك يا مكسيموس الذي لا أشكّ، لعلمي بسعة اطّلاعك، في أنّك قرأتَ مؤلّفات أرسطوطاليس حول "تكوين الحيوان"^ و"تشريح الحيوان"^ وحول "أخبار الحيوان"^ وهي تتكوّن من مجلّدات عديدة. هذا فضلا عن عديد "المسائل" له ولأتباعه، عولجتْ فيها قضايا من نفس النّوع. فإذا كان شرفا لهم ومفخرة أن كتبوا في تلك القضايا بمثل ذلك الاهتمام وذلك الاستقصاء، لِم يعيبني أن أباريهم، لاسيما إن سعيتُ جاهدا إلى الكتابة بمزيد من التّماسك والاختصار حول نفس المسائل باليونانيّة واللاّتينيّة، مع إضافة ما أُغفل أو زيادة ما أُسقط* في كلّ منها؟

   اسمحوا إن طاب لكم الاستماع بأن تُقرأ عليكم نبذ من كتاباتي تلك حول شؤون السّحر كما يزعمون، ليعلم إمليانوس أنّي أجتهد أكثر ممّا يتصوّر في البحث والتّنقيب. خذْ واحدا من كتبي الموجودة صدفة هنا حيث حملها بعض أصحابي وأنصاري حول مسائل في الطّبيعيّات لاسيما ذاك الذي أتناول فيه عدّة مسائل حول نوع الأسماك. بينما يبحث هذا الرّجل عن الفصول المعنيّة سأقدّم مثلا ذا صلة بالموضوع. (...)

 

37- مثل سوفوكليس الذي اتّهمه ابنه بالسّفاهة

   عاش الشّاعر سوفوكليس* منافس يوريبيدس* والمتفوّق عليه إلى طور متأخّر من الشّيخوخة. يروى أنّه لمّا اتّهمه ابنه أمام قضاة بالجنون- كما لو أنّ تقدّمه في السّنّ أفقده الصّواب- قدّم مسرحيّته الشّهيرة "كولونيوس"*، التي اتّفق أنّه كان إذّاك بصدد كتابتها، فقرأها أمام القضاة، دون أن يزيد شيئا دفاعا عن نفسه، سوى دعوتهم إلى الحكم بحزم بجنونه إن لم تعجبْهم أشعار شيخ مثله. ألاحظ هنا أنّ القضاة قاموا إجلالا للشّاعر العظيم ووفّوه التّبجيل والثّناء على براعة حجّته وبلاغة مسرحيّته وكادوا يحكمون جميعا بجنون المدّعي بدلا منه. أوجدتَ الكتاب؟ شكرا. أنسحبُ إذن ولنجرّبْ إن أمكن أن يفيدني أدبي أنا أيضا في المحكمة. اقرأْ لنا قليلا من البداية ثمّ شيئا عن السّمك. وأنت أوقف الماء أثناء قراءته. (...)

 

 

38- تصنيف الأسماك

   لا شكّ يا مكسيموس أنّك قرأتَ عند الفلاسفة القدماء جلَّ ما سمعتَ. تذكّرْ فقط أنّي صنّفتُ هذه الكتب حول الأسماك وحدها: أيّ منها يتناسل بالجماع وأيّ يتكوّن من طين القاع، كم مرّة في السّنة وفي أيّة مواسم تلقّي الإناث أنفسها للّقاح وتعتليها الذّكران، بأيّة أعضاء ولأيّة أسباب ميّزت الطّبيعة وَلودها وسَروءها viviparous et oviparos- هكذا أدعو باللاّتينيّة المصطلحين اليونانيّين zootoka  و ovotoka. لكن يجب ألاّ أستمرّ طويلا في عرض مفصّل لنشوء الحيوانات وغذائها وأعضائها وتعميرها وتفاصيل كثيرة أخرى يلزم أن يعلمها العارف، لكن لا محلّ لها في محكمة.

   سأوعز الآن بقراءة شذرات من كتاباتي اللاّتينيّة المتّصلة بنفس العلم، وستلاحظ فيها من جهة أشياء جديرة بالذّكر وغير معروفة إلاّ لقلّة من أهل الاختصاص، ومن جهة أخرى كذلك أسماء غير مستعملة عند الرّومان ولا تزال على حدّ علمي غير متداولة إلى يومنا هذا. ومع ذلك ولّدتُ تلك الأسماء بفضل بحثي الجادّ واجتهادي نقلا من اليونانيّة لتُسبك سكّةً لاتينيّة. فليخبرْنا أعوانك يا إمليانوس أين قرؤوا تلك الكلمات مصوغة باللاّتينيّة. سأتحدّث فقط عن الأحياء البحريّة دون سواها من الحيوانات، إلاّ عند الحديث عن خصائصها المميّزة. فأصغ إلى ما سأقول، ولن تلبث أن تهتف بي أنّي أستعرض أسماء سحريّة مستمدّة من الطّقوس المصريّة والبابليّة. سلاشيا، ملاقيا، ملقُستراكا، خُندرَكنثا، أُسترَكودرما، كرْخَرودُنتا، أمفيبيا، لِبيدوتا، فُليدوتا، درموبترا، ستيقانوبودا، مونيري، سوناقلستيكا"*.

   يمكنني الاستمرار، لكن لا أريد إضاعة النّهار في هذا الموضوع، كي يتوفّر لي وقت لأمرّ إلى سواه. في الأثناء، اتلُ علينا باللاّتينيّة أسماء هذه العيّنة البسيطة من الأسماك التي ذكرتُ. (...)

 

39- استشهاد بشعراء لاتين

   فهل ترى ترى عيبا على فيلسوف غير جافي الطّباع ضحل الثّقافة على طريقة الكلبيّين الفجّة، بل يذكر انتماءه إلى المدرسة الأفلاطونيّة، أن يعلم هذه الأمور أم أن يجهلها، أن يهملها أم أن يهتمّ بها، أن يعرف كم يتجلّى فيها من تدبير إلهيّ أم أن يصدّق أساطير أبيه وأمّه عن الآلهة الخالدين؟

   كتب إنّيوس* قصيدة عن "لذيذ المآكل"^ يعدّد فيها أنواعا لا حصر لها من الأسماك لا شكّ أنّ له بها معرفة دقيقة. أذكر بضعة أبيات منها سأتلوها:

   "شلق قليبية* يفضل كلّ ما سواه، وكذلك لطّ إينوس* ومحار أبيدوس* الوفير ذو الأصداف الصّلبة، وأبو شوكة في متلينة* وخاردروس* والتّخس في أمبراقية*. واعلمْ أنّ بتارنتوم* أجود خنازير البحر. سرقوس# برندسيوم* هو الأطيب. خذ منه إن وجدته كبير الحجم. تدبّر أمرك لشراء تُخس سُرّنتوم* وسمك كومية* الأزرق. لكن لِم كدتُ أغفل أبا مصقار بحقّ فكر يوبتر* العليّ ( الذي لا يطاله النّسيان)- ملْ إلى بلاد نسطور* فهناك تشتريه طيّبا كبيرا- والبوريّ والكيدم والغُبر والشَّفش ومديخ كُركورة* وأبا جمجمة المكتنز لحما وشحما، والحمّير والإسقمريّ  والتّرس والتّوتياء اللّذيذة."

   وأشاد بأسماك أخرى في كثير من أشعاره، ذاكرا مصدر كلّ منها، وما إذا كان أطيب مذاقا مشويّا أو مطبوخا. مع ذلك لم يؤاخذه النّقّاد فلا مبرّر إذن لأن يؤاخذوني على كتابة أشياء معروفة لقلّة من النّاس باليونانيّة واللاّتينيّة بمفردات مناسبة ومهذّبة.

 

40- جلب السّمك لأغراض صيدلانيّة

   تكلّمتُ في هذا الباب بما يكفي فهاك سواه. ما الغلط ويحكم في أن أستمدّ من الأسماك بعض الأدوية* وما أنا بالغفل الجاهل بالطّبّ والصّيدلة؟ فكما يوجد الكثير منها مبثوثا ومفرّقا في كلّ الأشياء الأخرى، عطاءً من الطّبيعة واحدا في جميعها، كذلك يوجد بعضها حتما في الأسماك. أفترى أنّ معرفة الأدوية والبحث عنها وظيفة السّاحر أكثر ممّا هي مهمّة الطّبيب، أو، لِم لا، الفيلسوف الذي يريد استخدامها لا للرّبح بل لمساعدة النّاس؟ كان الأطبّاء القدامى يعلمون هم أيضا أنّ الرّقية دواء للجراح، كما يخبرنا هوميروس أوثق مرجع عن الأزمنة القديمة، إذ جعل الدّم النّازف من جرح أوديسيوس يتوقّف برقية سحريّة*. وما بجرم لعمري ما يُفعل لجلب الصّحّة.

   يقول: "لكن لأيّة غاية سوى الأذى شرّحتَ السّمك الذي جلبه لك خادمك تميسون؟" كما لو لم أذكر قبل برهة أنّي أكتب عن أعضاء كلّ الحيوانات ووسطها المعيشيّ وعددها ومنشئها، وأبحث بتمعّن في كتاب أرسطوطاليس في التّشريح وأضيف إليه، لذلك أعجَب كثيرا أن تعلم أنّي فحصتُ سميْكةً لا يُعتدّ بها والحال أنّي فحصتُ مثلها أسماكا كثيرة جُلبتْ من كلّ مكان، خاصّة وأنا لا أفعل شيئا من ذلك خفية، بل أزاول كلّ أعمالي علانية، بحيث يستطيع حتّى الغريب مشاهدتها، وذلك وفق عادة وطريقة معلّميّ الذين يقولون إنّ على الإنسان الحرّ الكريم أن يحمل حيثما ذهب سريرتَه مرتسمة بارزة على محيّاه. لذا أريتُ كثيرا ممّن كانوا حاضرين تلك السّمكة التي تدعونها "أرنب البحر". هذا ولا أتبيّن بعد بوضوح ما تدعون بهذا الاسم، ولا بدّ لي من مواصلة البحث بمزيد من التّدقيق، إذ لا أجد في ما كتب الفلاسفة القدامى توصيف هذه السّمكة، مع أنّها أندر من كلّ الأسماك الأخرى ومفروض وحقّ هرقل أن يرد ذكرها في كتبهم، وهي على حدّ علمي فريدة حقّا في مواصفاتها، فهي من جهة خالية من الحسك، ومن جهة أخرى يوجد في بطنها، اثنا عشر عظما متّصلة ومتسلسلة تشبه أظلاف الخنازير، وهو أمر ما كان ليفوت أرسطوطاليسَ ذكرُه في كتبه لو علمه، هو الذي ذكر أنّ قلب حمار البحر وحده بين جميع الأسماك يوجد وسط بطنه لضخامته.

 

41- تشريح السّمك

   يقول: "شرّحتَ سمكة". من يعدّ جرما عند الفيلسوف ما لم يعدّه أحد جرما عند الجزّار أو الطّبّاخ؟ "شرّحتَ سمكة". أتنكرون عليّ ذلك لقسوته؟ لو شققتُ بطنها وهي مطبوخة أو استللت كبدها- كما يتعلّم في بيتك ذلك الغلام سيكينوس بودنس عند تناول طعامه- لما اعتبرتَ ذلك فعلا يعرّض صاحبه للاتّهام. وإنّ أكل السّمكة لجرم لدى الفيلسوف أكبر من فحصها*. أفيُسمح للعرّافين بتفتيش أحشاء الحيوان*، ولا يُسمح بتأمّلها للفيلسوف، الذي يعدّ نفسه عرّاف كلّ الحيوانات، وكاهن كلّ الآلهة؟ أتعيب عليّ إعجابنا أنا ومكسيموس بأرسطوطاليس* الذي لا يحقّ لك اتّهامي ما لم تسحب كتبه من كلّ المكتبات وتنتزعها من أيدي الدّارسين؟ لكنّي أطلت حول هذه النّقطة أكثر ممّا ينبغي.

   والآن انظر ، زيادة عمّا سبق، كم يفنّدون مزاعمهم بأنفسهم. يقولون إنّي كنتُ أحاول استمالة زوجتي بالأخذات والعقاقير السّحريّة المستمدّة من البحر في الوقت الذي كنت أثناءه- وهو ما لن ينكروه- في جبال وسط قيتولية حيث توجد أسماك بفضل طوفان ديوكَليون*. وهو أمر يسرّني جهلهم بأنّي قرأته في كتاب تيوفرسطوس عن "الحيوانات القارصة واللاّدغة" وكتاب نيكندروس* عن "التّرياق"، وإلاّ لاتّهموني بالتّسميم. لكنّي هدتني إلى هذا الشّغل قراءة أرسطوطاليس واجتهادي لبلوغ شأوه وإلى حدّ كبير نصيحة معلّمي أفلاطون القائل إنّ الباحث في تلك الأمور "يمارس كالغلام رياضة لن يندم عليها العمر كلّه"^*.