أبوليوس

 

المرافعة

 

الفصول 1-23

 

حواش 

 

 

 

 

 

 

5

4

3

2

1

مقدّمة

 

المرافعة

 

1- افتتاح

كنتُ واثقا حقّا يا مكسيموس كلوديوس ويا أعضاء المجلس، وأعدّ حقيقة ثابتة أنّ سيكينيوم إمليانوس، هذا الشّيخ المعلوم سفهه للجميع*، سيملأ دعواه المقدّمة ضدّي أمامك قبل التّفكير المتروّي بمحض افتراءات لانعدام جنايات. إذ يمكن لا شكّ اتّهام أيّ شخص لكن لا يمكن أن يدان إن لم يذنب. لهذا السّبب بالأخصّ أهنّئ نفسي مطمئنّا وحقّ الآلهة، فلديّ الوسيلة والقدرة، إذ قُيّض أن تكون أنت القاضي، لتنقية صفحة الفلسفة* أمام العوامّ وإثبات براءتي، وإن بدت هذه التّخرّصات لأوّل وهلة خطيرة إذ تجعل من الصّعب ارتجال دفاع* لم أفكّر فيه سابقا.

   فكما تذكر لمّا رفعتُ قبل خمسة أو ستّة أيّام قضيّة باسم زوجتي بودنتلّة ضدّ آل غرانيوس بدأ أشياعه يهاجمونني بنشر إشاعات عنّي وأنا في شُغُل عمّا يأفكون، ويتّهمونني بمزاولة أعمال السّحر* الأثيمة وبقتل ربيبي بنتيانوس. ولمّا تأكّد لي أنّهم لا يعرضون جرائم على المحكمة وإنّما يروّجون افتراءات بغرض المناوشة، تحدّيتُهم طالبا بإلحاح تجاوز ذلك إلى إقامة دعوى. لكن لمّا رأى إمليانوس تأثّرك الشّديد بالمسألة، وأنّه أثار قضيّة بمجرّد كلمات، شرع في بحث يائس عن مخرج له من مأزق سفاهته.

 

2- مناورات المدّعي

   لذا وبعد إجباره على رفع دعوى، نسي فورا أنّه كان قبل مدّة قصيرة يقيم ضجّة زاعما أنّي قتلت بنتيانوس ابن أخيه. هكذا سكت فجأة عن موت قريبه الشّابّ. بدا كأنّه كفّ تماما عن الحديث عن جرم بذلك الحجم واختار الاكتفاء بفرية السّحر التي إشاعتها أسهل من إثباتها.

   لم يجرؤ طبعا على اتّهامي جهارا. بل عمد من الغد إلى تقديم الشّكوى باسم ربيبي سيكينوس بودنس، الذي لا يزال غلاما، ونصّب نفسه وكيلا لمساعدته، في أسلوب مستجدّ لمهاجمة الغير، وذاك طبعا قصد التّذرّع بحداثته كيلا يعاقَب هو نفسه على اتّهامي باطلا. ولمّا تفطّنتَ بثاقب نظرك إلى ذلك فأوعزتَ إليه بإعادة رفع الدّعوى المعروضة باسمه هو، وعد بأن يفعل كذلك، أن يتصرّف حقّا بحيث يمكن الجِلاد معه وجها لوجه، لكنّه، وخلافا لتعليماتك، ظلّ بعناد يناوش من بعيد بترويج الأراجيف. هكذا دأب على الفرار من خطر اتّهام الغير جزافا إلى وضع مساعدة القاصر المريح.

   لذا ومن قبل المرافعة، كان سهلا على كلّ أحد إدراك أيّ نوع من الدّعوى ستكون تلك التي يخشى صاحبها وملفّقها رفعها باسمه. والحال أنّ سيكينيوس إمليانوس لو عثر على أدنى دليل حقيقيّ يدينني لما أبدى قطعاً مثل ذلك التّردّد في تقديم شكواه برجل غريب يرميه بذاك الكم الهائل من كبريات الجرائم، هو الذي اتّهم بالتّزوير وبإصرار وصيّة عمّه مع علمه بصحّتها حتّى أنّه لمّا أعلن لولّيوس أُربيكوس سامي المقام بعد استشارة ذوي الرّأي أنّها تبدو صحيحة ويجب اعتمادها، ظلّ هذا السّفيه يحلف مخالفا صوت الحقّ البيّن أنّ الوصيّة مع كلّ ذلك مزوّرة حتّى أنّ لولّيوس أربيكوس لم يتمالك نفسه إلاّ بمشقّة عن إدانته

 

3- خزي شانئيه

   وإنّي لأرجو، واثقا من عدلك ومن براءتي، أن يلعلع ذلك الصّوت في هذه المحكمة أيضا. فمن السّهل أن يتّهم بريئا مع العلم ببراءته من ثبت عليه الكذب سابقا، كما أسلفتُ، في قضيّة خطيرة أمام محافظ المدينة*. فكما يحذر الكريم بمنتهى الحرص والتّيقّظ ارتكاب خطإ مرّة أخرى، يزداد لئيم الطّبع ثقة بنفسه وكلّما تمادى في الإجرام ازداد مجاهرة بفعاله. فالحياء كالثّوب كلّما زاد بلىً نقص اعتناء صاحبه به. لذا أرى لزاما لصيانة شرفي أن أفنّد قبل الدّخول في صلب القضيّة كلّ الأقوال المغرضة.

   فأنا هنا آخذ على عاتقي الدّفاع لا عن نفسي فقط بل كذلك عن الفلسفة التي ترفض رفعتها أدنى مذمّة كجرم كبير. لذلك أشاع محامو إمليانوس في لغوهم المأجور كثيرا من الافتراءات الملفّقة ضدّي خاصّة وأخرى اعتاد السّوقة توجيهها للفلاسفة عامّة. ولئن أمكن اعتبار تلك الأقاويل لغوا باطلا يشاع رجاء فائدة ومقابل ثمن، وأعمالا مأجورة تدفع جعالتَها السّفاهةُ ونوعا من السّمّ دأبت ألسنة المحامين وفق عادة راسخة مقبولة لديهم على نفثه لإيذاء الغير، لا بدّ لي مع ذلك من دحضها ببضع كلمات دفاعا عن نفسي، كيلا أبدو لأحد، أنا الذي أبذل كلّ جهد لئلا أدع وصمة أو مذمّة تلحق بي، إن تغاضيت عن ذلك كلغو تافه، بمظهر المعترف لا المستخفّ به. فمن شيمة النّفس الحرّة الكريمة، في اعتقادي، التّأثّر بالثّلب. حتّى الذين يعلمون أنّهم أساؤوا إلى غيرهم لمّا يسمعون ما يقال عنهم من سوء، يتأثّرون كثيرا ويغضبون وإن أخذوا يعتادون منذ بدئهم في عمل الشّرور على سماع المذمّة. إذ يعلمون في قرارة أنفسهم حتّى إن أغضى الآخرون عن فعالهم أنّهم يستحقّون التّأنيب. لكنّ أيّ شخص صالح ناصع الصّفحة دمث الخلق لم تعتد أذناه سماع المسبّة، ألف الثّناء لا الذّمّ، يشقّ عليه ويحزنه أن تقال عنه باطلا مذامّ هو أحقّ بمؤاخذة شاتميه بها. لذا إن أبدُ ربّما لأحد كأنّي أريد دفع ترّهات بيّنة السّخف والحمق، فيجب أن يعاب ذلك على من أتوا خزيا بقذفي بتلك الشّتائم، لا أن ألام أنا الذي سأُبعد بتفنيدها أيّة وصمة عن شرفي.

 

4- الرّدّ على تهمة التّأنّق

   سمعتَ إذن قبل قليل في بداية الدّعوى هذا القول: "نتّهم لديك فيلسوفا متأنّقا بلغ في اليونانيّة واللاّتينيّة معا- يا للجرم الشّنيع!- قمّة الفصاحة"*. بهذه الكلمات إن لم أخطئ افتتح لائحةَ الادّعاء ضدّي تنّونيوس بودنس الذي قطعاً ما له في الفصاحة من خَلاق. فليته أصاب في اتّهامه لي بهذين الجرمين الخطيرين: الأناقة والفصاحة! إذن لما وجدت صعوبة في إجابته بما أجاب به إسكندرُ* هوميروس* هكتورَ*:

   "لا يحقّ ازدراء عطايا الآلهة الرّائعة، تلك التي يمنحونها وحدهم، وليس بمقدور أحد نيلها بنفسه"^.

   ها أنا الآن سأردّ على مطعن الأناقة. ويحك! من حقّ الفلاسفة أيضا أن يكونوا أنيقي المظهر. هذا فيثاغور* أوّل من اتّخذ اسم فيلسوف كان واحد زمانه وسامة. كذلك زينون الإيليّ* والذي سبق الجميع إلى حلّ المفارقة المعروفة بطريقة بارعة، كان له من الوسامة الحظّ الأوفى كما يؤكّد أفلاطون*. والأمر مماثل في عدّة فلاسفة يروى أنّهم كانوا حسني المظهر ويتّخذون وسائل الزّينة تعزيزا لبهاء أجسامهم الطّبيعيّ. لكنّ هذا الدّفاع كما قلتُ لا يخصّني، فما أوتيتُ من الحسن إلاّ قليلا، ناهيك أنّ انقطاعي إلى العمل الأدبيّ يزيل عن جسمي كلّ مسحة من جمال ويُكلّ قوامي ويمتصّ نضرتي ويُبهت سحنتي وينهك قوّتي. وحتّى شَعري الذي زعم خصومي في كذب سافر أنّي تركته يطول قصد التّزيّن ترى مدى أناقته ونعومته، فهو مهوّش ومشوّش بنحو مريع، ككبّة من المشاقة، قافّّ بدون اتّساق، أشعث وملبّد حتّى ليتعذّر تخليصه لطول ما أهملتُ تصفيفه، بل حتّى مجرّد تسريحه وتمشيطه. وفي ذاك ما يكفي في اعتقادي لتفنيد تهمة شَعري التي عدّوها جريمة تستوجب الإعدام.

 

5- الرّدّ على تهمة الفصاحة

   أمّا الفصاحة، فإن يك لي فيها حظّ، فلا ينبغي أن يُعدّ ذلك أمرا غريبا ولا مكروها، إذ عكفتُ منذ فجر العمر على دراسة الأدب على أبرز رجاله، مزدريا في سبيل ذلك كلّ ملاذّ الحياة الأخرى، ولعلّي نشدتُها أكثر من كلّ النّاس بمجهود جبّار ليلا ونهارا دون مراعاة لصحّتي وعلى حسابها. لكن لا يخافُنّ قطّ من الفصاحة التي إن أظهرتُ منها نزرا يسيرا، فأنا لا أبديها بقدر ما أرتجيها.

   وإن صحّ فعلا أنّ ستاتيوس قيقليوس* على ما يقال كتب في بعض شعره أنّ البراءة* هي الفصاحة، فإنّي من جهتي أنادي بهذا الرّأي وأؤكّد أنّي لا أقصر عن أحد في باب الفصاحة. من فعلاً يعيش بنحو أفصح بهذا المعنى منّي أنا الذي لم أفكّر أبدا بشيء لا أجرؤ على التّصريح به؟ بل أقول إنّي الأفصح لأنّي اعتبرتُ دوما كلّ إساءة جرما شنيعا، والأطلقُ لسانا إذ لا يصدر عنّي فعل ولا قول لا يمكنني إعلانه أمام الجميع. وها أنا الآن سأناقش الأبيات التي نظمتُها وقدّموها على أنّها شائنة. بينما لاحظتَ أنّي كنت أضحك من شدّة غضبي* لأنّهم ألقوها بطريقة منحرفة تنمّ عن جهلهم.

 

 

6- أبياته عن مسحوق الأسنان

   قرؤوا أوّلا من أشعاري الفكاهيّة رسالة عن مسحوق للأسنان* كتبتها إلى أحد يدعى كَلبُرنيانوس لم ير حين عرض تلك الرّسالة في رغبته لإيذائي كحجّة ضدّي أنّه إن وُجد فيها شيء يدلّ على إجرامي فهو مشترك بيننا. فالأبيات تُثبت أنّه طلب منّي شيئا لتنظيف أسنانه:

   "كلبرنيانوس، أقرئك في هذه الأبيات العجلى السّلام. بعثت لك كما طلبتَ منظّفات لأسنانك، ستمنح فمك نضرة وسناً، مشتقّة من أصماغ بلاد العرب: مسحوقا دقيقا ناصعا فائق الجودة لإزالة القلح المتراكم على أسنانك، كيلا تُرى لطخة الخلوف المقرفة ولتضحك إن ضحكت بملء فيك."

   أسأل: أيّ معنى أو لفظ في هذه الأبيات يستوجب الخجل، أيّ شيء لا يحبّ الفيلسوف أن يُنسب إليه؟ إلاّ إن استحققتُ اللّوم لإرسالي إلى كلبرنيانوس مسحوقا من أصماغ بلاد العرب، هو أليَق بكثير من عادة الإيبريّين المقرفة "تلميع أسنانهم ولثّتهم" ببولهم على ما يروي كاتلّوس*.

 

7- العناية بنظافة الفم والأسنان

   رأيتُ البعض قبل قليل لا يكادون يتمالكون أنفسهم عن الضّحك لمّا هاجمني خطيبنا بشراسة حول مسألة نظافة الفم وأدان باستنكار شديد مسحوق الأسنان كما لم يسبق لأحد أن أدان السّموم. ولِم لا؟ يجب ألاّ يستخفّ الفيلسوف بتشنيع بعضهم عليه عدم سماحه لأيّ وسخ بملامسته، ولا تحمّله أيّة قذارة أو عفونة على ما ظهر من جسمه، وبالأخصّ الفم الذي يستخدمه الإنسان بكثرة علنا وأمام النّاس، سواء لتقبيل أحد أو لمحادثته أو لإلقاء خطب في قاعة الدّرس أو لتوجيه صلوات في المعبد. لا شكّ أنّ الكلام يسبق أيّ فعل من أفعال الإنسان وينطلق، كما يقول الشّاعر الفذّ، من سور الأسنان*. خذ الآن أحدا بمثل فصاحته: سيؤكّد بطريقته ضرورة الإقرار بأنّ العناية بالفم أهمّ عند صفوة النّاس من العناية بأيّ جزء آخر من الجسم فهو بهو الفكر وباب الكلام ومنتدى الأفكار.

   من جهتي لو سئلتُ عن رأيي لقلتُ إنّ لا شيء أثقل على الرّجل الحرّ الكريم من سماجة الفم. فهذا العضو من الإنسان رفيع المكان بارز للعيان متداول الاستعمال. وبينما الفم في الحيوانات، برّيّها وداجنها، وضيع وموجّه إلى أسفل صوب قوائمها، قريب من الكفّ والطّعام، يكاد لا يرى قطّ إلاّ إن ماتت أو كشّرت للعضّ، لا شيء أسبق منه للرّؤية في الإنسان الصّامت ولا أبرز للعيان في المتكلّم.

 

8- السّخرية من إمليانوس. مثال التّمساح

   لذا أودّ أن يجيب منتقدي إمليانوس سؤالي هل اعتاد قطّ غسل قدميه، فإن لم ينف ذلك هل يدّعي أنّه يجب إيلاء عناية أكبر بنظافة القدمين من الأسنان. لا شكّ عندي أنّ شخصا مثلك يا إمليانوس لا يكاد يفتح فاه أبدا لغير الشّتائم والافتراءات لا يولي فمه أدنى عناية ولا ينظّف بالمساحيق المجلوبة من البلاد البعيدة أسنانه التي أوْلى به حكّها بفحم من محرقة الموتى، ولا يغسلها حتّى بالماء العاديّ. فليقرّ في القذارة والقمامة لسانُه المؤذي نافث الأكاذيب والنّمائم. إذ ما الجدوى، تبّا لك، من امتلاك لسان نقيّ وسليم مع التّفوّه بكلام قذر وكريه، ونفث سمّ أسود من أسنان في بياض الثّلج كالأفعى؟

   يُحقّ من يبادر، لعلمه أنّه سيلقي كلاما نافعا يسرّ السّامعين*، إلى غسل فيه كالإناء قبل ملئه بزكيّ الشّراب. وفيم أطيل الحديث عن بني البشر، وأنا أرى التّمساح، هذا الوحش الجبّار الذي ينشأ في نهر النّيل، يقدّم للتّنظيف أسنانه فاغرا فاه دون إيذاء أحد. فإنّ له فما عظيما دائم الصّمت ويبقى جلّ الوقت مغمورا في الماء، ينحشر بين أسنانه كثير من العلق، حتّى إذا خرج على ضفّة النّهر، فتح فاه فأتى طير صديق من طيور النّهر فالتقطها مولجا فيه منقاره دون أن يخشى أذى*.

 

 

9- ردّ تهمة التّشبيب الخليع

   أدع الآن هذا، وآتي إلى أبيات أخرى من تلك التي يدعونها شعرا غزليّا*. بيد أنّهم ألقوها بغلظة وفظاظة جعلتاها تثير الاشمئزاز. لكن أيّ سحر أو أيّ سوء في أنّي تغزّلت في قصيدة بغلامين لصديقي اسكريبونوس لايتوس؟ أم تُرى أنا ساحر لأنّي شاعر؟ من سمع بهذا الصّدد شبهة قابلة للتّصديق أو مظنّة سهلة التّرجيح أو حجّة مقبولة للأذهان كقولهم: "نظم أبوليوس أبياتا من الشّعر"؟ إن كانت سيّئة فذاك جرم لعمري، لكن جرم شاعر لا فيلسوف، وإن كانت جيّدة ففيم اتّهامكم لي؟

   "لكنّه نظم أبياتا غزليّة عابثة". أتلك جرائمي إذن؟ إنّكم تخطئون لعمري في تسميتها إذ تحيلونني على المحكمة بتهمة السّحر. الواقع أنّ آخرين نظموا مثلها وإن كنتم لا تعلمون. عند اليونان الشّاعر التّيوسيّ* وكذلك اللّخدمونيّ* والقيوسيّ* وشعراء آخرون لا يُحصَون، وكذلك الشّاعرة اللّسبيّة* كتبتْ بأسلوب خليع لكن فيه رقّة أصلحتْ دعارة لغتها بحلاوة أشعارها. أمّا عندنا فهناك إيديتوُوس* وبُركيوس* وكاتُلّوس، من بين آخرين لا حصر لهم.

   "لكنّهم ليسوا فلاسفة". أتنكر إذن أنّ صولون كان رجلا جادّا وفيلسوفا وهو صاحب هذا البيت الماجن:

   "أتشهّى فخذيك وثغرك العذب"*؟

   أيّةَ جرأة تحتوي كلّ أشعاري مقارنة بهذا البيت وحده؟ هذا ودون ذكر كتابات كثيرة من نفس اللّون لديوجين الكلبيّ* وزينون* مؤسّس الرّواقيّة، سأعيد إلقاء الأبيات المعيبة عليّ ليعلموا أنّي لا أخجل بها.

   "كرتياس أنت لذّتي وخلاصي. ويبقى لك في وجداني نصيبك يا حياتي خارينوس. لا تخف: لتحرقْني نارك وناره كما تشاء فلأصبرنّ على هذين اللّهبين ما دمتما لي*. ليتني بهذا أكون عندكما ما يكون الواحد عند نفسه. ستكونان إذن لديّ بمثابة عينيّ".

    سألقي الآن الأبيات الأخرى التي قرؤوها آخرا على أنّها الأكثر مجونا:

   "ضفائرَ من الزّهور، وأعذبَ الهوى وهذه الأبياتَ أهديك: أشعاري أقدّم لك، ضفائر لروحك، أشعارا لنتغنّى بهذا السّنا الحبيب الذي يهلّ عليك في ربيعك الرّابع عشر*، وضفائرَ أيضا لتزدهي أوقاتك في ربيع عمرك السّعيد، وتزيّنَ بالأزهار زهرة شبابك، وتعطيني في مقابل زهرة الرّبيع ربيعَك، فتربيَ بهداياك على هداياي. وتردّ لي مقابل الزّهور المضفورة ضمّة من جسمك، ومقابل الورود قُبُلا من شفتيك المتورّدتين. ولئن ألهمتَ بعطائك روحي، فستولّي أناشيدي هزيمةً أمام شبّابتك العذبة".

 

10- الغلمانيّات في شعر اللاّتين وأفلاطون

   هذه جريمتي يا مكسيموس بين يديك، قوامها ضفائر وأناشيد ماجن خليع. لاحظتَ لا شكّ أيضا أنّهم يأخذون عليّ تسمية الغلامين خارينوس وكرتياس تماشيا مع عادة تسمية الغلمان بغير أسمائهم. فليقيموا إذن دعوى حول نفس الفعل على كسّيوس كاتلّوس لأنّه يدعو كلودية باسم لسبية، وعلى تيكيدا* لأنّه كتب بيرلّة مكان ميتلّة، وعلى بروبرتيوس* لأنّه يصرّح بكُنتية مخفيا هُستية، وعلى تيبلّوس* لأنّ في فؤاده بلانية وفي شعره دالية. وإنّي لأدين قطعا كسّيوس لوكليوس*، وإن يكن من شعراء النّقد، لأنّه أفسد الغلامين غنتيوس ومقدون لإطلاقه عليهما اسميهما الحقيقيّين في شعره. بينما يبدو لي أخيرا شاعر منتُوة* أكثر رصانة إذ تغزّل مثلي بغلام صديقه بولّيون في شعره الرّعويّ الخفيف متخلّيا عن الأسماء الحقيقيّة، مسمّيا نفسه كوريدون وغلامه ألكسيس.

   لكنّ إمليانوس، الأجفى من رعاة الأغنام والأبقار الذين نجدهم في شعر ورجيليوس*، الدّائم الغلظة والجلافة، بل الأشدّ صرامة من سرّانيوس* وكوريوس* وفبريكيوس* ولِفّهم ينكر صدور شعر كهذا عن فيلسوف أفلاطونيّ. ما قولك إذن يا إمليانوس لو علّمتُك مثله من نظم أفلاطون نفسه الذي لم يبق من شعره سوى بضعة أبيات في الغزل؟ فقد أحرق بالنّار بقيّة أشعاره في ظنّي لأنّها لا تضاهيها جمالا. تعلّمْ إذن، إن كنتَ في مثل سنّك قادرا على تعلّم الأدب، هذه الأبيات لأفلاطون في الغلام أستير*:

  "أستير، كنتَ تسطع بين الأحياء كنجم الصّباح، وها أنتَ اليوم ميتا تسطع بين الموتى كنجم المساء"^. 

   كذلك هذا الشّعر الذي نظمه نفس الفيلسوف في الغلامين ألكسيس وفدروس:

   "لمّا تغنّيتُ السّاعة بحسن ألكسيس رنتْ إليه من كلّ صوب أنظار الجميع. فلِم تكشف يا قلبي للوحوش الطّريدة؟ تذكّر أنّا بهذا النّحو فقدنا فدروس؟"^

   كيلا أطيل في ذكر أشعاره الكثيرة في هذا الباب، سأختم بهذا البيت في ديون* السّيرقوسيّ:

   "ديون، بحبّك أضنيتَ قلبي"^.

 

11- المجون في الشّعر غير المجون في الحياة

   لكن ألا أخالف قواعد اللّياقة بذكر هذا في محكمة؟ أم أنتم بالأحرى تخالفونها أيّها المفترون بذكرها في دعوى كما لو كان في عبثي الشّعريّ أيّ مؤشّر على أخلاقي؟ أما قرأتم ردّ كاتلّوس على منتقديه:

   "يليق بالشّاعر نفسه أن يكون عفيفا مستقيما، لكن لا ضرورة لأن تكون أشعاره كذلك"؟

   لمّا كرّم هدريانوس* الإلهيّ قبر صديقه الشّاعر ووكونوس*، كتب عليه ما يلي:

   "لقد كنتَ خليعا في شعرك، عفيفا في فؤادك".

   ما كان ليقول ذلك أبدا لو وجب اعتبار تلك الأشعار الرّقيقة دليلا على مجونه. هذا وأذكر أنّي قرأت لهدريانوس الإلهيّ نفسه أيضا أشعارا كثيرة من هذا القبيل. أفتجرؤ يا إمليانوس على القول إنّ ما فعل الامبراطور والحسيب* هدريانوس الإلهيّ وترك تخليدا لذكره عمل سيّء؟ ثمّ أتحسب مكسيموس سيجرّم ما يعلم أنّي فعلتُ اقتداء بأفلاطون؟ والحال أنّ أبياته التي عرضتُ الآن من النّقاوة بمثل ما هي من الجلاء، ومن الاحتشام في صياغتها بمثل ما هي من الصّراحة في إعلانها، وإنّ إخفاء هذه الأشعار وكلّ ما شابهها والتّستّر عليها لمن فعل المذنب بينما التّصريح والجهر بها من فعل العابث. فلقد منحت الطّبيعة للبراءة صوتا ولفّت بالصّمت الرّذيلة.

 

12- الحبّ البهيميّ والحبّ الرّوحانيّ

   لذا أدع جانبا قول تلك الكتابات الأفلاطونيّة الإلهيّة الرّاقية المعروفة لندرة من العقلاء، والمجهولة عند كلّ العوامّ بأنّ فينوس* ذات طبيعة مزدوجة، يحكم كلّ جانب منها نوع الألفة والألاّف الخاصّ به: جانب سوقيّ مبتذل يحكم حبّ العامّة، لا النّفوس البشريّة فقط بل كذلك البهائم، داجنها وبرّيّها، ويجمع في عناقه الوحشيّ بقوّة عاتية عنيفة أجساد الكائنات الحيّة الخاضعة لجبروته، ويدفعها إلى الشّبق، وجانب إلهيّ سام: فينوس السّماويّة التي بيدها العشق الرّاقي النّبيل، ويقتصر تأثيرها على البشر بل على قلّة منهم، ولا تدفع أتباعها بأيّة مناخيس أو مغريات إلى المخزية، لأنّ العشق الخاصّ بها، غير اللاّهي ولا المريح، بل الجدّيّ والمضني، يحبّب لصنف العشّاق الخاصّ به الفضائلَ بجمال العفّة المميّزة له. ولئن استلطف الأجساد الجميلة، فهو يستنكف عمّا يسيئ إلى جمالها. إذ ليس في جمال الأجساد ما يستحقّ الحبّ سوى أنّها تذكّر الأرواح بجمالها الذي رأته في وجود سابق بين الآلهة نقيّا وحقيقيّا. لذا كتب أفرانيوس* بأناقة أسلوبه المعتادة هذه الحكمة المأثورة عنه: "الحكيم يحبّ وغيره يشتهي". لكن إن أردتَ الحقّ يا إمليانوس وعلى افتراض أنّك تستطيع أبدا فهم هذا الكلام، لا يحبّ الحكيم بقدر ما يتذكّر ذاك الوجود الأسبق*.

 

13- الرّدّ على تهمة مطالعة وجهه في المرآة

فلْتسمح لأفلاطون الفيلسوف بأبياته الغزليّة كيلا أرى لزاما أن أتّخذ حول أمور كثيرة موقفا فلسفيّا مضادّا لرأي نيوبطليموس* بطل إنّيوس*. وإن لم تفعل فسأقبل بسرور أن يوجَّه لي الاتّهام مع أفلاطون بشأن أبيات من هذا النّوع. أمّا أنت يا مكسيموس، فبكلّ امتنان أشكرك على حسن استماعك إلى استطرادات دفاعي هذه التي اضطرّني إليها الرّدّ على تهمهم. كما أرجو أن تصغي إلى بقيّة دفاعي ضدّ تلك التّهم بانتباه وطيب خاطر كما فعلتَ حتّى الآن.

   تلي فعلا في لائحة اتّهاماتهم تلك الخطبةُ التّشهيريّة الطّويلة عن المرآة التي انفجر بخصوصها بودنس، أو كاد، صارخا مسشنعا: "فيلسوفنا عنده مرآة! فيلسوفنا يملك مرآة!"* أنا من جهتي أسلّم بامتلاكها، كيلا تظنّ لو أنكرتُ أنّك وجدتَ فيّ مطعنا. لكن لا يلزم أن يُفهم من ذلك أنّي أثابر على التّزيّن أمام المرآة. ماذا إذن؟ أرأيتم لو كنتُ أملك عُدّة تمثيل هل تستنتجون من ذلك بالمثل أنّي اعتدتُ ارتداء عباءة ممثّل المأساة الطّويلة أو ثوب ممثّل الملهاة الفاقع أو جلباب المهرّج المبرقش؟ لا أعتقد. في المقابل أَعدِم أشياء كثيرة ومع ذلك أتمتّع باستعمالها. وإن لم يكن امتلاك شيء دليلا على استعماله، ولا عدم امتلاكه دليلا على عدم استعماله، وليس القدْح في امتلاك المرآة بقدر ما هو في مطالعتها، لزم أن تعلم أيضا متى وبحضور أيّ شهود نظرتُ في المرآة فأنت، كما هو واضح، ترى المرآة عند الفيلسوف جريمة أبشع من نظر الجاهل بأسرار كيريس* إلى عُدّة زينتها المقدّسة.

 

14- مدح المرآة

   والآن إن سلّمتُ فرضا واعترفتُ بأنّي نظرت فيها، أيّ جرم هو لا أبا لك أن يعرف امرؤ صورته، لا مثبّتة في مكان واحد، بل تحت الطّلب في مرآة صغيرة يحملها حيثما شاء؟ أتجهل أنّ لا شيء تسرّ مشاهدته المرء مثل صورته؟ فأنا أعلم جيّدا أنّ أحبّ أبنائنا إلينا من يبدون شبيهين بنا وأنّ الدّولة تقدّم لأيّ مواطن لمكافأة خدماته الجلّى تمثالا له لينظر إليه. وإلاّ فلم يحبّ النّاس تماثيل لهم وصورا من إعداد شتّى الفنون التّشكيليّة؟ أيعتبرون ترى ما تعدّه صناعتهم جديرا بالمديح وما تقدّمه الطّبيعة خليقا بالإدانة، والحال أنّها أحقّ كثيرا بإعجابنا ويتوفّر فيها عنصرا اليسر والمماثلة. لا شكّ أنّ عملا طويلا يُبذل لإعداد كلّ الصّور التي تبتدعها يد الإنسان، ومع ذلك لا تظهر محاكاة الواقع فيها كما تظهر في المرآة، إذ تُعوز الصّلصالَ الحيويّةُ، والحجرَ النّضرةُ، والرّسمَ الصّلابةُ، وجميعَها الحركةُ التي تكفل مطابقة الواقع بأمانة فائقة، لمّا تُرى الصّورة مرتسمة فيها بنحو عجيب، تامّةَ الشّبه بصاحبها وكذلك متحرّكة ومتجاوبة مع كلّ إيماءة منه. وهي دوما ندّ متأمّلها، منذ مطلع الصّبا حتّى أفول المشيب، تتقمّص كلّ أطوار العمر وتشارك الجسم شتّى أحواله، وتحاكي كلّ هيئات الإنسان في فرحه وفي ألمه. والحال أنّ ما شُكّل من الطّين أو سُبك من النّحاس أو نُحت من الحجر أو نُقش في الشّمع أو رُسم بالصّبغ أو مُثّل بأيّة صناعة إنسانيّة، يغدو في مدّة غير طويلة مختلفا عن الواقع، ويحمل وجها جامدا ثابتا على حاله كالجثّة الهامدة. فلكم تفوق الفنونَ التّشكيليّةَ في محاكاة الواقع صفحةُ المرآة الصّقيلة اللّمّاعة، إنّها لعمري أمهر الصّنّاع وأدقّ الصّاغة*.

 

15- فوائد مطالعة المرآة

      علينا إذن إمّا اتّباع رأي أجسيلاس* اللّخدمونيّ الذي لعدم ثقته بوسامته لم يكن يقبل أن تُرسم أو تُسبك له صورة، أو إن بدا لنا أفضل أن نساير عادة كلّ النّاس الآخرين الذين لا يستنكفون مثله من التّماثيل والصّور فلِم تعتبر رؤية صورة المرء في الحجر أفضل منها في طلاء القصدير، وفي لوحة أفضل منها في مرآة؟ أتَعدّ من الشّائن أن يستطلع المرء بين الحين والحين صورته في المرآة؟ ألا يُروى، بالعكس، أنّ الفيلسوف سقراط* وصّى تلاميذه بالإكثار من تأمّل أنفسهم في المرآة، ليجد من أوتي منهم حسنا مسرّة في حسنه ويعتني به كثيرا فلا يصِم بقبح خُلقه كرم خلقته، ويجتهد في المقابل من يجد نفسه أقلّ فتنة بمنظره لإخفاء دمامته بزينة الفضيلة والخصال الحميدة. هكذا إذن كان أحكم النّاس جميعا يستخدم المرآة حتّى لتعليم مكارم الأخلاق. ومن لا يعلم أنّ ديمُستين* أفصح الخطباء كان يعدّ خطبه دوما أمام المرآة كما أمام معلّم؟ هكذا نرى ذلك الخطيب الفذّ الذي درس البلاغة على أفلاطون وتعلّم الجدل من إيوبوليدس* المنطيق طلب من المرآة مطابقة المقال للمقام بالوجه الأتمّ.

      مَن يجب إذن في نظرك أن يولي عناية أكبر بطلعته عند إلقاء كلمته: الخطيب مقارع الحجج أم الفيلسوف مقرّع الرّذائل*، من يجادل لبرهة أمام محلّفين اختيروا بالقرعة أم من لا ينقطع عن تعليم كلّ البشر، من ينازع حول الحدود بين الحقول أم من يعلّم النّاس الحدود بين الخير والشّرّ؟

   ما لهذه الأسباب فقط ينبغي أن ينظر الفيلسوف إلى المرآة، فكثيرا ما يجدر به أن يتفحّص لا مشابهة صورته له فقط بل كذلك سبب ذلك الشّبه. فهل تنطلق منّا الصّور كما يقول أبيقور* مثلما تنسلخ جلود بعض الحيوانات منسحبة من الأجسام التي اقترنت بها، فإذا لاقت شيئا صلبا صقيلا ارتدّت منكفئة فتطابق الأصل بنحو انعكاسيّ؟ أو كما يفكّر فلاسفة آخرون تنساب الأشعّة من عيوننا، ثمّ، كما يرى أفلاطون، تمتزج بالنّور الخارجيّ وتتّحد به، أو كما يرى أرخيتاس* لا تحتاج بعد انطلاقها من العينين إلى أيّ سند خارجيّ، أو كما يعتقد الرّواقيّون تمرق في الهواء فإذا وقعت على جسم صلب ولامع وصقيل انعكست بزاوية تساوي زاوية سقوطها على سطحه عائدة إلى هيئتها فيرتسم داخل المرآة ما تمسّ وتلقى خارجها؟

 

16- مسائل في البصريّات. السّخرية من إمليانوس

   ألا ترون من واجب الفلسفة البحث والتّنقيب في كلّ هذه المسائل، والنّظر إلى كلّ المرايا، سواء كانت من مادّة رطبة أو جافّة؟ فضلا عمّا ذكرتُ، يجب التّساؤل أيضا لماذا في حالة المرايا المسطّحة يبدو المتأمّل وصورته متساويين تقريبا، بينما في المرايا المحدّبة والكرويّة تبدو كلّ الأشياء أصغر ممّا هي، وفي المقعّرة تبدو بالعكس أضخم؟ أين ولماذا تتمّ مبادلة الميامن بالشّمائل؟ لماذا تحتجب نفس الصّورة عن صاحبها في عمق المرآة تارة، وتبرز إلى الخارج طورا؟ لماذا تحرق المرايا المقعّرة عند تعريضها للشّمس دقاق الحطب الموضوعة قريبا منها؟ ما السّرّ في طيف ألوان قوس قزح، وظهور شمسين متنافستين ومتشابهتين*؟ هناك زيادة على هذه المسائل قضايا كثيرة أخرى تناولها في مؤلَّف ضخم أرخميدس* السّيرقوسيّ، وهو رجل يستحقّ لا شكّ فائق الإكبار أكثر من أيّ سواه لفطنته العجيبة في كلّ مواضيع الهندسة. لكن لا أدري إن كان أوْلى النّاس بالتّنويه لهذا السّبب بالذّات أو لأنّه كان ينظر كثيرا وبانتباه إلى المرآة. لو كنتَ يا إمليانوس تعرف هذا الكتاب، ولم تقفْ وقتك على الحقل والأرض فقط، بل خصّصتَ منه كذلك للوح الحساب ومسحوق الرّسم*، لكنتَ بلا شكّ- صدّقني ومع أنّ وجهك المريع لا يختلف عن قناع تِيَسْتيس* المأساويّ- تنظر السّاعات الطّوال في المرآة تحدوك رغبة في التّعلّم، وتدع المحراث أحيانا لتنظر متعجّبا إلى كلّ الأتلام التي اختطّتها في وجهك التّجاعيد.

   أمّا أنا فلن أعجب إن أبديتَ لي امتنانك لحديثي عن خلقتك البشعة وصمتي عن خُلقك الأبشع بشأو. والسّبب هو هذا: فضلا عن كوني بطبعي غير ميّال إلى الخصام، ما زلتُ إلى عهد قريب أجهل، وبكلّ سرور، هل أنت أبيض أم أسود، وحتّى الآن لا أعرفك وحقّ هرقل* بما فيه الكفاية. والسّبب أنّك نكرة مغمور جرّاء انقطاعك لحياة الرّيف وانشغالي من جهتي بالدّراسة. هكذا حالَ خمول ذكرك دون وضع أحد لك على محكّ التّجربة، وأنا من ناحيتي لم أسع أبدا إلى معرفة سيّئات أعمال أيّ أحد، بل فضّلت دوما إخفاء عيوبي على تلقّط عيوب الغير. وأتتْ نتيجةُ ذلك وبالا عليّ ولصالحك، إذ اتّفق أنّ أحدنا يقف تحت الأضواء والآخر يراقبه من منطقة الظّلّ. فلا عجب أن تستطيع بهذه الطّريقة الحكم بسهولة من خفاء موقعك المظلم على ما أفعل علنا وأمام الملإ، بينما أنت في ضعتك التي تخفيك عن الأنظار وتنأى بك بعيدا عن الأضواء لا تظهر لي بالمثل.

 

17- قلّة عدد الخدم مفخرة لا مثلبة

   حتّى أنّي مثلا لا أعرف ولا أحاول أن أعرف إن كنتَ تستخدم أرقّاء لزراعة حقلك أو تتبادل بالأحرى هذه الخدمات مع جيرانك. بينما تعلم أنت أنّي عتقتُ في نفس اليوم ثلاثة أرقّاء في أوية*، الأمر الذي عابه عليّ محاميك بين أمور أخرى كشفتَها له بشأني، وإن كان قبل ذلك ببرهة وجيزة قال إنّي جئتُ إلى أوية برفقة عبد واحد. فليتك تجيبني كيف أمكنني انطلاقا من واحد عتق ثلاثة. إلاّ إن يكن هذا هو الآخر سحرا! أأقول إنّ هذا عمى وتعامٍ، أم ترى هو عادة الكذب المتأصّلة؟* "جاء أبوليوس إلى أوية برفقة عبد واحد له". ثمّ بعد النّقنقة ببضع كلمات: "عتق أبوليوس في أوية ثلاثة عبيد في يوم واحد". كان يمكن بالتّحقيق تصديق ذلك لو قال إنّي جئت مع ثلاثة عبيد وعتقتهم جميعا. بل حتّى لو فعلتُ ذلك، لماذا ترى العبيد الثّلاثة عنوان الفقر بدلا من اعتبار عتق ثلاثتهم أمارة الغنى؟

   قطعا أنت لا تعرف يا إمليانوس، كلاّ لا تعرف كيف تتّهم فيلسوفا، إذ تنعى عليه قلّة الخدم التي حتّى لو لم تكن حقيقيّة لكان عليّ التّظاهر بها طلبا للمجد. فأنا أعرف، لا فلاسفة فقط، بل ومعهم عددا من قادة الشّعب الرّومانيّ زادتهم قلّة خدمهم عزّة وفخارا. أما قرأ محاموك على الأقلّ هذه الأخبار: كان لمرقس أنطونيوس* أيّام قنصليّته ثمانية عبيد في البيت فقط، بل كان لكربون* مع كلّ نفوذه ما يقلّ بواحد عن هذا العدد، بل لم يكن لمانيوس كوريوس* صاحب السّجلّ الحافل بالانتصارات والذي اجتاز نفس باب المدينة على رأس ثلاثة مواكب نصر سوى تابعيْن لخدمته في المعسكر؟ هكذا كان لذلك الرّجل غالب السّابينيّن* والسّمنيّين* وبيرّوس* من الخدم أقلّ ممّا له من الانتصارات. أمّا مرقس كاتون* فلم ينتظر أن يتحدّث عنه الآخرون، بل كتب في خطبته أنّه لمّا انطلق إلى إسبانية كقنصل جلب من رومية ثلاثة خدم فقط. وبعد وصوله إلى بيت حكوميّ، بدا له العدد قليلا، فأمر بشراء غلامين من القصبة* لخدمة السُّفرة، وحمل خمستهم معه إلى إسبانية. لو قرأ بودنس ذلك، على ما يبدو لي، لتخلّى تماما عن هذا التّشهير بي أو لفضّل مؤاخذتي على الأرقّاء الثّلاثة باعتبارهم كثرة لا قلّة من الرّفاق لفيلسوف.

 

18- مدح الفقر

   ثمّ إنّه عاب عليّ كذلك الفقر، وهي تهمة يقبلها الفيلسوف مسرورا بل ويحبّ إعلانها أمام الملإ. فالفقر خادم الفلسفة الزّاهد القنوع مالك القليل خصيم الفخار المغني عن الثّروات اللّيّن العريكة البسيط العيش المشير بكلّ صلاح، لم ينفخ أحدا قطّ بالكبرياء ولا أفسد أيّا بالتّساهل ولا بلّده بالجبروت، لا رغبة ولا قِبَل له بملاذّ البطن والفرج. فإنّما اعتاد عليها وعلى مخاز سواها أبناء الأغنياء. ولو أحصيتَ كبريات الجرائم التي حفظتها كلّ ذاكرة إنسانيّة لن تجد ضمن مرتكبيها أيّ فقير، تماما كما لا يوجد عرضا أغنياء بين مشاهير الرّجال. بل أيّاً نُكبرْ على مكرمة نجدِ الفقر ربّاه من المهد.

   أقول إنّ الفقر كان عبر القرون الماضية مؤسّس كلّ المدائن ومبتكر كلّ الفنون، خِلوا من أيّ عيب وافي الحظّ من كلّ مجد، محلّ ثناء وإجلال لدى كلّ الأمم. الفقر هذا عينه هو الذي كان عند اليونان استقامة في أرستيدس* وحلما في فوكيون* وبأسا في إيبامِننْداس* وحكمة في سقراط وفصاحة في هوميروس*. وهو الذي وضع الأسس لسلطان الشّعب الرّومانيّ، واعترافا بفضله ما زال يقدّم حتّى اليوم القرابين للآلهة الخالدين في قدح وجفنة من الفخّار. ولو كان يجلس للحكم في هذه القضيّة قيّوس فبريكيوس* وغناطوس شبيون* ومانيوس كوريوس الذين مُهرتْ* بناتهم بسبب فقرهم من المال العامّ فرحن إلى أزواجهنّ حاملات مجد أُسرهنّ ومال الخزينة العامّة، أو بُبليكولا* طارد الملوك وأغريبّا* مُصالح الشّعب اللّذان أعدّ الشّعب الرّومانيّ جنازتيهما لقلّة مواردهما بجمع التّبرّعات بالدّوانيق، أو أتيليوس ريقولوس* الذي زُرع حقله الصّغير على نفقة الدّولة لقلّة ذات يده هو الآخر، أو أخيرا لو بُعثتْ للحياة فترة وجيزة لسماع هذه المحاكمة تلك السّلالات العريقة منجبة القناصل والرّقباء والقادة المظفّرين، أتجرؤ على تعيير فيلسوف بالفقر بين قناصل فقراء؟*

 

19- مضرّة الغنى المفرط

   أم هل يبدو لك كلوديوس مكسيموس سامعا متسامحا لتهزئتك الفقر لأنّ القدر منّ عليه بثروة وافرة واسعة؟ تخطئ يا إمليانوس ولا يجديك قطّ هذا التّفكير إن تقسْ قيمته بإنعام الحظّ لا بمنظار الفلسفة المتفحّص، إن لم تر رجلا بمثل جدّ نهجه في الحياة وخدمته الطّويلة أميلَ إلى يُسر الحال المنضبط منه إلى الثّراء المتسيّب ويجد في الحظّ ثوبا أنيقا أكثر ممّا هو طويل، إن لم يحمله لابسه بل جرّه فهو أيضا كرفل الرّداء تماما يتدلّى أمامه فيعرقله ويدعثره. ولا غرو ففي كلّ الوسائل المستخدمة لأداء شتّى وظائف الحياة يعود كلّ ما زاد عن الحدّ المعقول بالمضرّة لا المنفعة. لذا فالثّروة الطّائلة كالدّفّة الضّخمة العملاقة تُغرق أكثر ممّا تقود. وفْرتُها لا تنفع وزيادتها عن الحدّ تضرّ. وإنّي لأرى الأخلق بالثّناء بين أولئك الأغنياء من يعيشون عيشة وسطا بدون ضجّة ولا استعراض لأموالهم، ويتصرّفون في ثرواتهم الضّخمة بدون تبجّح ولا تكبّر، متشبّهين في نمط عيشهم بالفقراء. فإن كان الأغنياء أنفسهم يطلبون من باب التّواضع والوسطيّة، مظاهر الفقر وسماته، لِم يخجل به من خبِره لا كمظهر متكلّف بل كواقع فعليّ؟

 

20- الفقر والغنى الحقيقيّان

بإمكاني هنا حقّا مجادلتك حول تسمية الفقر أصلا. فما بالفقير حقّا من لا يحبّ الكماليّات ويملك الضّروريّات، التي هي وفق الطّبيعة قليلة جدّا*. فإنّما يملك الكثيرَ من يبتغي القليل، ويملك قدر ما يبتغي من يبتغي الحدّ الأدنى. لذا يحسن أن يقدَّر ثراء الإنسان بالنّظر إلى نفسه لا إلى أملاكه وأرباحه. فإن يك من حرصه في عوز، وفي لهفة على الرّبح أيّا كان مصدره، ولا تُشبع جشعه جبال من الذّهب، بل يظلّ دوما يستزيد ليضمّ شيئا إلى رصيده السّابق، فذاك حقّا هو الإقرار بالفقر*. لأنّ الرّغبة في امتلاك أيّ شيء تنبع من فكرة الاحتياج، ولا يهمّ حجم ما ينقصك. لم يكن لفيلوس* قدر ما لإيليوس*، ولا لإيليوس قدر ما لشبيون* ، ولا لشبيون قدر ما لكراسّوس ديوَس* لكن حتّى كراسّوس لم يكن يملك قدر ما يشتهي. هكذا رغم تفوّقه على الجميع تفوّق عليه جشعه وهو يبدو غنيّا للجميع إلاّ لذاته. بينما لم يكن الفلاسفة الذين ذكرتُ يريدون فوق ما يملكون، بل تطابقت رغائبهم مع وسائلهم، فعاشوا بحقّ في سعة وسعادة. تجعلك شاهية التّملّك فقيرا والقناعة غنيّا: فسمة الفقر الرّغبة وسمة الغنى الشّبع. فإن شئتَ يا إمليانوس اعتباري فقيرا لا بدّ أن تعلم قبل ذلك أنّي أحرص على امتلاك المزيد. لكن إن لم يكن يعوز نفسي شيء، فلا يضيرني كم ينقصني من الأشياء الخارجيّة التي ما وفرتها بمحمدة ولا ندرتها بمذمّة.

 

21- محاسن الفقر

   لكن لك أن تدّعي إن شئتَ أنّ الأمر غير ما أقول وأنّي إذن فقير، لأنّ الحظّ ضنّ عليّ بالثّروة، وكما يحصل عادة أنقصها كفيل أو انتزعها عدوّ أو لم يتركها لي أبي أصلا. أفيعيَّر الإنسان بالفقر، وهو ما لا يعاب على أيّ من البهائم، لا على النّسر ولا الثّور ولا الأسد؟ إن أوتي الجواد من القوّة ما يجعله رَكوبا مريحا وعدّاء لا يكلّ، فلا أحد يعيب عليه نقص العلف. أفتعيب عليّ ويحك لا انحراف فعل أو قول صدر منّي بل سكناي بيتا بسيطا، وضآلة ممتلكاتي، وتقشّفي في مأكلي، وتواضع ملبسي، وقلّة مؤني؟ بالعكس أرى هذه الأشياء، مهما بدتْ لك دون حدّ الكفاف، وفيرة وفوق الحاجة، وأودّ حمل نفسي على الاكتفاء بأقلّ منها، وسأكون أسعد بقدر ما أقلّصها. فإنّ صحّة النّفس تُكتسب كصحّة البدن: يحزّ الضّعف فيها حزّ المنشار، وإنّها لعلامة لا تخطئ على الضّعف أن تكون بنا حاجة إلى كثير من الأشياء. وفي الحياة تماما كما في السّباحة الأفضل هو الأخفّ حملا. والشّأن مماثل في زوبعة الحياة الإنسانيّة حيث يعوم خفاف الأحمال ويُغرق ثقالها. من هذه الحقيقة صرتُ أعلمُ جيّدا أنّ الآلهة متفوّقون على البشر بما لا يقاس لأنّهم لا يحتاجون إلى امتلاك شيء. لذا فأشبهنا بالإله مَن منّا بحاجة إلى أدنى قدر من الأشياء.

 

 

22- الرّدّ على تعييره بالخُرج والعصا

   لذلك امتننتُ لمّا قلتَ تشتمني إنّ ثروتي خُرجُ وعصا ( المتسوّل). ألا ليت لي نفسا عالية الهمّة تجعلني لا أطلب فوق ذاك المتاع شيئا وأحمل بعزّة وكرامة نفس الحلية التي اتّخذها كراتس* بعد تخلّيه عن ثرواته بمحض إرادته. وكراتس هذا، إن تصدّق قولي يا إمليانوس، سليل أسرة عريقة من صفوة أثرياء طيبة* لحبّه العدّة التي أنكرتَ عليّ وهب الشّعبَ ثروته الواسعة الوافرة، وتخلّى عن كلّ خدمه واختار الوحدة، محتقرا من أجل عصاً أشجاره المثمرة الكثيرة، ومستبدلا ضياعه الغنّاء بخرج قميء مدحه فوق ذلك بعد اكتشاف فائدته بشعر محرّفا لهذا الغرض أبياتا لهوميروس يشيد فيها بجزيرة كريت، سأذكر مطلعها كيلا تفكّر أنّي اختلقتُ هذه الأخبار لغرض المرافعة:

   "هناك مدينة تدعى "الخرج"* وسط دخان بدكنة الخمر"^.

   تلي ذلك أبيات أخرى رائعة لو قرأتَها لحسدتَني على الخرج أكثر من حسدك لي على زواجي ببونتلّة. أفتعيب على الفلاسفة الخرج والعصا، وعلى الخيّالة طوق الاستحقاق وعلى المشاة الدّروع وعلى حملة الألوية البيارق، وعلى القادة المنتصرين عربة النّصر بجيادها البيض والرّداء الموشّى بالسّعف؟ ثمّ إنّ تينك الشّارتين لا تخصّان في الواقع الأفلاطونيّين بل تميّزان الكلبيّين. فالخرج والعصا لديوجين وأنتستنس* كالتّاج للملوك والطّيلسان للقادة والبُردة للكهنة والمنسأة للعرّافين. وقد راح ديوجين الكلبيّ في نقاشه الشّهير مع الإسكندر الكبير* حول حقيقة سلطانه يفخر على الصّولجان بعصاه. أخيرا، ما دمتَ تجدهما حقيرين وحكرا على المتسوّلين، هذا هرقل الذي لا يُغلب، أقول: هرقل نفسه جوّاب الأقطار ومطهّر الأرض من الوحوش وقاهر الأمم، والإله أخيرا، لمّا كان يطوف البلدان، قبيل قبوله في السّماء في مصافّ الآلهة جزاء مآثره، لم يكن يرتدي سوى جلد ولا يرتفق سوى عصا.

 

23- إمليانوس نفسه محدث نعمة

   فإن كنت تجد هذه الأمثلة كأفٍّ، ودعوتَني في واقع الأمر لا إلى محاكمة بل إلى جرد أملاكي كيلا يفوتك منها شيء، على افتراض أنّ شيئا منها فاتك، فأعترف أنّ أبي ترك لي ولأخي قرابة مليوني درهم* استهلك منها جزءا غير ضئيل ترحالي المستمرّ ودراساتي المتواصلة وإكراميّاتي المتكرّرة. إذ قدّمتُ العون لأكثر من صديق، وكافأتُ الكثيرين من معلّميّ باذلا كذلك من مالي لزيادة مهور بناتهم. وما كنتُ لأتردّد لحظة قطّ في إنفاق كلّ ثروتي للحصول على ما هو أهمّ من المال الذي لا يُعتدّ به.

   أمّا أنت يا إمليانوس وقبيلك من العلوج الأجلاف فتساوون قدر ما تملكون، كشجرة خبيثة عقيم لا تؤتي أُكلا، فقيمتها تساوي ثمن ما في جذعها من الخشب. ألا توقّفْ يا إمليانوس بعد كلّ ما تقدّم عن التّعريض بفقر غيرك، أنت الذي ظللتَ في عهد غير بعيد تحرث وحدك ببرذون قميء تحت المطر المتواصلة ثلاثة أيّام حقلك بزارات* الذي ما ترك لك أبوك سواه. إذ لم يمض زمن طويل مذْ دعمتْ وضعَك ميتاتُ ذويك المتتابعة بتركات آلت إليك بغير استحقاق أُطلق عليك جرّاءها لا جرّاء وجهك البشع اسم خارون*.